
عبد العزيز كوكاس
رغم مرور أكثر من 23 سنة على رحيله.. لا زال شخص الملك الحسن الثاني يثير الانتباه إليه، ثمة جوانب كثيرة تستغوي الباحث وتستدرجه إلى دهاليزها.. وهناك موضوع مثير يرتبط بالحرب والموت والسياسة في علاقتها بحكم الملك الراحل..
منذ ألكسندر الأكبر حتى يومنا هذا تعتبر السياسة مرادفاً آخر للموت، والحرب هو البوابة التي تصنع الأمجاد والبطولات، والزعماء الكبار من هنيبال، ألكسندر إلى تشرتشل وهتلر ونابليون… صُنع مسارهم السياسي بالطعم المزدوج للموت والسياسة.
الحسن الثاني لا يخرج عن هذه الطينة، عاش حياته السياسية بقيم الفرسان.. حيث الموت هو فضيلة السياسة، وهو الرجل العاشق للحياة حتى النخاع، فكان القاتل والمقتول، حياة تراوحت بين الشهادة والاستشهاد في زمن مليء بالالتباسات.
كان الحسن الثاني مدبراً للموت والحرب والانقلاب تجاه معارضيه داخل المغرب وخارجه، لذلك لعب في المطبخ الموريتاني، وساهم في قلب نظام الزايير وحاول الإطاحة بالعقيد القذافي، وقلب كفة الصراع في الكونغو والطوغو، حتى بدعم أنظمة عسكرية دموية.. تلك لعبة الحرب، التي لم تكن أحزاب الداخل متفقة فيها مع نهج الملك الراحل، لأنه دعم أنظمة استبدادية، وأخرى عسكراتية.. لكنها بمعيار الحرب والسياسة جعلت النظام الملكي بالمغرب رقما أساسيا في معادلات الصراع حتى بين القوى العظمى. لم يكن الحسن الثاني صانعاً للموت فقط في السياسة، ليس هو المُعْدم لمعارضيه، الذين يُدخلهم القبور والسجون لإبراز تفوقه كحاكم لدولة ما بعد الاستقلال، ولكنه أيضا الملك موضوع الموت.. لقد تعرض لأكثر من محاولة انقلابية عنيفة أولاها في 1971 وثانيها في حادثة الطائرة في غشت 1972، التي كانت الأفظع حيث تعرضت طائرة البوينغ التي كانت تقل الحسن الثاني إلى وابل من رصاص الطائرات حتى اشتعلت النيران في محركاتها، بل إن لكويرة قام بهجوم انتحاري على طائرة الملك الذي نَجا بأعجوبة من الحادث..
في كل مرة كان الحسن الثاني يختلق الموت ليديم حياة عرشه، فمُجايلوه من زعماء الأحزاب السياسية، من معارضيه خاصة، كانوا يعرفون أن العديد مما ادعاه الملك الراحل من وجود مؤامرات تستهدف حياته، كان مختلقا لوأد الخصوم ليعيش الملك… لم تكن الانقلابات وحدها السبيل لقتل الحسن الثاني، بل كان هناك القناصون وكانت الصواريخ الموجهة لمحل إقامته، والمخططات التي تستهدف الاختطاف أو إحداث عطب بسيارة أو بطائرة.. فقد حكى الفقيه البصري للناشط المدني أحمد ويحمان أن الحسن الثاني تعرض لأكثر من 18 محاولة اغتيال كانت للراحل البصري اليد الطولى في أغلبها.
في كل مرة كان الحسن الثاني ينجو من الموت، كان ينتصر للحياة… يتقوى ويتجدد مثل طائر فنيق، حتى أصبح في باب «المستحيل قهره وإفناؤه»، ومن باب عبور دائرة الموت سالماً في أكثر من مرة، خلق الحسن الثاني هيبته وقوته ومجده السياسي.. وإعادة أسطرته باستمرار.
ثمة مناطق ظل من حياة الملك الراحل غير مكشوفة وتحتاج إلى الحفر الأركيولوجي المستمر، حيث كان فيها انقلابيا، دبَّر مكائد لقلب أنظمة حكم في إفريقيا: في الكونغو، الزايير، أنغولا، وليبيا.. وأدام الحياة على دكتاتوريين نفتهم شعوبهم أو ثورات مضادة إلى جحيم الموت الرمزي والمادي، وتمة لحظات كان فيها الملك الراحل موضوعا للموت حيث تعرض لعدة محاولات اغتيال منذ كان ولي عهد سنة 1958 بمطار الحسيمة وحادثة الحجاج الذي سدَّد بندقيته خمس مرات لقتل الأمير مولاي الحسن، مروراً بمؤامرة 1963 وصاروخ وديع حداد بمدريد وانقلابي الجيش في 1971 و1972.
لقد تآلف الحسن الثاني مع موته قبل الأوان، صادقه في الدروب السرية وشمّ رائحته على وسادة النوم، لعله لذلك كان لا ينام الليل إلا أقله، كي لا يخونه العمر أو رشاشة طائشة، وبالغ في اكتناز ملذات الحياة وأسرارها، ومن بوابة الموت صنع حياة حكمه، أدخل معارضيه جحيما هاديسيا، ولم تأخذه رأفة ولا شفقة اتجاه من اشتبه به فقط للتفكير في اللعب من وراء ظهره.. لذلك كلما نجا من الموت لبس بزته العسكرية وأضفي على ملامحه بعض القسوة، وفي الليل عانق مباهج الحياة، لذلك مات ميتة الفرسان، لم يخنه جسده على مرأى الجميع كما العديدين، مات شامخا ولم يطلع إلا الأقربون جدا على ضعفه الإنساني.. هذا مدخل برأيي لإعادة تسليط الضوء على جوانب معتمة من حياة الملك الراحل.