سياسة

لمحات عن تجربة الاستعمار الألماني في أفريقيا

د. مختار بلال عبد السلام

كان لألمانيا طموح استعماري كبير في القارة الأفريقي لاسيما  فترة التدافع الأوروبي نحو أفريقيا «The Scramble for Africa» بسبب التنافس بين القوى الأوروبية العظمى على الموارد الأفريقية من أجل الحصول على مكانة في الساحة الدولية، حيث  كانت بعض الدول الأوروبية تطمع تركة الإمبراطورية العثمانية الضعيفة. لم يقتصر السباق نحو أفريقيا على القوى الاستعمارية العظمى مثل بريطانيا وفرنسا، ولكن هناك دول أخرى ولدت لديها طموحات كبيرة ، مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.

استضافت ألمانيا مؤتمر برلين في نوفمبر 1884 حيث حضرت 14 دولة المؤتمر.(1) وعلى الرغم من أن فترة التدافع من أجل أفريقيا تميزت بوقوع حوادث انتهاكات لحقوق الإنسان ، فقد احتوى مؤتمر برلين على إعلان يحظر تجارة الرقيق.

في السودان لم يكن لألمانيا وجود واضح ولكن غردون باشا الذي عينته المملكة المصرية في عهد الخديوي اسماعيل باشا حاكما لمديرية خط الاستواء عام 1874 قم بتعيين بعض الاوروبين في إدارة السودان كان من ضمنهم  الألماني إدوارد كارل أوسكار تيودور شنيتسر، وهو طبيب ألماني من أصل يهودي أصبح يُعرف فيما بعض باسم أمين باشا وكان هو  الرجل الذي خلف غوردون في حكم المقاطعة الاستوائية. يقال إن شنيتسر أعجب بالإسلام ثم غير اسمه إلى أمين. والتفسير الأكثر ترجيحًا هو أنه استخدم هذا الاسم للعمل كطبيب في تركيا منذ عام 1864 لتجنب حدوث مشاكل مع الأتراك المسلسمن حيث كان يعمل مع طاقم  الوالي إسماعيل حقي باشا. فيما يتعلق بتغيير اسمه ، كتب إلى أخته من طرابزون بتركيا في عام 1871 قائلاً: «لا تقلقوا ؛ لقد تبنيت الاسم فقط ، لم أصبح تركيًا». يبدو أنه لم يتخل عن المسيحية لأنه شجع لاحقًا الجمعية التبشيرية الكنسية على إنشاء محطات إرسالية في  مديية خط الاستوائية،  كما قدم دعمًا ماليًا لجماعة تبشيرية هناك. (1)

انضم أمين باشا في البداية إلى الحاكم العام بالخرطوم. ثم عمل رئيسًا طبيًا في الاستوائية حيث التقى هناك بغوردون. اختاره غوردون حاكما لمديرية خط الاستواء عندما كان حاكماً عاماً  للسودان في مارس 1878. وبصرف النظر عن عمله الإداري والطبي ، قام أمين باشا بعمل علمي  مميز حيث قام بإرسال آلاف العينات من النباتات والحيوانات إلى المتاحف في أوروبا مع إبداء ملاحظاته الدقيقة عليها. كما قام بنشر العديد من المقالات على نطاق واسع للمراسلين حول العادات والتقاليد واللغات والجيولوجيا المحلية في منطقة الاستوائية. على الرغم من ذلك ، ظل أمين باشا مثار شك بالنسبة للباحثن في التاريخ والسياسة في أنه  ربما كن ينتمي إلى بعض جماعات المصالح في أوروبا. فقد كان أمين باشا موهوبًا في العديد من فروع العلم والطب والعلوم الطبيعية والإدارة ومولع بحب الاكتشاف والمغامرات كما أتقن العديد من اللغات مثل الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والعربية والفارسية واليونانية وبعض اللغات الأفريقية. مثل هذه الصفات حينما تتوفر في شخص أوروبي في عصر «التدافع من أجل إفريقيا» تظهر العديد من الدوائر للاستفادة منها.  وفي هذا الصدد يقال إن أمين باشا كان يخطط لمساعدة الألمان للاستيلاء على منابع النيل في أوغندا قبل أن يتمكن البريطانيون من الوصول إلى هناك ، لكن البريطانيين تمكنوا من جعل أوغندا محمية ، مما سهل مهمتهم.

عندما اندلعت الثورة المهدية في 1881م ، تمكن أمين باشا من الصمود في الاستوائية حتى قرر أخيرا الاستسلام في عام 1884 قبل سقوط الخرطوم. يقال إنه غير رأيه في اللحظة الأخيرة وتوجه جنوبا إلى وادليلي (وهي قرية في شمال أوغندا على نهر ألبرت النيل وكانت آخر محطة رئيسية لأمين باشا عندما كان حاكما على الاستوائية) بجميع  أفراد حاميته التي يبلغ قوامها عشرة آلاف شخص. كان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت اللورد سالزبوري مترددًا في إرسال إغاثة له واعتقد أن الألمان أولى بالمبادره لانقاذه ولكن الحكومة البريطانية استجابت للمصلحة العامة أخيرا وتم إنشاء لجنة للإغاثة. تم تكليف هنري ستانلي بهذه المهمة. كانت حملة الإغاثة أشبه بجيش ينطلق لغزو عسكري أكثر من كونه حملة إنقاذ ، الأمر الذي يكشف عن الهدف الحقيقي للمهمة. بصرف النظر عن ذلك، كان ستانلي تحت قيادة الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا لأغراض أخرى مرتبطة بدولة الكونغو الحرة التي كانت أحد أبرز موضعات مؤتمر بريلن 1884. كما نظرت لجنة الإغاثة في فتح البلاد من الساحل إلى أوغندا لزيادة إمكانيات التجارة. التقى ستانلي بأمين أخيرًا في أبريل 1888 ، وتم إنقاذه. ثم دخل أمين في خدمة شركة شرق إفريقيا الألمانية (منظمة استعمارية تهدف إلى إقامة أراضي ألمانية في شرق إفريقيا) ورافق الضابط الألماني الدكتور ستولمان ، الذي كان عالمًا طبيعيًا وعالمًا في علم الحيوان ومستكشفًا، في رحلة استكشافية إلى البحيرات في الداخلية. الشيء الذي يرجح كفة الادعاء بأنه كان يعمل لدى دوائر أوروبية معينة عندما كان في جنوب السودان. (3)

أما تجربة الاستعمار المباشر لألمانيا فقد كانت في شرق أفريقيا في تنزانيا وفي وسطها في مناطق البحيرات في رواندا وبورندي وغربها في الجابون و الكاميرون  وفي الجنوب في ناميبيا، وكانت تجربة.

يشير الدكتور محمد بدوي في كتابه  الذي صدر مؤخرا «في حياتنا أسماء» الى أن التجربة الألمانية في تنزانيا وناميبا كانت الأكثر وحشية وتضمنت ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. ويتحدث الكاتب في فقرة «ألمانيا وتاريخها الاستعماري في أفريقيا» عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي مارسها اللأمان في تنزانيا خلال فترة  فيما يسمى  «حرب ماجي ماجي»، وهي نتفاضة شعبية ضد المستعمر الألماني خلال سنوات 1905-1907 قوبلت بقمع عنيف من اللسطات الألمانية. وقد طالب السفير التنزاني ببرلين مؤخرا الحومة الألمانية بالإعتراف بهذه الانتهكات ودفع تعويض لحكومة بلاده.

كما تناول الكاتب ايضا ارتكاب الأمان خلال فترة الاستعمار الاستيطاني لناميبيا لـ»إبادة جماعية ضد شعبي «هيريرو وناما»، حيث توصلت الحكومة الالمانية أخيرا وبعد مفاوضات شاقة  مع حكومة نامبيا استمرت لمدة خمسة سنوات وانتهت في مايو الماضي على مبلغ للتعويض . وقررت الحكومة الألمانية استثمار حوالي 1.1 مليار يورو في مشاريع اعادة الإعمار والتنمية في ناميبيا على مدى الثلاثين عاما القادمة كعلامة للاعتراف «بصورة غير رسمية» بما سببه الألمان لمعانه لشعب ناميبيا.(4) ونلاحظ هنا أن ألمانيا وان لم تقم بالاعتراف المباشر بارتكاب هذه المجازر الا انها قامت بخطوة جرئية لم تقدر عليها دول لها ماضي استعماري عريض مثل المملكة المتحدة وفرنسا.

واخيرا فإن تجربة الاستعمار البريطاني في الكاميرون هي تجربة فريدة وجديرة بالدراسة. في البدء اكتشفت سواحل الكاميرون الجنوبية الغربية بواسطة البرتغاليين في القرن الخامس عشر ولكن لم يتمكنوا من التوغل الى الداخل ، وقد لاحظو أن السواحل الرميلة مليئة بالجمبري فاطلقوا عليها نهر الجمبري «Rio dos Camarões» والتي أصبحت  الكاميرون فيما بعد. عقد القناصل الألمان اتفاقية مع السلطات المحلية ممثلة في الملك بيل والملك أكوا للتنازل عن السيادة في مدينة دوالا  الساحلية عام 1884. وقد أغروا السلطات المحلية باستخدام العملات الأوربية و الذهب والفضة لزيادة التبادلت التجارية مع المانيا، وبالفعل حدثت طفرة نوعية للكاميرون في فترة وجيزة حيث انضمنت الكامريون لجمعية البريد العالمي عام 1887 وأضفت  طوابعها البريدية المميزة بالنكهة الأفريقية طعما خاصا على هيئة البريد العالمي. حدث هذا قبل مائة عام من فوز الأرجنتين بكأس العالم للمرة الثانية في المكسيك عام 1986 وإصدار الارجنتين لطوابع بريدية تحمل صورة مارادونا عام 1987م.

في أبريل من هذا العام، وعند زيارتي للمتحف العام بمدينة دوالا المقام بالقرب من مباني الميناء القديم ، لفت انتباهي صور للملك أكوا والملك بيل قبل وبعد الاتفاق مع المانيا حيث بدا  بعد توقيع الاتفاق في بدلة فارهة، وحلة كاملة، بعد أن كان يرتدي المابس التقليدية. كما تظهر الصور مجموعة جميلة من الطوابع البريدية الكاميرونية الصادرة في العام 1887 وصور أخرى بمدينة دوالا تظهر المرفأ وصور لفنادق ومستشفى ومدارس على طراز حديث في أوائل القرن العشرين. مما يشير إلى أن الاستعمار الألماني اتخذ منحى تنمويا وحضريا بخلاف المستمرات الفرنسية التي لا تترك كثيرا من البنى التحتية بعد خروجهم وتترك فقط نشر ثقافة وعادات دخيلة على نمط اشاعة فكرة استيعاب « assimilation»الدولة المستعمرة.  والأسوأ منه الاستعمار البرتغالي الذي عانت منه دول مثل موزمبيق وأنغولا والرأس الاخضر وساوتومي وبرنسيب في أفريقيا والذي جثم على هذه البلاد حينا من الدهر امتد لعدة قرون ولم يخرج الا متأخرا ولم يحلف وراءه سوى الجهل والتخلف والصراعات.

عقب هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1917، أصبحت الكاميرون  إقليمًا خاضعًا لانتداب (عصبة الأمم) قبل وضعها تحت إشراف الأمم المتحدة التي عهدت بإدارتها إلى فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لم تكن الكاميرون مستعمرة بحدّ ذاتها، من وجهة نظر قانونية، حتى لو أكانت القوتان المحتلتان تديرهما على هذا النحو. وفي عام 1948 تأسَّس UPC (اتحاد سكان الكاميرون)  والذي يحمل رمز الشعلة دلالة عى توحد الاقليم الفرنسي والبريطاني.

وقد حكم البلاد منذ استقالالها في عام 1960 فقط رئيسان هما أحمدو أهيجو، ثم بول بويا الذي يُحْكِم قبضته على السلطة منذ ما يقرب من أربعين عامًا. ويدور نقاش حول خلافته نظرا لكبر سنه وقائه معظم أوقاته خارج البلاد بفرنسا لتلقي العلاج.

هوامش:

• الدول التي شاركت في مؤتمر برلين هي  المانيا وبريطانيا وفرنسا واسبانيا والبرتغال والنمسا وايطاليا والمجر وروسيا والدنمارك وهولندا والسويد والنرويج والولايات المتحدة والإمبراطورية العثمانية.

  Bernard Verdcourt, «Emin Pasha – 1840–1892 – Collectors in East Africa», The Conchological Society of Great Britain and Ireland, 04/01/ 2012.

(3) جمال الشريف «الصراع الصراع السياسي على السودان 1840-2008» شركة مطابع صك العملة، الخرطوم، 2010م.

(4) حدثت الابادة بين عامي 1904-1908 عندما ثار شعبي ضد المستوطنين الألمان ، وأسفرت الأحداث عن مقتل حوالي 60 الف من ابنا شعب هيريرو و10 آالاف من شعب ناما / محمد بدوي مصطفى « في حياتنا أسماء وأحداث غيرت مسار التاريخ في العلم والسياسة والأدب والتاريخ»، دار ويلوز هاوس للطباعة والنشر، جوبا، جنوب السودان، 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق