
رستم عبدالله عبدالجليل
في بلاد ذات حضارة عريقة، تدعى العربية السعيدة، كان العالم يتطور من حولها، ويقفز قفزات عملاقة نحو المستقبل المشرق الواعد بينما تنحدر هي نحو الضياع ، وتخطو خطوات مهولة للخلف. وحيث كان عب دالله يتوجع، ويقاسي الثالوث القاتل، ويشعر بالقهر اللامحدود وهو يشاهد الكم المهول من رشقات البؤس التي تهطل يوما بعد آخر على تلك البقعة السعيدة – جزافا. أخبار تتسرب عنوة، تنجح في كسر طوق العزلة، تتحدث عن عالم آخر خيالي متحضر وجميل!! يعود عبدالله متأخرا من حقله المحتضر الذي يقاوم نوبات الجفاف.. متعبا يدلف دارا متهالكة ،تعمد أمه التي غزت جسدها الناحل الأمراض، تضع حفنات من دقيق الذرة، في قدر يغلي، وتحركها حتى تنضج لتتحول إلى عصيدة ساخنة، تمسدها بيدها اليمنى، تصب في وسطها النزر اليسير من حليب الماعز – و هو كل ماتملكه- وتنادي على عبدالله وأخوته الخمسة، ثوان معدودة، يقضون على العصيدة، حتى صار القدر نظيفا يلمع، يصرخ عبدالله متذمرا:- أنا جائع، يا أمي! لم أشبع! الأم: لا يوجد المزيد من الحبوب لطحنها لكم، أنت تعلم لقد أخذ عامل الإمام معظم الغلة، ولم يبقوا لنا ما يسد الرمق، حتى الأنعام هي الأخرى ظلوا ينقضون عليها عاما بعد عام ،ولم يتبق لنا إلا هذه الماعز الهزيلة التي تتشبث بالحياة بضراوة لأجلكم في ظل هذا القحط والجفاف الناشب مخالبه بالأرض بقوة؛ لتمدنا بما تقدر عليه من حليب.
عبدالله: هذا ظلم الأرض والمحصول ! لاتكاد تكفينا فبأي حق يأخذوه؟!
يهرول لسقف الدار تسبقه دموعه، يناجي نجما يتلألأ في السماء، يتعاهدان على موعد…
تمر الأيام، وتمضي وئيدة متعبة ثقيلة، يتساقط الكثيرون بفعل الفقر والمرض.
تمتد أياد غليظة مكتنزة غاصبة، تنتزع المزيد من قوت ونقود الناس؛ تنطفئ أرواح كثيرة بفعل ذلك الجور الشائن.
حاول البعض التشبث ببعض الدقيق؛ ليسكت صراخ الجوع المنبعث من قعر بطون أطفاله، تسحق محاولتهم الجبانة، ويصبحون عبرة لمن يجرؤ على حلم الشبع! ذات نهار كالح وكئيب، ومن أعماق النفوس التواقة للانعتاق التي يتوارى خلفها متحفزا، يبعث الأمل بصيصا لايكاد يرى، وما كاد يطل برأسه حتى تلقى رفسة من قدم (عكفي) غاضب. غادر الأمل البلد حانقا، مسح يديه من الناس والبلد، أو هكذا تهيأ لهم، ألغى من قاموسه أشياء كثيرة: أحلام، وطن، شبع، طموح، عدالة، صحة.. مرت سنين منذ أن غادر الأمل في العام 1948م ويقال أن هناك من لمحه ذات حلم في العام1955م..
وفي ما أنا والناس المتلهفة نتخاصم ونتجادل، ونحن نلوك حقيقة تلك الواقعة، وكان قد مضى سبع خريفات مرت منذ فشلت محاولة العودة…
باغتنا الأمل،، نعم
ذات فجر جميل تساقطت فيه المزن غزيرا في ال26 من سبتمبر1962م. بزفرة أيلولية، أستنشق فيها الشعب عبير الحرية، مبللة بقطرات الفرح..
متوهجا مشرقا بهيا، راح سنا ذلك اليوم الوضاء يغمر الأرواح، ويضيء الفكر، وتنتشي الأرض وصرت أسمع بوضوح سيله الجارف دافر معاناة ووجع السنين.