
ترجمة: محمد جاتم
تمثِّل هذه المقالات المنشورة تحت عنوان «L’envers et l’endroit»، والتي تتفرد مجلّة (الدوحة) في إعادة إحيائها، بترجمة جديدة ضمن ملفِّها الخاصّ، محاولةَ ألبير كامو الأولى في صياغة رؤية فكرية تجاه العالم، والذات، والفنّ، والحياة. وهي محاولة -وإن كانت «تفتقد إلى المهارة» كما وصفها كامو- اعتُبرت، من قِبَل الكثيرين، إعلاناً عن ميلاد مبدع كبير.
نُشِر الكتيِّب أوَّل مرّة في مدينة الجزائر، سنة (1937)، ثم في طبعة ثانية، مع تقديم مطوَّل قيَّم فيه الكاتب كلّ مسيرته الأدبية، سنة (1958). ولم تلقَ الطبعة المحدودة النسخ، في البداية، أيَّ إقبال، وكادت تسقط في النسيان، قبل أن يقرِّر كامو إعادة نشرها بعد طول إلحاح من أصدقائه، وطول عناد منه، كما يقول في مقدِّمته.
مقدّمة ألبير كامو
النصوص المتضمّنة في هذا الكتاب، كُتبت بين سنتَيْ (1935) و(1936)، كنت، حينها، في الثانية والعشرين من عمري. ثم نُشِرت، سنةً بعد ذلك، في الجزائر، في عدد محدود من النسخ. هذه الطبعة لم تعد متوفِّرة، ولطالما رفضت نشر طبعة جديدة.
لم تكن لهذا الرفض أسباب خفيّة، فأنا لم أتراجع عن أيّ شيء ممّا عبَّرت عنه في هذه النصوص، لكن شكلها بدا لي، دائماً، غير موفَّق. الأحكام التي تكوَّنت لديَّ، حينها، رغماً عني، عن الفنّ (وسأشرح ذلك فيما بعد)، منعتني طويلاً من تصوُّر إعادة النشر هذه. غرور، ربما، هذا الذي يجعلني أفترض أن كتاباتي الأخرى كانت موفقة. هل من الضروري أن أوضّح أن المسالة ليست كذلك؟ إنما أنا أكثر حساسية بخصوص هفوات «الظلّ والضياء»، مقارنةً بغيره من أعمالي الأخرى، والتي لا تخفى عني. كيف يمكنني تفسير ذلك إن لم يكن بالاعتراف بأن الأولى تعني وتفضح، بعض الشيء، الموضوعَ الأهمّ عندي؟ بما أن القيمة الأدبية لهذا العمل صارت محسومة، يمكنني الاعتراف، الآن، بأن قيمة الشهادة التي يحملها هذا الكتيّب مهمّة بالنسبة إليَّ. بالنسبة إليَّ؛ لكوني الوحيد المسؤول عمّا يتضمَّنه، ولأنني الملزم، أمامه، بنوع من الوفاء، أنا وحدي أقدِّر عمقه وصعوبته. بودِّي أن أوضِّح السبب. يدّعي بريس باران(1)، دائماً، أن هذا الكتاب هو أحسن ما كتبت. باران مخطئ، لا أقولها -وأنا أعلم مدى صدقه- بسبب ردّ الفعل المتسرِّع الصادر عن كلّ فنّان في مواجهة تطاول أولئك الذين يفضّلون ما كان على ما هو كائن، بل هو مخطئ لأننا، في سنّ الثانية والعشرين، ماعدا حالة الموهبة الخارقة، لا نكاد نعرف الكتابة. لكني أتفهَّم ما أراد العدوّ العارف للفنّ، وفيلسوف التعاطف، باران، قوله. كان يقصد -وهو محقّ- أن في هذه الصفحات، المفتقدة للمهارة، من الحبّ الصادق، أكثر ممّا في كلّ الأعمال التي تلتها.
كلّ فنّان يحتفظ، في جوهره، بنبع فريد يغذّي، طيلة حياته، ماهيَّته، وما يصدر عنه. حين يجفّ هذا النبع تتصلَّب العبقرية، تدريجيّاً، وتتشقَّق. إنها البقاع القاحلة من الفنّ، التي توقَّف ذلك المجرى الخفيّ عن ريّها. حين يصير الشَّعر نادراً، عاصياً، ويغطِّيه الشيب، يصير الفنّان ناضجاً من أجل الصمت أو المجالس الأدبية، وهما سيّان. أمّا أنا، فأعرف أن منبعي يوجد في «الظلّ والضياء»، في عالم الحاجة والنور الذي عشت فيه طويلاً، والذي تحميني ذكراه من الخطرَيْن المتعارضَيْن المحدقَيْن بالفنّان(2): النفور، والإشباع. بدايةً، الفقر لم يكن، أبداً، محنة في حياتي؛ فالنور كان يشملها بنعمه. تمرُّدي، نفسه، كان متبصِّراً بفضله. كان، في معظمه (يمكنني التصريح بذلك دون خداع)، تمرُّداً من أجل الجميع، ومن أجل أن تقوم حياة الجميع في النور. ربَّما، لم يكن قلبي مهيَّئاً، بشكلّ تلقائي، لهذا النوع من الحبّ. لكن الظروف أهَّلتني لذلك. لتصحيح لامبالاة طبيعية، وجدتني على مسافة متساوية بين الفاقة والشمس. الحاجة منعتني من الاعتقاد الخاطئ أن كلّ شيء في التاريخ، يسير على ما يرام تحت الشمس. فيما علَّمتني الشمس أن التاريخ ليس كلّ شيء. أن أغيّر حياتي، نعم، لا العالم الذي جعلت منه عقيدتي. هكذا، بدون شكّ، افتتحت هذا المسار المتعب الذي أنا عليه اليوم، حيث انطلقت، ببراءة، على خطّ توازن، أتقدَّم فيه بصعوبة، دون التأكُّد من بلوغ الهدف؛ بعبارة أخرى، أصبحت فنّاناً، إذا كان صحيحاً أنّ «لا فنّ بدون رفض، وبدون موافقة».
في جميع الحالات، إن الدفء الذي ساد طفولتي منعني من كلّ إحساس بالاستياء. عِشت في ضيق، لكن في نوع من المتعة، أيضاً. كان لديَّ إحساس بقوى لامتناهية؛ توجب عليَّ، فقط، أن أحسن توظيفها. لم يكن الفقر هو العائق أمام هذه القوى. ففي إفريقيا، البحر والشمس مجّانيّان. إنما كان العائق في الأحكام الجاهزة أو في الغباوة؛ إذ كانت أمامي كلّ شروط تطوُّر طبيعتي القشتالية التي تسبَّبت لي بالكثير من الضرر، والتي سخر منها، عن صواب، أستاذي وصديقي جان كرونييه(3)، وحاولت تقويمها بلا جدوى، حتى اللحظة التي أدركت فيها أن الطباع، أيضاً، حتمية. كان من الأفضل، إذن، تقبُّل الكبرياء الشخصي، واستغلاله بدلاً من اتِّخاذ مبادئ أقوى من شخصية المرء، كما يقول شامفورت(4). لكن، وبعد مساءلة ذاتي، يمكنني أن أؤكِّد أنه من بين عيوبي الكثيرة، لا يوجد العيب الأكثر انتشاراً بيننا؛ أعني الرغبة، السرطان الحقيقي الذي ينخر المجتمعات والمذاهب.
الفضل في هذه الحصانة الممتعة، لا يرجع إليَّ. أنا مدين في ذلك، أوَّلاً، لمحيطي الذي كان يفتقد كلّ شيء، تقريباً، دون أن يشتهي أيّ شيء، تقريباً. هذه الأسرة التي لم تكن تعرف حتى القراءة، أعطتني من خلال صمتها، وتحفُّظها، وكبريائها الطبيعي الهادئ، أسمى الدروس التي حصلتُ عليها، والتي يستمرّ مفعولها إلى اليوم. إلى جانب كلّ هذا، كنت منشغلاً، بالاستمتاع بهذه الأشياء، عن الحلم بشيء آخر.
مازلت إلى اليوم، عندما أرى حياة عائلة ثريّة، في باريس، أشعر بالشفقة حيال العزلة التي توحي لي بها هذه الحياة. هناك الكثير من الحيف في هذا العالم، لكنّ هناك نوعاً منه لا يُطرق أبداً، وهو المرتبط بالمناخ. وقد، كنت، دون علمي، ولمدّة طويلة، أحد المستمتعين به. تصلني، حيث أنا، مؤاخذات الخيّرِين الشرسين. فأنا أبدو كأنني أريد تصوير العمّال الفقراء كأغنياء، والبورجوازيِّين كفقراء، من أجل الحفاظ، لمدّة أطول، على العبودية السعيدة للبعض، وعلى السيطرة للبعض الآخر. لا، ليس هذا قصدي. على العكس من ذلك، عندما يقترن الفقر بحياة بلا أفق ولا أمل، والتي اكتشفتها في الضواحي الرهيبة لمدننا، عند بلوغي سنّ النضج، فإن هذا الإجحاف، الأكثر إثارةً للاشمئزاز، يصبح مستنفذاً. ينبغي القيام بأيّ شيء حتى يمكن لهؤلاء الإفلات من الإذلال المزدوج للبؤس والقبح معاً. ومع أني وُلدت فقيراً في حيّ عمّالي، لم أعرف معنى البؤس قبل التعرُّف إلى ضواحينا الباردة.
البؤس العربي الشديد نفسه، لا يمكن مقارنته بهذا الوضع، مع مراعاة اختلاف الأجواء. لكن، بمجرد التعرُّف على الضواحي الصناعية، أظنّ أن الإنسان يشعر بأنه مدنَّس إلى الأبد، وأنه مسؤول عن وجودها.
ألتقي، في بعض المناسبات، أصحاب ثروات لا يمكنني حتى تخيُّلها. لكن الأمر يتطلَّب مني جهداً كبيراً لفهم كيف يمكن للمرء أن يحسد هؤلاء الأثرياء. منذ زمن بعيد، عشت ثمانية أيّام مغموراً بنعَم هذا العالم؛ نمنا على شاطئ تحت أديم السماء، كنت أتغذّى على الفواكه، وأقضي نصف يومي في مياه خالية من البشر. تعلَّمت، في ذلك الوقت، حقيقة جعلتني أتلقّى، دائماً، مظاهر الرفاهية أو الاستقرار، باستهزاء، ونفاد صبر، وأحياناً بغضب. على الرغم من أنني أعيش، الآن، بلا قلق على المستقبل، أي في حظوة، لكنني لا أعرف كيف أتملَّك. ما أملكه، والذي يقدَّم لي، دائماً، دون سعي مني، لا أحتفظ منه بأيّ شيء. وهذا فيما يبدو ليس بسبب البذخ بقدر ما هو ناتج عن شكلّ آخر من البخل؛ أنا بخيل بهذه الحرِّيّة التي تندثر عندما تبدأ المبالغة في التملُّك. أعظم الكماليات لم تتوقَّف، بالنسبة إليَّ، عن التوافق مع نوع معيَّن من العوز. أحبّ المنازل العربية(5)، والإسبانية الخالية من أيّ اثاث. فالمكان الذي أفضِّل العيش، والعمل فيه، حيث لا أكترث للموت (وهذا شيء نادر) هو غرفة الفندق. لم أتمكَّن، أبداً، من الاستسلام لما يسمّى الحياة البيتية، التي غالباً ما تناقض الحياة الداخلية للشخص؛ السعادة المسمّاة (بورجوازية) تضجرني، وترعبني. هذا العجز عن التكيُّف لا يشكِّل أيّ مدعاة للفخر، فقد ساهم بقسط وافر في تغذية نقائصي. أنا لا أشتهي أيّ شيء، علماً أن هذا الاشتهاء من حقّي، لكني لا أحفل كثيراً برغبات الآخرين، وهو ما يفقدني بعض الخيال؛ أي اللطف. صحيح أني اتَّخذت حكمة لاستخدامي الشخصي: «ينبغي إعمال المبادئ في القضايا الكبرى، أمّا بالنسبة إلى الصغرى فالرفق يكفي».مع الأسف، نتَّخذ لنا حِكماً لسدّ الثقوب التي تعتري طبيعتنا الشخصية. الرفق الذي أتحدَّث عنه يسمّى اللامبالاة، وآثاره، فيما يبدو، ليست أقلّ روعة.
أريد التأكيد، فقط، على أن الفقر لا يفترض الرغبة، بالضرورة؛ ففي وقت لاحق، حين سلبني مرض خطير، مؤقَّتاً، قوّةَ الحياة التي كانت تحوّل كلّ شيء بداخلي، وعلى الرغم من الأعطاب الخفيّة والوهن الذي كنت أشعر به، عرفت الخوف والفتور، لكني لم أشعر، قطّ، بالمرارة. هذه العلّة أضافت، بلا شكّ، عقبات أخرى أشدّ خطورة، إلى تلك التي كانت متأصّلة فيَّ، لكنها، في النهاية، زكَّت الترفُّع، تلك المسافة الضئيلة عن الامتيازات الإنسانية التي وقَتْني من الغيظ. هذا الامتياز، عرفت، منذ مجيئي إلى باريس، أنه غير متاح للجميع. ومع ذلك استمتعت به بلا حدود، ولا ندم، وقد أضاء كلّ حياتي، حتى الآن، على الأقلّ. بصفتي فنّاناً، مثلاً، بدأت أعيش في افتتان؛ أي -بمعنى من المعاني- الجنة فوق الأرض. الكلّ يعلم أن العادة في فرنسا، اليوم، تقتضي من كلّ من أراد أن يدشِّن مسيرة أدبية أو أن ينهيها، اتِّخاذ فنّان موضوعاً للسخرية. من جهتي، لم تكن رغباتي الإنسانية، أبداً، «ضدّ ذلك».
الأشخاص الذين أحببتهم كانوا، دائماً، أفضل مني، وأسمى. الفقر -كما عرفته- لم يعلِّمني الكراهية، بل علَّمني نوعاً من الإخلاص، ومن المثابرة الصامتة. وإذا حدث أن نسيت ذلك، فأنا وحدي، مع نقائصي الكثيرة نتحمَّل المسؤولية لا العالم الذي ولدت فيه.
ولعلَّها، أيضاً، ذكريات تلك السنوات هي التي منعتني من أن أكون مكتفياً، أبداً، بممارسة مهنتي. هنا، أودّ التحدُّث، بأكبر قدر من البساطة، عمّا يسكت عنه الكُتّاب عموماً؛ فأنا لا أثير، أبداً، الرضا الذي يبدو أن الكاتب يشعر به أمام الورقة أو الكتاب الناجحَيْن. لا أعلم ما إذا كان الكثيرون يعرفون هذا الإحساس. بالنسبة إليَّ، لا أظنّ أنه سبق لي أن شعرت بأيّ نشوة من قراءة صفحة منتهية. بل سأعترف، بكلّ جدِّيّة، بأن النجاح الذي لاقته بعض كتبي، لطالما فاجأني. طبعاً، نعتاد على ذلك، فيما بعد، وبطريقة سيِّئة للغاية. مع ذلك، لازلت أشعر، إلى حدود اليوم، بأني مجرَّد متدرِّب لدى كُتّاب، أضعهم في المكانة الحقيقية التي يستحقّونها، وعلى رأسهم الكاتب الذي أًهديته هذه المقالات منذ عشرين سنة. للكاتب، طبعاً، أفراحه التي يعيش من أجلها، والتي تكفي لتغمره سعادةً. أمّا بالنسبة إليَّ، فهذه السعادة أجدها حين أضع التصوُّر الأوَّلي؛ أي اللحظة التي ينكشف فيها أمامي الموضوع، عندما تتشكَّل مفاصل العمل أمام حسّ يصير، فجأةً، متبصرِّاً، في تلك اللحظات الجميلة التي يندمج فيها الخيال، تماماً، مع الذكاء. هذه اللحظات تمرّ كما وُلدَت، ويبقى التنفيذ؛ أي العذابات الطويلة.
على مستوًى آخر، تعتري الفنّان بعض مباهج الغرور. فمهنة الكاتب، لاسيّما في المجتمع الفرنسي، هي، إلى حَدّ كبير، مهنة الغرور. أصرّح بهذا بلا ازدراء، مع بعض الأسف قليلاً. في هذه النقطة، أتشابه مع الآخرين؛ فمن يمكنه ادِّعاء خلوَّه من هذه العاهة المثيرة للاستهزاء؟ في نهاية المطاف، في مجتمع محكوم عليه بالحسد وبالسخافة، يأتي يوم يدفع فيه هؤلاء الكُتّاب، بعد أن يكونوا قد صاروا موضوعاً للسخرية، ثمن هذه الأفراح البائسة. لكن، وبصراحة، خلال عشرين سنة من الحياة الأدبية، لم تجلب لي مهنتي إلّا القليل من الأفراح المماثلة، والتي كانت تتناقص مع مرور الزمن.
أليست آثار الحقائق الواردة في «الظلّ والضياء» هي التي منعتني من الاستكانة في الممارسة العلنيّة لمهنتي، والتي دفعتني إلى كثير من حالات الرفض، ولم تسعفني، دائماً، في اكتساب الأصدقاء؟ عندما نتجاهل المجاملة أو التكريم، نعطي لصاحبها انطباعاً بازدرائه، في حين أننا، فقط، نشكّ في ذواتنا. بالمقابل، لو كنت أظهرت ذلك المزيج من الحدّة والمحاباة اللذين يطبعان المسيرة الأدبية، ولو أني بالغت، حينها، في التباهي، لكنت تلقَّيت المزيد من الوّد، لأنني، في النهاية، سأكون قد قبلت المشاركة في اللعبة. لكن، ما العمل؟ هذه اللعبة لا تثيرني! طموح ريبومبري(6)، أو جوليان سوريل(7)، غالباً ما يحيِّرني بسبب سذاجته وتواضعه. في حين أن طموح نيتشه، أو تولستوي، أو ميلفيل(8)، هو ما يشغل بالي، بسبب إخفاقاتهم، دون غيره.
لا أشعر، في أعماق قلبي، بالتواضع إلّا أمام أشكال الحياة الأكثر بؤساً، أو أمام المغامرات الكبرى للعقل البشري. بين الاثنين يكمن، اليوم، مجتمع مثير للضحك.
أحياناً، خلال افتتاح العروض المسرحية، وهي المكان الوحيد الذي ألتقي فيه بما يسمّى، بوقاحة، علية المجتمع الباريسي، أشعر وكأن القاعة ستختفي، وأن هذا العالم، في الحالة التي يبدو عليها، غير موجود. الآخرون، تلك الشخصيات العظيمة التي تصرخ فوق الخشبة، هم من يبدون حقيقيِّين. ولمواجهة الموقف، لابدَّ، إذن، من تذكُّر أن كلّ واحد من هذا النوع من الجمهور له، أيضاً، موعد مع ذاته؛ أنه يعرف ذلك، وأنه، بلا شكّ، سيتوجَّه إلى موعده بعد قليل. بعدها، على الفور، سيصير أكثر ألفةً. فالوحدة توحِّد أولئك الذين يشتِّتهم المجتمع. مع أخذ هذا بعين الاعتبار، كيف يمكن تملُّق هذا العالم، السعي وراء الامتيازات السخيفة التي يمنحها، والقبول بتهنئة كلّ الكُتّاب على كلّ كتبهم، والشكر العلني للناقد المحابي؟ لماذا محاولة إغراء الخصم؟ وعلى أيّ وجه، بالخصوص، ينبغي استقبال هذه المجاملات، وهذا الإعجاب اللذين يستهلكهما المجتمع الفرنسي – بمشاركة الكاتب، أيضاً، لأنه طرف- كما يُستهلَك شراب بيرنو، والمجلّات العاطفية؟ لا أستطيع القيام بأيّ شيء من كلّ ذلك، وهذه حقيقة. ربَّما يكون في هذا الكثير من الكبرياء السلبي الذي أعرف مداه وقوَّته في نفسي، لكن لو كان هذا وحده؛ أي لو تعلَّق الأمر بغروري، فقط، لكنت -على العكس من ذلك- أظهرت الاستمتاع بالمجاملات عوض أن أجد فيها انزعاجاً متواصلاً. لا، الغرور الذي أشترك فيه مع العاملين في مهنتي، أشعر أنه يتفاعل، بشكل خاصّ، مع انتقادات معيَّنة تحتوي على قدر كبير من الحقيقة. أمام المجاملة، ليس الكبرياء هو ما يمنحني ذلك المظهر الشحيح والجاحد الذي أعرفه جيّداً، ولكنه -علاوةً على اللامبالاة المترسِّخة فيَّ كعجز خِلْقي- إحساس خاصّ ينتابني: «ليس هذا ما أريده…» لا، ليس هذا. لذلك فإن السمعة، كما يقال، يصعب، في بعض الأحيان، تقبُّلها إلى درجة أننا نجد نوعاً من الفرح المتصنَّع في القيام بما قد يؤدِّي إلى فقدانها.
في المقابل، من خلال إعادة قراءة «الظلّ والضياء»، بعد كلّ هذه السنوات، أعلم، بشكل غريزي، أمام بعض الصفحات، ورغم نقص المهارة، حينها، أن هذا هو ما كنت أريده. تلك المرأة العجوز، والفقر، والضوء على أشجار الزيتون في إيطاليا، الحبّ المتوحِّد والمعمور، كلّ هذا يشهد، في نظري، على الحقيقة.
تقدَّمت كثيراً في العمر، منذ الوقت الذي كتبت فيه هذه الصفحات، وعرفت الكثير من الأشياء، تعرَّفت إلى ماهيتي، وعرفت حدودي، وتقريباً كلّ نقاط ضعفي، لكني عرفت القليل عن الناس لأن فضولي انصبَّ على مصائرهم أكثر منه على انفعالاتهم، كما أن المصائر كثيراً ما تتكرَّر. عرفت، على كلّ حال، أنهم موجودون، وأن الأنانية -إذا لم يكن بالإمكان التخلُّص منها- عليها أن تحاول أن تكون متبصِّرة. أن يستمتع المرء بذاته، أمر مستحيل؛ أعلم هذا، رغم المواهب الكثيرة المتوفِّرة لديَّ للقيام بهذا التمرين. إذا كانت الخلوة ممكنة (وهو ما أجهله) فسيكون لنا الحقّ في أن نحلم بها كفردوس. أنا، أيضاً، أحلم بها، أحياناً، لكن ملاكَيْن وديعَيْن منعاني، دائماً، من الدخول؛ أحدهما يُظهر وجه الصديق، فيما الآخر على هيئة العدوّ. نعم. أعرف كلّ هذا، كما تعلَّمت ما يكفي، أو يكاد، ما يكلِّفه الحبّ. لكن، بخصوص الحياة نفسها، لم أتعلَّم أكثر ممّا قيل، بتعثُّر، في «الظلّ والضياء».
كتبت بغير قليل من التشديد، في تلك الصفحات، أن «لا حبّ للحياة دون يأس من الحياة». لم أكن أعرف في ذلك الوقت إلى أيّ حَدّ كان ما قلته صائباً. لم أكن قد عبرت، بعد، أزمنة الإحباط الحقيقي. حلَّت، فعلاً، هذه الأزمنة، ودمَّرت كلّ شيء بداخلي، باستثناء، شهية فوضوية للحياة، خصوصاً. ما زلت أعاني من هذا الشغف الخصب والمدمِّر معاً، والذي يسطع حتى في أحلك صفحات «الظلّ والضياء».
نحن، في الحقيقة، لا نحيا إلّا ساعات قليلة، فقط، من حياتنا، كما يقال. هذا صحيح من ناحية، وخاطئ من ناحية أخرى. فالحماسة التوّاقة، في هذه المقالات، لم تنقطع عني أبداً. وخلاصة القول: إنها الحياة في أسوأ حالاتها، وأحسنها. ربَّما رغبت في تقويم أسوأ ما خلَّفته بداخلي. كما عموم الناس، حاولت، قدر المستطاع، تهديب طبيعتي من خلال الأخلاق؛ وهو ما كلَّفني، مع الأسف، الثمن الباهظ. مع العزيمة، كتلك المتوفِّرة لديّ، قد ننجح، أحياناً، في التصرُّف وفقاً للأخلاق، لكن دون أن نتمكَّن من جعلها أسلوباً في الحياة. عندما يكون المرء رجل شغف، فالحلم بالأخلاق يكون بمنزلة تعريض الذات للظلم في الوقت الذي يُتَحدَّث فيه عن العدالة. أحياناً، يظهر لي الإنسان كأنه آلة للظلم؛ وأفكر في نفسي. فإذا كان لديَّ الانطباع، في هذه اللحظة، بأني أخطأت أو كذبت فيما كنت أكتبه، أحياناً، فذلك لأني لا أعرف كيف أفسِّر، بصدق، ما عرّضت له نفسي من ظلم. بكلّ تأكيد، لم أقلْ، أبداً، إني كنت عادلاً، بل سبق وقلت إنه ينبغي لي، فقط، أن أحاول، وإن ذلك كان مشقَّة وشقاءً. لكن، هل الاختلاف بين القولَيْن كبير إلى هذا الحَدّ؟، وهل يمكن، فعلاً، لمَن لم يُحَكِّم العدل في حياته الشخصية، أن يبشِّر به؟ لو أمكن للمرء، على الأقلّ، أن يعيش، وفقاً للشرف، فضيلة الظالم، لكن عالمنا يعتبر هذه الكلمة داعرة؛ تعتبر كلمة (أرستقراطي) من الشتائم الأدبية، والفلسفية. أنا لست أرستقراطياً، الجواب يوجد في ثنايا هذا الكتاب. ها هم أهلي، وأساتذتي، ونسبي؛ ففيهم ما يوحِّدني معهم جميعاً. مع ذلك، نعم، أنا محتاج للشرف، لأنني لم أسمُ بما يكفي لأستغني عنه.
لا يهمّ! أردت، فقط، أن أشير إلى أني -وإن كنت قد قطعت مسافات طويلة منذ هذا الكتاب- لم أتقدَّم بما فيه الكفاية. غالباً ما كنت أتقهقر كلَّما اعتقدت أني في تقدُّم. مع ذلك، كانت أخطائي، وسذاجتي، وأمانتي، دائماً، تعيدني إلى ذلك المسار الذي دشَّنته مع «الظلّ والضياء»، والذي يمكن تتبُّعه في كلّ ما نشرت فيما بعد، ومازلت أتنعَّم به، أحياناً، في بعض صباحات مدينة الجزائر. لكن، إذا كان الأمر كما أقول، فلماذا رفضت، طيلة هذه المدّة، الإدلاء بهذه الشهادة البسيطة؟ بدايةً، لأن هناك في داخلي مقاومات فنّيّة كما في دواخل الآخرين مقاومات أخلاقية أو دينية. المنع، أو فكرة «لا ينبغي القيام بذلك» الغريبة عني كثيراً، بصفتي شخصاً طُبِع على الحرِّيّة، تحضرني كأسير، أسير مفتتن بتقليد فنِّيّ صارم. ربَّما، أيضاً، هذا الحذر يحدّ من فوضويَّتي المتجذِّرة، لكنه -من ثَمَّ- يظلّ مفيداً. فأنا أعرف اضطرابي، وعنف بعض غرائزي، والإهمال الذي لا هوادة فيه، حيث يمكن أن أرتمي. لكي يسمو العمل الفنّي، عليه أن يستنفد، أوَّلاً، هذه القوى الغامضة للروح، لكن ليس دون توجيهها، وإحاطتها بالحواجز حتى يرتفع منسوبها بما يكفي. وحواجزي، ربَّما، ما تزال عالية، للغاية، إلى حدود اليوم. من هنا، تأتي، في بعض الأحيان، هذه الحدّة… بكلّ بساطة، في اليوم الذي يتحقَّق فيه التوازن بين ما أنا عليه وما أكتبه، يومها، ربَّما، أجرؤ على قول هذا، سأتمكَّن من بناء العمل الذي أحلم به، ما أريد قوله، هنا، هو أنه سيكون مشابهاً، بطريقة أو بأخرى، لـ «الظلّ والضياء»، وأنه سيتطرَّق إلى شكل من أشكال الحبّ. يمكن أن نفهم، إذن، السبب الثاني الذي جعلني أحتفظ بمقالاتي الشبابية هذه، لنفسي. الأسرار الأغلى نفشيها بشكل أخرق وفوضوي، كما نخونها تحت قناع متكلّف جدّاً، في حين يستحسن انتظار اكتساب ما يكفي من المهارة لإعطائها شكلاً واضحاً، دون التوقُّف عن إسماع صوتها، وتعلُّم كيفية إدماج السجية والفنّ بنسَب متساوية، تقريباً؛ أي، في النهاية، أن نكون. هذا يعني القدرة على تحقيق كلّ شيء في الوقت نفسه. في الفنّ، إمّا أن يأتي كلّ شيء في وقت واحد، تقريباً، أو لا شيء يأتي على الإطلاق، فلا نار بدون لهب. وقد صرخ ستاندال، ذات يوم: « لكن روحي نار تتألَّم، إذا لم تلتهب». أولئك الذين يشبهونه في هذه النقطة، لا ينبغي لهم أن يبدعوا إلّا من داخل هذا الاضطرام. من اللهب، تخرج الصرخة فوراً، مخلِّفةً كلمات تردِّد، بدورها، صدى هذه الصرخة. أتحدَّث، هنا، عمّا ننتظره نحن جميعاً. الفنّانون غير واثقين ممّا إذا كنّا كذلك، لكنهم واثقون من أننا لسنا شيئاً آخر غير ذلك، يوماً بعد يوم، لنقبل بدخول معترك الحياة.
لماذا -بما أن الأمر يتعلَّق بهذا الانتظار غير المجدي، ربَّما- الموافقة، إذن، على هذه الطبعة؟ أوَّلاً، لأن بعض القرّاء وجدوا ما يكفي من المبرِّرات لإقناعي بذلك(9). ثم يأتي، دائماً، وقت في حياة الفنّان يتوجَّب عليه فيه تقييم ذاته، والتقرُّب أكثر من مركزها، لكي يحاول، فيما بعد، التشبُّث به.
الأمر كذلك، اليوم، ولست في حاجة لشرح المزيد. فإذا لم أُوَفَّق، رغم كلّ هذه الجهود، في بناء لغة خاصّة، وبعث الحياة في الأساطير، وفي إعادة كتابة «الظلّ والضياء»، فلن أكون قد وُفِّقت في أيّ شيء؛ هذه هي قناعتي الغامضة. وعلى أيّ حال، لا شيء يمنعني من الحلم بأنني سأنجح، ومن تخيُّل أني سأجعل في قلب هذا العمل، الصمت الرائع لأمّ، ومجهود رجل، محاولاً إيجاد الإنصاف أو الحبّ اللازم لتوازن هذا الصمت. هذا هو الرجل الذي يجد في حلم الحياة حقائقه، ثم يفقدها على أرض الموت، كي يعود، أخيراً، عبر الحروب، والصرخات، وجنون العدالة، والحبّ، والألم، إلى هذا الوطن الهادئ، حيث الموت نفسه صمت سعيد. هنا، أيضاً… نعم. لا شيء يمنع من الحلم، ولو في الغربة، بما أنني، على الأقلّ، أعلم علم اليقين، أن عمل أيّ إنسان ليس إلّا هذا المسار الطويل لاسترجاع، عبر مدارات الفنّ، الصورتَيْن أو الثلاث صور؛ البسيطة، والكبيرة التي تفتَّح عليها القلب أوَّل مرّة.
لهذا، ربَّما، وبعد عشرين سنة من العمل والعطاء، لازلت أحيا على فكرة أن عملي لم يبدأ بعد. هذا هو، بالضبط، ما وددت تسجيله هنا، منذ اللحظة التي عدت فيها إلى الصفحات الأولى التي كُتِبت بغرض إعادة نشرها
الهوامش
1 – روائي وفيلسوف فرنسي (1897 – 1971). (المترجم)
2 – في كلّ كتاباته وحواراته، كان كامو يتحدَّث عن نفسه باعتباره فنّاناً. (المترجم)
3 – كاتب وفيلسوف فرنسي. صديق الكاتب ومدِّرسه لمادّة الفلسفة خلال المرحلة الثانوية. (المترجم)
4 – شاعر، وصحافي، وفيلسوف أخلاقي فرنسي، عاش خلال القرن الثامن عشر. نُشر عمله الوحيد والأكثر شهرة، بعد وفاته، عام (1795)، تحت عنوان: «أقوال وأفكار، طبائع ونوادر»، مأخوذة من الملاحظات التي تركها مكتوبة بخطّ اليد. (المترجم)
5 – في كلّ كتاباته، يقصد كامو بـ «العربي» كلّ (من) و(ما) هو جزائري، دون تدقيق في أصوله. (المترجم)
6 – شخصية رئيسية في عدّة أجزاء من الكوميديا الإنسانية لـ«أونوغي دو بالزاك». (المترجم)
7 – بطل «الأحمر والأسود» لـ «ستاندال». (المترجم)
8 – هيرمان ملفيل، روائي وكاتب مقالات، وشاعر أمريكي من القرن التاسع عشر. سقط في النسيان بعد وفاته، قبل أن يعاد اكتشافه من خلال تحفته وروايته الأشهر «موبي ديك». (المترجم)
9 – المسألة بسيطة «هذا الكتاب موجود، لكن في نسخ محدودة، تباع بأثمنة باهظة. لماذا من حقّ القرّاء الميسورين، وحدهم، قراءته؟» فعلاً، لماذا؟ (الكاتب).
(عن مجلة الدوحة)