
هيثم الفضل
جبریل إبراهیم وزیر مالیة السودان المؤتَّمن على أموال الشعب وإیرادات الدولة، بحسب صحیفة الانتباهة الصادرةالخمیس 8 ستمبر 2022 (یعترف) بإستثنائه لعربة إبن أخیه من سداد الجمارك، ویضیف إن الاستثناء لیس قاصراً على الحركات ولیس (بِدعة)، ولا نجد في هذا حرج ولا استغلال للنفوذ، ولا أیي شكل من أشكال الفساد .. إنتهى التصریح، ومن وجهة نظري الشخصیة فإن الرُجل لم یُجانب الحق ولم یقُل إلا ما یشرح ویُفصِّل حالة (أمانة) المسئول السوداني ونزاهته في یومنا هذا، وحال الأنظمة القانونیة والضبطیة والإداریة المنوط بها (الرقابة والتقویم والمحاسبة) في عُمق (المُستنقعات الآسنة) لخدمتنا المدنیة في زمن (الحكم الشمولي الإستبدادي) على مدى تاریخهُ القميء في السودان، وعبر كافة عهودهِ بما فیها عهد إنقلاب (عُشاق الموز) الأعرج المشئوم.
فجبریل إبراهیم بالفعل في مجال إعمال المحسوبیة وإستغلال النفوذ للحول دون حصول الشعب السوداني على إیراداته المُستحقة في جمارك عربة إبن أخیه لم یرتكب (بدعة) بل سار بكل ثقة وإطمئنان في درب من سبقوه، من الذین أحلوا مثل هذه التجاوزات التي وصلت نهایاتها دخول الحاویات المُدَّججة بالمخدرات والممنوعات التي لم تكن فقط معفیة من مُعاینة الجمارك، بل وصل الأمر عندما ضُبطت إلى صدور تعلیمات عُلیا بإدخالها وطمس كل المستندات التي تشیر إلى أصحابها وإكتفت الصحافة آنذاك بإختصار الأمر تحت عنوان (ضبط حاویات تابعة لنافذین في الدولة)، جبریل إبراهیم لم یكن ولن یكون مع الثورة السودانیة المجیدة التي إندلعت وإنتصرت بالتضحیات الجِسام لإرساء قیَّم النزاهة والأمانة والكف عن إهدار موارد البلاد والعباد، وإرتفعت معاوِّل شاباتها وشبابها لقبر مثل هذه الجرائم التي ینعتها جبریل بـ (العادیة) وغیر الخارجة عن الأعراف المعمول بها في مؤسسات دولة الفساد، وله الحق في ذلك فما زالت دولة (الهمبته) واللا قانون واللا أخلاق واللا نزاهة قائمة منذ 25 أكتوبر.
فلا تلوموا الرجل فیما یخوضُ فیه مع الخائضین، فلا مكان في زماننا هذا للنزاهة والأمانة والكفاءة والحكمة والوطنیة، وفي الحقیقة نحن نحتاج لمثل هذه الأفعال القبیحة لتتعرَّي وتتكشَّف أوجُه الفساد الخفیة، وتصبح عنواناً رسمیاً موثَّقاً ومُثبتاً لقناعات وأخلاقیات الذین (یهابون) الدیموقراطیة والحریة والسلام والعدالة من أمثال جبریل وأردول وغیرهم، لأن المسار الدیموقراطي بكل بساطة وعبر إرساء دولة القانون سیُحیل كل (التجاوزات العادیة للأنظمة الشمولیة) ومعها (البِدع) النهبویة إلى مزبلة التاریخ ومقاصل العدالة الناجزة، والتاریخُ لن یرحم.
إستعمل رسولُ الله صلى الله علیه وسلم رجلاً یُقال له إبن اللُّتیبیه لجمع أموال زكاة بني سلیم، فلما عاد ومعه المال قال للنبي (ص) : هذا مالكم وهذا (أهدي) إليّْ، فقال له رسول الله صلى الله علیه وسلم : (هلا جلست في بیت أبیك وأمك ونظرت هل یُهدى لك ؟)، هل كان إبن أخیك یا جبریل لو لم تكن (مُستئمناً) على وزارة المالیة أو غیرها من مراكز النفوذ والسُلطة بقادرٍ على إخراج عربته الخاصة بدون جمارك ؟، في إعتقادي إن جمیع النفعیین من الذین لا صلة لهم بفضیلة التفریق بین الحلال والحرام، یلهثون لهثاً هذه الأیام للحصول على أكبر قدر من أموال الشعب السوداني
المغلوب على أمره نهباً وظُلماً وبًهتاناً، لیقینهم أن هذه آخر أیام الشمولیات والأنظمة الإستبدادیة الراعیة للفساد والنهب وإستغلال النفوذ، فإن عُدنا إلى ما كُنا علیه في القریب العاجل مُنخرطین سویاً بسواعد الشرفاء الأوفیاء لبناء دولة النزاهة والمؤسسات والقانون (إنغلق) باب الثراء الحرام إلى الأبد على هؤلاء، ولا یساورني شك أنهم في ذلك سیكونون من المُتباكین النادمین، لذا لا نستغرب فیهم هذا التكالُب (المُتبجِّح) بـ (الإعتراف) و(المجاهرة) و(الإصرار) رامین عن عورتهم حتى دثار الحیاء الذي كان یتمسَّك به مُجرمي ونافذي المؤتمر الوطني المحلول بإمتناعهم عن الإعتراف والمُجاهرة.
المالِك الشرعي …!
(إن خروج القوات المسلحة والقوات النظامية من المشهد السياسي لا يعني مُطلقا إخلاء الجو (لهؤلاء) للحديث غير المسئول عن هذه القوات، وإن قناعة قادة القوات بإفساح المجال للحوار لا يعني (تطاوُّل) بعضهم، وخوضهم فيما لا علم لهم به، للأسف هؤلاء لم يتعلَّموا حتى الآن من تجاربهم ولم يعرفوا إلى اليوم الخيط الرفيع الذي يفصل بين (الحرية والفوضى)، وحديثهم عن هيكلة القوات المسلحة ما هو إلا (هترشه بلا وعي)، أن مثل هذا الحديث (ليس في مصلحتهم) ومن الأفضل أن يجِّودوا لوحهم، وأن لا يعودوا لمثله أبداً )، بحسب منصة الراكوبة أون لاين ما سبق تصريح منسوب للعميد أبو هاجة الذي اشتهر (بحساسيته) المُفرطة التي تفوق بكثير حساسية البرهان ذات نفسه، تجاه (أيي واحد يجيب سيرة الجيش والقوات النظامية) طبعاً باستثناء المدح والشُكر والثناء، فالرجُل (جنَّد) نفسهُ وبانضباط وإلتزام و(حماس) غريب مُتفرِّغاً لتدبيج الردود الصارمة وإرسال (التهديدات) المباشرة وغير المباشرة، لكل من تسوِّل له نفسهُ (الاعتقاد بأن الحرية والديموقراطية تتيح لهُ أن ينتقد القوات المسلحة أو أن يدعو إلى إصلاحها وإعادة هيكلتها، أو الخروج قيد أنملة من دائرة الثناء عليها في ما تقدمهُ من فضائل)، وما (لا علم لهُ بهِ) أن (كل) هؤلاء المُنتقدين الذين(لا يعرفون الخيط الرفيع بين الحرية والفوضى) كما جاء في تصريحهِ، هم في الأصل بالنسبة للقوات المسلحة والقوات الأمنية (أصحابها ومالكيها)، وهم في الحقيقة وحدهم من سدَّدوا بعرق جبينهم التكلفة المادية والمعنوية لوجودها ضمن منظومات وهياكل الدولة السودانية، نعم أنهم السودانيين الأوفياء الذين لا أظنهم بعد ستين عاماً ونيف من الاستقلال وقيام الدولة السودانية، كانوا في انتظار مَنْ يلفت انتباههم إلى أهمية احترامهم لجيشهم الوطني ومؤسساتهم الأمنية، فضلاً عن مّنْ يؤكِّد لهم ويلفت انتباههم إلى أهميتها وحيوية دورها في (بقاء) و(نماء) الدولة، هذا الرجل ظل على الدوام يعتبر أن الدعوة إلى إصلاح المؤسسة العسكرية (منطقة مُحرَّمة) يستحق الوالغ فيها التهديد والعقاب والاتهام بالعمالة واللا وطنية، ليس لشيء سوى أنه لا يرتدي البزة العسكرية ولا يحمل سلاحاً يستطيع أن يقاوِّم بفوهته الحق والحقيقة وما يلى ذلك من حقوق (المدنيين) المتمسكين بقيام دولتهم المدنية، وأبسطها الحق في حرية التعبير وإبداء الرأي (في كل شيء) يتعلَّق بمصلحة الوطن والمواطن طالما كان ضمن منظومات ومؤسسات الدولة بما فيها القوات والمسلحة والمؤسسات الأمنية الأخرى، وحتى لا يغضب أبو هاجة نضيف إليها كل المنظومات التي يصرف عليها المواطن كدافع للضرائب لتعمل ضمن هياكل الدولة، ومنها منظومة التعليم والصحة والزراعة والصناعة والتنمية الاجتماعية والإعلام الرسمي للدولة وغيرها الكثير، كل تلك المنظومات هامة وإستراتيجية وأدوارها ضرورية أيضاً في (بقاء ونماء الدولة السودانية)، وهي بأية حال لن تُستثنى من الانتقاد ودعوات الإصلاح وإعادة الهيكلة إذا لزم الأمر، شأنها شأن القوات المسلحة والمنظومات الأمنية.
ثقافة (عُلو) الجيش والمنظومات الأمنية على مؤسسات وقطاعات الدولة الحيوية الأخرى، هي محطة تجاوزها الشعب السوداني عبر تطلِّعهِ لإرساء نظامه السياسي المدني الديموقراطي، (وللذين لا يعلمون) هو نظام يُتيح الانتقاد ويفتح أبواب الحوار لمناقشة كل محظور، وكشف كل مستور خلف غياهب جريمة (حظر) حرية التعبير، هيكلة الجيش والقوات النظامية ضرورة تقتضيها المصلحة (المهنية) لتلك المؤسسات التي أُنشئت للعمل تحت (إمرة) الحكومات المدنية التي يختارها الشعب، وخروجها من دائرة العمل السياسي هو (الأصل)، وليس (هِبة) ولا صدقة يتبَّرع بها قادة الانقلاب للشعب السوداني الثائر، أما الشعارات العاطفية التي يتحامى بعضهم خلفها ومن أمثلتها التضحية بالأرواح في سبيل الوطن والمواطن فنُحيلهم إلى التضحيات الباذخة التي قدَّمها القطاع الطبي (دون منٍ ولا أذى) إبان تفشي جائحة كرونا، فدروب التضحيات من أجل الوطن وإنسانهُ عديدة ومفتوحة وليست حِكراً للجيش والمنظومات الأمنية فقط رغم تأكيدنا على مثولها في صفحاتٍ ناصعة سجَّلها تاريخ السودان القديم والمعاصر، ولن ننسى أن نقول (إن أكثر المُحبين والمُخلصين والحادبين على مصلحة القوات المسلحة وسائر المنظومات الأمنية هُم أولئك الذين يدعون بلا كلل ولا خوف ولا توجُّس إلى إعادة هيكلتها وتوحيدها والتفاني في إصلاحها) عبر ذات الإرث والمنهج والعقيدة التي شكَّلت اللبنات الأولى في بناء جيش السودان (المًستقل) 1954م) .