
الملكية الدستورية المغربية … جدل الاصالة والمعاصرة (2-6)
طارق زيادة صالح سوار الدهب*
أن العبرة المنهجية في الحاجة للثقافة التي تقدمها المؤسسة الملكية تبقى في امتحان المسلمة التي تفترض أن العلاقة بين معاملي الاصالة والمعاصرة هي فقط حصيلة طبيعية لتطبيق التجربة الغربية في التحديث والتنمية، فالفعل الاجتماعي التنموي هو من صميم التجربة التاريخية للشعوب، وسبيلها الصحيح لذلك يبدأ من استنباط الانماط المعيارية المناسبة لكل خصوصية مجتمعية من جهة، وبالتخلي عن اسلوب التجريد (الوصفي) والتعميم (الايدولوجي) الذي ينطلق من مركزية ثقافية أو أثنية لتشيد منظومة (توليتارية) متجاوزة بإسم المعرفية (الكاذبة) لشرائط الكسب الانساني التاريخي، سواء كان ذلك بالنسبة للمجتمع المغربي خاصة أو لأي مجتمع ما عامة.
وإذا شئنا استطراداً (نظرياً) نستكمل به حلقات هذا التأسيس الأولي، فإنه ينبغي التنويه الى الاهمية الكبرى التي يكتسبها هذا المدخل المنهجي للحاجة للثقافة: الذي يتمثل في الدرس المتجدد الذي ترفد به الاسهام النظري الكلاسيكي لسيوسيولوجيا التنمية (أو لعلاقته بمعاملي الاصالة والمعاصرة) كما تناول موضوعاتها مفكرون: كماركس، ماكس فيبر، ماكس كلايكمان. ليتصوب من خلال المسير الواقعي للتجربة المجتمعية الكثير من المقولات التي تعالج في إطار مقاربات منهجية ومعرفية أكثر تجريبية إشكالات العلاقة بين الحداثة والتقليد في مجتمعات العالم الثالث (والنموذج المغربي ليس استثناءً منها). وبما يساهم في الانطلاقة النهضوية من دون تحطيم أو تشويه البنيات الحضارية لهذه المجتمعات أو أثارة ما يستتبع ذلك من تناقضات في المفاهيم وغموضاً متعدد المظاهر: هل نحن أمام تصور تاريخي أم معياري؟ ماهي فئات المجتمع المغربي التي تجسد هذه التصورات مؤسسياً؟ وبأي تراتب تدير هذه النخب المركزية والمحلية صراعها؟ وما هو دور الكتلة التاريخية العضوية (كما يصفها غرامشى) التي يقع على عاتقها انجاز مهمة التغيير السيوسيوسياسي لصالح الاهداف الاستراتيجية الوطنية… أن تجاهل هذا المدخل المنهجي للثقافي يمكن أن تقود الى نتائج لا تتوافق مع ما وصلت اليه اليوم النتائج الواقعية لنماذج النهضة المعاصرة، بل أن الاتجاه التحليلي عوضاً عن ذلك سيوجه التفكير صوب المناظرة العقيمة بين معاملي الحداثة والتقليد بصورة سالبة ومجردة تعمل على:
* نفي التاريخ، من خلال اختبار النموذج التقليدي الثقافي (الذي ينبغي تجاوزه لبناء النهضة التحديثية) نموذجاً تجريدياً كلياً يناظر مفهوماً سيوسيولوجياً عصرياً، وهو منطق دائري ومغلق لا يعمل الا على إعادة انتاج ذاته بتعامله السالب مع التجربة الاجتماعية التاريخية.
ولا شك أن سيادة هذا التفكير في مجتمعاتنا سيؤدي بنا الى تبني مركزية التجربة النهضوية الأوروبية واستنساخها استنساخاً لا تاريخياً: بنفي النسبية التاريخية الاجتماعية لتجربة اوروبية كانت نتاج تحولات ديناميكية عرفتها هذه المجتمعات وعبرت عنها من خلال مؤسساتها الخاصة الأمر الذي يحصر دور المجتمع التقليدي في التلقي الميكانيكي الخارجي.
* نفي المقولة السيوسيولوجية، وهي نتيجة منطقية لاحقة للنفي الاول، ذلك أن الحصر التجريدي الوصفي لمجتمع ما بأنه تقليدي يعني القبول لكل منطلقاته السيوسيولوجية والايدولوجية، والتعامل معها ككل غير قابل للتحليل والتغيير. وهذا يعني ايضا ان الظاهرة الثقافية التقليدية ظاهرة مطلقة (نفي شرطيتها التاريخية: الزمانية والمكانية). في حين أن المنطق السيوسيولوجي يقول بأن ثقافة المجتمعات تتمتع بطبائع متحولة حسب كسبها التاريخي الاجتماعي وفقاً لعوامل تتحدد: حسب (الانتماء الطبقي الاقتصادي، نظام تراتب اقتصادي). وحسب (المستوى الذهني الثقافي، نظام تراتب قيمي اجتماعي). واخيراً حسب (نظم المؤسسات والقيم السياسية والاجتماعية، نظام تراتب مؤسسي يراعي التوازن الأيدولوجي للنموذج الكلي).
ولعله استخلاصاً من هذا الاستطراد الأولي ستنهي بنا المقاربة السيوسيوسياسية للمؤسسة الملكية بأنها غالباً ما تعبر عن معاملي اصالتها ومعاصرتها (مجتمعياً) في شكل (فكروي) إصلاحي سياسي في تعاملها مع اسس النظام الاجتماعي (التقليدي) الراهن لتستصنع منه التكامل التوحيدي: الوظيفي (الموضوعي) والمؤسسي (الشكلي) الذي يساهم في امكانية بروز نظام اجتماعي (حداثي) مكتسب لمشروعية تواثقية دستورية وسياسية متجددة: لإدارة الغايات والاهداف والوسائل والمناهج ليتم بها توجيه أو اعادة تشكيل الشخصية الوطنية المغربية (خلق ذات انسانية فردية وجماعية جديدة). وربطها بعملية بناء دولة موحدة تشدد على امتلاك المعرفة بالتقنيات والنظم والمؤسسات المرتبطة بالحركية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بعقلانية نشطة متجاوزة ومنفتحة على سياقها الانساني العالمي، مستلهمة البناء القيمي والاخلاقي، رافضة اعتبار ان التحديث يقف عند حدود بناء مجتمع عصري (صناعي) على انقاض مجتمع تقليدي (ما قبل صناعي) منغلق من دون اعتبار ان المهمة الماثلة هي بالدرجة الأولي ثقافية تركز على كيفية اعتماد خيارات مستقلة لإنتقاء افضل النماذج من مجموع ما يعرضه الغرب المتقدم، وماهية ما يجب الاحتفاظ به وما يجب الاستغناء عنه من تقاليد. ذلك ان المجتمع التقليدي عندها لا يعرف كموناً الا على المستوى القريب، أما على المستوى البعيد فإن هذه الكمون السطحي يمكنها قراءته بمنهجية لا تعتمد (احادية نموذج التغيير).
المقاربة السيوسيوسياسية للملكية الدستورية بهذا الفهم: هي امتداد تغيري مستمر على الصعيد التاريخي، لا يمكننا معها اذن فقط الحديث عن اعادة انتاج دائري للتقليدية بقدر ما يمكننا الحديث معها بصفة اكثر موضوعية عن نسبية اشكال الفعل التغييري الذي تعتمده في كل مرحلة… سيقودنا التحليل بصورة محورية الى انه وبخلاف مفهومي: الثورة (بمعناه الشمولي الراديكالي المحطم لكل الهياكل الاجتماعية السابقة). والتمرد (بمعناه الجزئي ذو البعد التوتري للتصارع الاجتماعي الذي يتيح امكانية للتعديلات الجزئية). فإن المقاربة المنشودة بعد هذا التوصيف الأولي التي تعتمده الملكية هو الاقرب الى ما يمكن ان نصطلح عليه بمفهوم دينامية فعلها الثقافي الشامل. الذي لا يمس مشروعية النظام القائم (بصورة مجانية). الا بالقدر الذي تُنجز به المهمة الاصلاحية الاجتماعية، وفق نمطية تدريجية بزخم معرفي وتقني لا تنقصه المشروعية الحضارية ولا المفاهيمية المعاصرة، لتقدم لنا بها الاجابة على قضايا عاجلة وموضوعات آجله.
الملكية الدستورية مقاربة سيوسيوقانونية، مدخل لتـأسيس (تطبيقي) أول:
(المغرب شجرة جذورها في افريقيا وثمارها بأوروبا) مقولة منسوبة لجلالة الراحل الملك الحسن الثاني (إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون. تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وارساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطن)
الدستور المغربي (التصدير)
عظمت الملكية الدستورية المغربية في جدالها (المتجدد) بين معاملي الاصالة والمعاصرة من:
أ. أولوية العمل السياسي (الاصلاحي) داخل المجال العام بحسبانه رهاناً مركزياً يطمح لإدماج القوى السياسية والاجتماعية التي كانت تشتغل خارج أنساقه لتشكل منطلقاً للتحول الى بناء مرحلة تأسيسية (دستورية) تعتمد (اجرائياً، ومفاهيمياً) بالأساس على اعتماد استراتيجية الاصلاح التدريجي من داخل النظام السياسي وباستحضار لبعدي الشرعية والمشروعية بوجهيها: السيوسيوقانوني المتعلق بتنظيم مؤسسات الدولة واجهزتها وعلاقتها مع باقي المؤسسات، والسيوسيوسياسي المنصب على اهمية العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشكل تميزاً للنموذج المغربي بثراء مبادئ التعدد الاثني واللغوي والحق في الاختلاف الانساني وتبني خيار الديمقراطية التشاركية، وذلك في تمازج (متوازن) لا يُعلي أو يغُلب من اولوية بعد على آخر. بل على تكامل (متضابط) يجعل من الملكية الدستورية فاعلاً سياسياً اساسياً بحقليها: التبايعي والتعاقدي، في تحديد قواعد اللعبة السياسية التشاركية سواء لجهة أصولها الحضارية (الوطنية) أو لمتغيراتها (السياسية) في علاقتهما بإشكالات الواقع (المستحدث) وقضايا الراهن (المعاش) ومتطلبات المرحلة الاجتماعية. ليتم تمثل تلك الثنائية بالمشاريع الايدولوجية والسياسية لمختلف مكونات الفضاء المدني المغربي بمختلف منظوماته: الحزبية والنقابية سواء على صعيد التراب الوطني: الجهوي والجمعوي أو على صعيد تفاعله مع جوار اقليمي متداخل وعالمي متشابك، بإيمان راسخ بان انجع طريقة للتغيير السياسي تتمثل في اصلاحه من الداخل وليس بالاعتماد على منهج التغيير (الراديكالي). دون توهم وقوع في شراك (مؤدلج): لتصارع مفارق أو تماهي مطابق في أفق تتجه فيه كل يوم القيم الوطنية وعبر الوطنية نحو مزيد من التماثل الانساني الكوني.
( يتبع)
*كاتب صحفي وباحث في مجال
دراسات السلام والتنمية