ثقافة وفنمجتمع

الفكرة الجمهورية في ميزان العرفان

بدر الدين العتَّاق

هذا الموضوع يحتاج إلى تفاصيل أكثر عن ماهيَّة الحقائق العرفانية وضبطها بميزان العقل حين تدخل في اللاعقل فإما يعي وإما يتنحَّى كرامة للقلب ؛ وأعني بالعقل ليس خضوعها بمعطياته الجمعية الواعية لأنَّها خارجه  فلا تُقبل وِفقاً لمقدرته ذاتها على استيعاب روح العرفان من ضعفه ولبساطة تعامله مع رَاهِنِه الحياتي الروتيني منذ أربعة عشر قرناً مما أوهمه وسوَّل له أنَّ ما يعيشه هو الحق لا غير لطغيان وتقدم قدم المادة – العلم التجريبي – على مواربة تأخر قدم الروح ( العلم الروحاني ) فينكر كل ما هو خارق وكاسر للمعتقد الطاغي على العقل الجمعي الإنساني وبالتحديد العقل الجمعي الإسلامي؛ حين يتماشى وطبيعة نمط حياته؛ ويُصْطَلَحُ عليه بالفيزيقية أو علم الطبيعة – طبيعة الأشياء في شتَّى العلوم الحياتية – وعنه وطالما لا يقبله ولا يتقبَّله فيعارضه أشد المعارضة لدرجة ازهاق الروح لمفارقته إيِّاه وتحوله حاق اللاعقل؛ ويُصْطَلَحُ عليه في حالته الثانية العكسية بالميتافيزيقية وهو علم ما وراء الطبيعة أو هو علم الغيبيات أو قل : الروحانيات؛ وهنا التعريف بعنوان المقال هذا.

يعتقد العقل الجمعي الإنساني بضدية الأشياء وربما بضدية الأحياء أيضاً ويعيهما جيداً ويتعايش معهما في وئام تام بينما يعيش دوماً في صراع بين الإدراك الشفعي والإدراك الوتري؛ فالأول هو علم ومفهوم الضديات أو الزوجيات أو الثنائيات – أسماه الله بالقلم وفيه نزلت سورة القلم؛ وليس هو القلم المعروف لدينا حديثاً وقديماً والذي نكتب به عادة – وإدراكه  يكون بموجب العقل الحادث لنفهم نحن البشر وندرك ونتقرب ونعرف الله به منه في القرآن ؛ والثاني هو علم ومفهوم الوحدة الواحدة التي ليس لها ضد؛ أي متوافقة ومتناسقة ومنسجمة في ذاتها؛ وهي المقسومة أو المفتوقة من رتقها الأزلي القديم وظهرت أول ما ظهرت في الأحياء والأشياء ( تكوين الوجود في حيز البرأ والتصوير والتقدير ) ؛ ونصطلح عليها بوحدة الفعل والفاعل أي : ليس في الوجود قاطبة من ضديات والاختلاف بين الضد الزوجي الثنائي والوحدة الواحدة – الوتريات أو الوتري – اختلاف درجة لا اختلاف نوع فالنوع في العرفان يُمْتَنَع وإدراكه يكون بالقلب؛ حين لا يتسق الفهم الصُرَاح بموجب عقلانية العقل فيتقدم القلب ليحل محله مباشرة ‭{‬ إلاَّ لديه رقيب عتيد ‭}‬سورة ق؛ / الرقيب هو الشعور القلبي الفطري؛ وعتيد بمعنى جاهز ومستشعر ؛ فالقلب بمثابة قرن الاستشعار لمدركات الأمور  وفيه قال النبي عليه السلام : [ استفتِ قلبك ولو افتوك الناس وأفتوك ] وقال عليه السلام : [ البر ما اطمأنت إليه النفس؛ والاثم ما حاك في صدرك وكرهت إن يطَّلع عليه الناس ]  فالصدر يقصد به القلب العتيد الجاهز شعوراً فطرياً لتنبيه العقل؛ والنفس جِماع حالك /  لاتساع دائرة الاستيعاب لدرجة غير محدودة فيتسق ويتناسق مع الحقيقة الكبرى موضع وحدة الفعل والفاعل ( ليس لحركة الوجود وكينونته فعل فاعل أو مفعول إلاَّ الله صغيرها وكبيرها) ؛ وهنا كما لا يخفى على ذي عينين المساحة الواسعة بين العقلين موضع الخلاف والاختلاف بين القطيع البشري درجة ازهاق الأرواح بسبب اللافهم واللاقبول وبين العكس تماماً .

بإختصار ومما سبق؛ دخلت الفكرة الجمهورية في هذه الهوَّة المعرفية الضاربة في عمق المسافة بين العقلين؛ فكان ما كان وما هو كائن اليوم؛ وحدث ما حدث من ازهاق روح الأستاذ الأكبر محمود محمد طه؛ بسبب صراع الايدولوجية المستكان لها طيلة أربعة عشر قرناً والكاسرة لهذه الاستكانة .

أعطيكم مثالاً في المواجهة الفكرية بين المدرستين القديمة والجديدة :

الأستاذ؛ محمود محمد طه؛ لم يقل بسقوط الفروض نهائياً والصلاة تحديداً بل دعا لها وتمسك بها أشد التمسك – راجع الكتب الآتية له : رسالة الصلاة؛ الرسالة الثانية من الإسلام؛ لا إله إلا الله؛ طريق محمد؛ أخرى – لكن الغرض والمرض السياسي ضد الأستاذ طه وفكرته ( نقطة الصراع هنا لمَّا قالت القديمة طعناً في المدرسة الفكرية الحديثة لأدق معتقدات ومفاهيم العقل الجمعي المسلم بالذات وهو رفع الصلاة عنه شخصياً إلى جانب ما هو معروف ولا داعي لتكرار هنا؛ والقصد الأساس هو الاغتيال المعنوي والسياسي لشخصه وفكرته مبعث الإسلام من جديد بصورة مغايرة للمألوف ) هو الذي أوعز سياسياً وفكرياً أغلب الظن بإزاحته لأنَّه بالنسبة لهم يُمَثِّل قاطع طريق صحوي حداثوي ويجب ابعاده (  تجربة الحركة الإسلاموية السودانوية وإرساء دعائمها؛ النموذج الفاشل عملياً والناجح بالنسبة لبقية الحركات الإسلاموية العالمية التي تعمل وَكْدَها للسيطرة على زمام الأمور وإعادة تجربة السودان الفاشلة في دولهم وهيهات هيهات ) للمشروع الحضاري الإسلامي المجتر القديم في العصر الحديث؛ وهو المعارض الشرس له؛ لذا تم فيه ما هو معروف؛ وليس حال الحلَّاج عنه بمعزل .

الأستاذ طه يقول بصلاة الأصالة وهي صلاة الصِّلة بين العبد وربه؛ فيها يتلقَّى العلوم من الله كفاحاً وينال شريعته الفردية أو فرديته دون حجاب أو وسيط؛ وهذا المفهوم الجديد كسر عنق مفهوم التقليد القديم للمدرسة الفكرية آنفة الذكر فكان العداء والمعاداة وكانت العداوة  .

استطراد :

جاء في الأثر أنَّ حُيَيَّاً بن أخطب اليهودي الحبر المعروف لما تقدَّم لتضُرَب عنقه قيل له : إنك تعلم أن محمداً نبي الله ورسوله وموجود في كتبكم ؟ قال : نعم! لكن عداوته ما حييت؛ فضُرِبَتْ عنقه غير مأسوف عليه؛ قال تعالى : ‭{‬ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون؛ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ‭}‬ سورة الأنعام.

ذكرتها بمناسبة الشيء والشيء بالشيء يُذكر.

رجع الحديث :

من ناحية ثانية؛ لا أستبعد تأثُّر الأستاذ طه بأفكار ابن عربي والحلَّاج ( علومهما العرفانية اشراقية نورانية والأستاذ محمود محمد طه علمه العرفاني ربَّاني؛ بمعنى تربوي تعليمي وتوجيهي؛ يعلم الناس الكتاب وبما كانوا يدرسون ) وخلافهما لكنَّه أشد ايغالاً وأثراً في العرفان منهما بحكم الوقت ولا أشك مطلقاً في ذلك ؛ وحكم الوقت هو الفيصل بين قبيل المتصوفة جميعهم وليس للفقه هنا دور يُذكر ؛ ولا أحسب أنْ جعلهما من أساتذته اللذين تلقَّى العلم منهما ولا غيرهما مما يدور في الأذهان بعامة فهذا الأمر يأتي بالفضل الإلهي المحض لمن يجتبيه الله له قرباناً ووجاهة في الدنيا والآخرة ولا يتأتَّى بالتلمذة والمشيخة بين يدي الغير ؛  فهذا الرأي بعيد للغاية منه وليس ههنا موضعه من الشرح في العرفان لمن يعرف العرفان.

قمة الفلسفة لفكر الأستاذ طه تتجلى بوضوح في الروح وقدمَها المُتَنَزَّلَة اليوم في الوقت الراهن وكسر القداسة والرتابة في العلم الإسلامي الموروث القديم وأصحابه واتيانه بالجديد في التفريق بين القرآن المكي ذي الأصول المنسوخة وحان وقتها حين لم يحن لها من قبل في سلسلة التاريخ أن تنسخ القرآن المدني ذي الفروع الذي قامت عليه أصول الفقه والفكر الموروث طيلة الألف والأربعمائة سنة الماضية على أن تُنسخ منذ اليوم بحكم الوقت وتحكَّم تلك ؛ زد على ذلك؛ التفريق بين السنة والشريعة وبين مفهوم مصطلح المسلمين والمؤمنين وغيرهم الكثير.

أمر آخر؛ لم يظهر تيار للمتصوفة المسيحين لاحقاً بعد فيثاغورس وارسطاطاليس وافلاطون ببلاد اليونان أو الأغاريق بعامَّة وإن كانوا قد سبقوا الإسلام بزمان طويل؛ بل هو أصيل للغاية عند المسيحيين؛ اقرأ معي حباك الله من قوله تعالى : ‭{‬ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ‭}‬ سورة المائدة؛ وقال : ‭{‬ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاَّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها؛ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ‭}‬ سورة الحديد؛ – إن لم تخني الذاكرة فأنا استدر عطفاً من الذاكرة الخربة – لمن يقول بتأثير التصوف المسيحي على التصوف الإسلامي؛ أو بمعنى ثاني : التصوف العيسوى والتصوف المحمدي؛ وهذا باب طويل ليس تفصيله في هذا المقام لكن التصوف فيهم أصيل لبلوغهم درجات روحانية عاليه مقام الحواريين أنصار الله من عيسى بن مريم؛ عليه السلام؛ وليست قصة أصحاب الكهف عن الأذهان ببعيد ؛ قال تعالى :  ‭{‬ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ‭}‬ سورة الكهف .

لكن لدي سؤال : هل كان النبي محمداً عليه السلام متصوفاً  أم لا ؟ أترك الإجابة لكم .

لا تنتهي عندي ميزانية الفكرة الجمهورية عرفانياً وصاحبها الأستاذ محمود محمد طه؛ بهذه المقالة لأنَّها تحتاج إلى مصنف مخصوص عنها لا يتسع مقام المقال ههنا لكني أردت التعريف بها مختصراً ما أمكن ولأبين الفرق بين المدرستين ذات الفكرتين القديمة والجديدة – راجع أول المقال – التي لا تنتهي عند الأستاذ طه الرجل الربَّاني الذي يعلم الناس الكتاب وبما كانوا يدرسون؛ بل تتعداه إلى غيره من البشر إلى أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً؛ إذ أراها اليوم عرفانياً تحتاج إلى مراجعة عرفانية جديدة ودقيقة وتطوير بحكم الوقت فقد أزِف وقتها اليوم إلاَّ من باب التربية الروحية لأصحابها؛ إن لم تحل محلها فكرة إنسانية أكبر من ذاك المقام فهذا ناموس الله في الكون فنترقبه عما قليل فيظهر فضلاً إلاهياً محضاً لفرد جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق