سياسة

الرئاسيات الفرنسية … ماكرون محطة انتظار وتردد

راتب شعبو

قبل أقل من سنة، اكتسح الحزبان الفرنسيان التقليديان (الجمهوري والاشتراكي) انتخابات الأقاليم (regions)، ففاز الجمهوري في سبعة أقاليم كان يحكمها من قبل، وفاز الاشتراكي أيضاً في كل الأقاليم التي كان يحكمها وأضاف إليها جزيرة رينيون. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت في هذه الانتخابات، ساد اعتقادٌ حينها بأن اليمين (الجمهوري) سوف يدخل الانتخابات الرئاسية التالية بقوة، إذا تمكّن من تجاوز الصراعات الداخلية والاتفاق على مرشّح واحد، كما ساد اعتقاد مشابه في ما يخصّ اليسار (الاشتراكي)، بأن فرنسا سوف تطوي الصفحة الماكرونية الطارئة (لا يسار ولا يمين)، لتعود إلى صراع القطبين، الجمهوري والاشتراكي.

واليوم، يعجز هذان الحزبان التقليديان عن تجاوز عتبة 5% في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية (مرشّحة الحزب الاشتراكي حازت أقل من 2%)، العتبة التي تسمح للمرشّح الرئاسي بالحصول على تعويض مالي من الدولة لنفقات حملته الانتخابية، ما أنتج مشهداً درامياً قامت فيه المرشّحة الجمهورية الخاسرة فاليري بيكريس بالطلب من أنصارها تقديم تبرّعات طارئة كي تسدّد الالتزامات المالية لحملتها الانتخابية. وقد فشلت بيكريس في تجاوز عتبة 5%، بالرغم من أن الحزب الجمهوري تمكن فعلاً، عن طريق انتخابات داخلية، من اختيار مرشّح واحد من بين خمسة مرشّحين جمهوريين كانوا يريدون التقدّم إلى الانتخابات الرئاسية.

أما الحزبان اللذان تأهل مرشحاهما إلى الدورة الرئاسية الثانية، حزب الرئيس الحالي والمرشح الرئاسي إيمانويل ماكرون (الجمهورية تتقدّم) وحزب المرشحة اليمينية مارين لوبان (التجمّع الوطني)، فقد عجزا كلاهما، في انتخابات الأقاليم، عن الفوز بأي من الأقاليم الفرنسية. يصبح المشهد أوضح إذا أضفنا أن المرشّحيْن نفسيهما (ماكرون ولوبان) كانا قد تواجها في الدورة الانتخابية الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2017، من دون أن يواكب صعودهما الرئاسي صعوداً موازياً لحزبيهما في انتخابات الأقاليم.

فرنسا اليوم إذن تقليدية الجسد مستقرّة على عهدها، ولكنها برأس قلق ينشغل، كما لو هرباً من الواقع، بمسألة الهوية التي لا تني تحدد ذاتها بصناعة «آخرين» بدءاً من الإسلام وليس انتهاء بأوروبا، الأمر الذي يغذي ميلاً انغلاقياً تجاه الداخل (الفرنسيون من ذوي الأصول غير الفرنسية) وخارجياً تجاه الأوروبيين والعالم، وهو ميل خطير يقود، بخط مستقيم، إلى عكس ما يبشر به أنصاره من ازدهار وسيادة، وربما يفضي إلى حرب أهلية.

ما يهم الفرنسيين على مستوى الإدارات المحلية، يختلف عما يشغلهم على مستوى الإدارة العامة للبلد. في الرئاسيات تحضر بوضوح أشد، ربما في فرنسا أكثر من غيرها من الديمقراطيات الغربية، المسائل الكبرى المتعلقة بالهوية كعلاقة فرنسا بأوروبا والعالم وبالإسلام، ولا يكفّ عن التردّد شعور مؤلم بتراجع الحضور العالمي لفرنسا، الشعور الذي حاول ماكرون الاستثمار فيه عندما انخرط بمجهود وساطة وتهدئة في الأزمة الروسية الأوكرانية، قبل الحرب وبعدها، أكثر من أي رئيس أوروبي آخر، مستفيداً من الرئاسة الفرنسية الحالية للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أشعر الفرنسيين بحضور عالمي وجلب للرئيس المرشّح مزيدا من الناخبين.

الانشغال بموضوع الهوية يشكّل بيئة مناسبة لليمين الذي نجح في إشاعة مناخ «هوياتي» سيطر على النقاش العام في فرنسا، وغذّته شبكات إعلام محلية واسعة الانتشار. لذلك ليس غريباً أن مرشّحي اليمين بطيفه العريض (من ضمنهم ماكرون) حازوا أكثر من ثلثي أصوات الناخبين في الدورة الرئاسية الأولى. بنى أحد هؤلاء المرشّحين مثلاً حملته الانتخابية على فكرة «الإحلال الكبير»، وهي تصور مستقبلي مهووس بالمؤامرة ويقوم على أساس عنصري وعلى كراهية الأجانب، عرضه في 2010 كاتب فرنسي يميني، ينتهي هذا التصور إلى أنه سيتم مع الوقت استبدال الشعب الفرنسي والحضارة الفرنسية بشعب آخر غالبيته من أصول أفريقية ومغربية، وبحضارة أخرى. وقد سار المرشّح الهوياتي المذكور شوطاً طويلاً إلى الأمام، فشكل حزباً سياسياً سمّاه «الاسترداد» (La Reconquête)، ما يوحي بأن فرنسا قد سقطت فعلاً (بيد المسلمين كما توحي كلمة الاسترداد المستعارة من التاريخ الإسباني)، وإنه يعمل على استردادها. حصل هذا المرشح الملقب «ترامب فرنسا» على المرتبة الرابعة، متجاوزاً، بالقلق الموهوم الذي أشاعه واستثمر فيه، ثمانية مرشّحين آخرين بينهم مرشّح أنصار البيئة الذي يعالج هموماً بيئية جدّية، ما يشي بوجود درجة غير قليلة من قلق فرنسي هوياتي جاهز، في ظروف معينة، أن يتخذ مساراً فاشياً.

الحقيقة العامة التي تقولها الانتخابات الرئاسية في فرنسا اليوم أن الفرنسيين يعرفون ما يرفضون ولا يعرفون طريقاً للخروج منه. إنهم يرفضون صورتهم الراهنة، ولكنهم لا يعرفون أو لا يتفقون على صورة مرغوبة. يرفضون الحزبين التقليديين، ويختارون أحزاباً جديدة تُنسب إلى تيارات متباينة (يمين متطرّف، يسار متطرّف، لا يمين ولا يسار). الأحزاب الثلاثة التي حازت نتائج لافتة في هذه الانتخابات، كما في الانتخابات الرئاسية السابقة (2017) هي حديثة. «الجمهورية تتقدّم» 2016، «فرنسا العصية» 2016، «التجمّع الوطني» الذي ورث «الجبهة الوطنية» في 2018. ولم يقتصر التغيير على الاسم، بل تحوّل أيضاً إلى خطاب أكثر عقلانية. والحق أن النجاح الذي حققته مرشّحة التجمع الوطني، على الرغم من هجرة كثير من جمهورها وبعض كوادر حزبها إلى ضفة المرشّح العنصري الصريح إيريك زيمور، نجم عن حسن تدبيرٍ من جانبها، وفهم أفضل للواقع الانتخابي، فبدلاً من أن تتّجه إلى منافسة زيمور في خطاب العنصرية والانغلاق، الخطاب الذي أكسبه بسرعة لافتة قاعدة شعبية جعلته يتفوق عليها، حسب استطلاعات الرأي، ويصل إلى الترتيب الثاني بعد ماكرون الذي لم يتفوق عليه أي مرشّح حسب نتائج كل الاستطلاعات، اتجهت لوبان إلى مزيد من العقلانية في خطابها وحملتها الانتخابية، ما جعلها تبدو «معتدلة» على خلفية التطرف العنصري لمنافسها، وهكذا استطاعت أن تحوله إلى منصة لها بدلاً من أن يكون حفرة.

يبدو أن استقرار غالبية الأصوات على حزب الرئيس ماكرون في الانتخابات السابقة والحالية، كما تظهر الاستطلاعات (الراجح أن الرئيس الحالي سيفوز بفترة رئاسية جديدة)، هو بمثابة محطة انتظار، تتردّد فيها فرنسا بين مزيد من اليسار (ميلانشون)، أو مزيد من اليمين (لوبان). ويبدو لنا أنه، إذا فاز ماكرون بولاية ثانية، فإن حظوظ ميلانشون ستكون أوفر في الوصول إلى الإليزيه، من حظوظ لوبان، نظراً إلى أن تمايزه عن الرئيس الحالي أكبر.

(عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق