
التشكيلي منير العيد … صرخة واحدة لا تكفي
بشرى بن فاطمة
شكلت لوحة الصرخة لادفار مونش منعرجا فنيا في تاريخ الفنون التشكيلية وبالخصوص مع التحوّل من الانطباعية إلى التعبيرية في مراحلها العميقة والداكنة والتي كانت فيها مبعث تجديد من حيث تفاصيل الفنون الإنسانية بمدارسها الكلاسيكية، فقد انطلقت من معاناة الفرد من خلال مفاهيمها المختلفة، ما جعل منها منفذا مختلف التصورات ومسارا مبتكر التعابير خاصة بتجسيدها لمعاناة الذات في واقعها وتضحية المجموعة في محيطها والتأثر بالعام والتأثير في الخاص وتلك الحلقة المتراكبة بين الذات الفردية والكتلة الجماعية التي تعقد حالاتها بناء على وحدة التجاذب والتناقض ما يحيلها إلى تباحث جملة من التفاصيل التكوينية ذات التداعيات النفسية والاجتماعية التي لا يمكن الوقوف فيها عند تفسير واحد لها بل نحو أكثر من تفسير ومعنى يتواجه فيه الفن مع الواقع وسوداويته، بالجماليات الفنية والأبعاد البصرية التي تحاكي كل واقع باختلاف مراحله الزمنية، ولعل هذه التفاصيل المختلفة في تفسيراتها استلهمه منها الكثير من الفنانين وأعادوا معها صياغة ذاتهم الفنية وتطويع ابتكاراتهم، ومن بينهم التشكيلي السوري منير العيد الذي قاس على صرخة مونش صرخات متتالية رسمها بين ثنايا الذاكرة الراسخة في توافقات الواقع وتناقضات التعايش، فهي رؤية بصرية جديدة ومعاصرة شكّلت فيها الصرخة رمزية مبتكرة، فإلى أي مدى نجح منير العيد في اقتباس فكرته وتوليفها مع صرخة مونش وأي ابتكار تعبيري أضافه إلى سياقات العمل؟
يوازي منير العيد بين القصة والموضوع ويستشرف المعنى في تلك الروابط الحادة والهادئة بين السرد البصري والاقتباس الفني ليصل إلى أبعد من ذلك الظاهر القاسي في تلاوينه العابثة بالصرخة والفزع والخوف ودلالاته الشعورية فهو يفعّل كل عناصره التشكيلية لطرح موقفه بصريا من الصرخة ومن رمزياتها الأبعد في مداه المفهومي.
فهو يتماهى مع العمل بذكاء مجرّب عايش المعنى في المعاناة ليصل نحوها بتلقائية مثل طفل يكتشف العالم المتداخل للصور ويداعب الألوان بنضج وبحكمة فرض عليها التعايش مع الطبيعة الأولى للوحة وتحمّل تناقضاتها المتوازنة بتآلف وتبصّر وتأمل يستميل كل الحواس لديه ولدى عناصره البصرية في العمل الفني العالمي الذي صاغه بترف فني بديع وبحكمة متبصّر شدّته دهشة الخوف وغاص بعدها في فزع واقعه المتفاعل مع فكرة الصرخة ليراها صرخات مختلفة كل حسب حالاته وانتمائه للوجع والمعاناة. في لوحته يعبّر منير العيد عن مقاصده التي تفاعل فيها مع تفكيك الملامح بالتركيز على الوجه وتعبيريته الرمزية التي تستحيل الى عناصر مختلفة منها عزة النفس والإباء، ما يمتن فكرة التعايش مع الاحداث والآلام والمعاناة والقفز عبرها نحو الحياة ولعل ذلك ما يُرى في العيون الثلاثة التي تعمق التحديق إلى المحيط فتخلق المفاجأة التي تقف ببشاعتها أمام الواقع في كل ما يحدث في الأوطان اما البقع الداكنة والمحمرّة تحت تلك العيون فهي تبدو مثل انعكاس لمرارة ما تمّت رؤيته من ذلك النزيف الدامي والألم الذي يفكك الأحداث المرهقة للنفسية، وهنا من الطبيعي أن يحمل الفم الكبير في تشكله الصرخة بحدتها وقوتها وبشاعة كل الواقع معها الذي اختصره وجود الرجل داخل الصرخة ليعبّر عن الصوت المكتوم المتخفي وراء الصرخة نفسها.
فاللوحة تكاد تصرخ من تعدّد الصرخات التي تجاوبت مع كل عناصرها وهي التي تعمّد العيد أن يضع فيها أمثولة المصباح مقطوع النور كتناقض يستفز العتمة والنور في آن إذ مهما حاولت كل العناصر الصراخ لن يسمعها أحد أو يتجاهلها الكل رغم كآبتها وحزنها المفزوع وخوفها وصراعها مع الأمل في تلك المساحات البيضاء وفي تلك الساعات التي توقّت الزمن على تقاربات الاختلاف بين القديم والحديث في التجريب البصري والتماهي مع الألوان برمزيات تكاد تستدرج المتلقي أبعد معها في تركيز حضوره المشارك في تلك الصرخة بكل دوي واتصال.
إن رؤية منير العيد حملته أبعد في الرمز من خلال تصوراته العفوية التي لامست شخوصه ببساطة استطاعت أن تحرّضه على التعبير وفقها كمنهج طيّع ومُطيع للتوافق والتآلف والتكامل الحر مع الصيغ البصرية ذات المعاني الحسية الصادقة والإنسانية المُعبّرة، وهذا التوافق خلق ألفة بينه وبين الحالات التي يعبّر عنها فمهما كانت غارقة في سوداويتها وعتمة القهر المحيط بها حاول أن ينتشلها ويتجاوز عنها السواد ويتقمّص معها حضورها في عمق الكون والحياة ما منح حضورها بهاء وحركة.
ولذلك أحكم توليفاته بين الأمكنة والأزمنة وحتى أبعد من خلال ألوانه وتدرجاتها الداخلية التي آلفت بشكل متوازن بين الرمزية والتعبيرية والتلقائية للعبور نحو العمق الفني للوحة بحثا عن مسارات الأمل وتشكّلاته الحسية ومدى تثبيته للهوية والانتماء لواقع معايشاته ومنطقته بكل أحداث واقعها.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
*لوحة الصرخة ادفار مونش 1893