
بشرى بن فاطمة
حكاية رسومات عسقلان هي حكاية مليئة بالألوان رغم مرارة وصعوبة التعايش مع السجن والسجان والاحتلال وظلم استطاع أن يقطع أمل النجاة.
فقد ابتكر مجموعة من أسرى المعتقل «الفنانون» بالفطرة بالحق بالاحساس والحاجة التي صنعت فيهم رؤى لحياة واسعة المنافذ رغم الضيق، وخيال أكبر من الأسر فقد جمعهم المصير والفن والرسم والتعبير عن الفكرة، فكانوا يستعينون بالأدوات البسيطة وكل ما يتوفر لديهم، كما كانوا يقومون بفرز الاعمال وتشكيل لجنة لنقدها ولتقرّر أي عمل يستحق أن يعرض خارج المعتقل وأي عمل يستحق المغامرة من أجل انتشاله من المعتقل.
هذا المنفذ حمل رؤية جديدة للسجناء وحملهم للابتكار رغم قلة المواد والخامة والألوان، حيث لم يتوقفوا عن الرسم، رغم الصعوبات التي واجهتهم والتي كان أهمها الحصول على الألوان ومواجهة السجان عند اكتشاف الأعمال، فقد رسموا بأقلام الحبر الناشف وبأربعة ألوان فقط هي الأحمر والأزرق والأخضر، كانوا يحصلون عليها من بقايا الألوان الشمعية التي يلقيها عمال البناء بعد الانتهاء من عملهم ومن التخطيط.
إنها باختصار تجربة فريدة من نوعها بقيت عالقة في ذاكرة كل فلسطيني وكل فنان آمن بأن الفن له طريقه الإنساني وطريقته الجمالية في المقاومة، تجربة عاشها معتقلو سجن عسقلان من فترة اعتقالهم إلى الحكم عليهم بالمؤبد ثم خروجهم في صفقة تبادل أسرى من فترة السبيعنات إلى أواخر الثمانينات، بعد أن حوكموا بتهمة الانتماء للمقاومة المسلحة، لتظهر داخل السجن تجربة مقاومة جديدة ومختلفة عند محمد الركوعي، عماد عوكل، محمود عفانة، زهدي العدوي، علي النجار، محمد أبو كرش، هي المقاومة بالرسم والفن ونقل صورة السجن والسجين وألمه الذي لا يخلو من الأمل إلى الخارج كتوثيق وتخزين للصورة الموشحة بالأمل رغم قسوة الاعتقال.
هذه المغامرة أخرجت مجموعة من الرسومات من سجن عسقلان لتحكي للعالم قصة بداية الفن المقاوم أو فن السجون الذي بدأ تلقائيا في تعبيره عن الانعتاق بالحلم والفكرة والتشبث بالبقاء والحياة والأمل في مجموعة صور رسمت على وجوه المخدات تحوّلت إلى لوحات فنية عميقة الفكرة رغم بساطة خاماتها وموادها وتقنية تنفيذها وهذه اللوحات الأصلية يقدم متحف فرحات «الفن من أجل الإنسانية» حوالي 50 عملا منها ضمن مجموعة «معتقل عسقلان».
التحدي في الحكاية أن كل الأعمال التي كان تنجز كانت تهرّب بطريقة محكمة وبخطط مدروسة فأول من يزور السجن في وقت الظهيرة من الأهل يتحمل مسؤولية إخراج الأعمال لأن عدد الحراس يكون أقل في تلك الفترة، رغم التضييق والمحاصرة والعقاب الذي كان يلحق بهم عند اكتشاف اختفاء وجوه المخدات أو عرض الرسوم التي كانت تطبع خارجا، كان الأسرى لا يتوقفون عن الرسم والتعبير وتفجير ذاكرتهم ومواقفهم فقد بلغ عدد الاعمال التي رسمها محمد الركوعي مثلا حوالي 400 رسمة منها ما اخترق السجن ومنها ما ضاع داخله.
مفهوم الأمل بين الاحتراف والبساطة
من الناحية الفنية والتقنية تميزت أعمال معتقلي عسقلان بالبساطة بالمباشرة وبمحاكاة فكرة الحرية والوطن بتفاصيل رمزية دقيقة واضحة ومفهومة تحكي الأرض والعادات الحرية والمقاومة في رمزية المرأة الأرض والأم والبندقية والانعتاق من خلال عرض تفاصيل السجن والسجان والمعتقلين لون بدلات السجن عصا السجان القضبان الجدران كلها بألوانها التي تعكس حقيقة كل التفاصيل المعتمة التي تقلصها الذاكرة بألوانها التي تفتح أبواب الأمل على الألوان التي بدورها تنعشها الخيالات المتراكمة والذكريات عن الأهل والوطن عن الطبيعة التي حملتنا إليها الألوان الزاهية فاللوحة كانت تصارع ألوان السجان التي تسرّب الموت والخراب لذلك كانت تتجادل التدريج بين القتامة والضوء.
يعبر الرمز واللون والشخصيات عن حالة التمرد داخل الأسرى عن العتمة التي كان يفرضها السجان عن تمرّدهم وعن انتصاراتهم بألوان الحياة التي هزمت الظلام فالرسم والمشاهد كانت أبعد من الصورة والحلم والخيال في وطن مشتهى لم يتبخر مع الأسر.
بحضور الفكرة عند كل أسير فنان كل شيء يصبح صالحا للرسم هكذا كان محمد الركوعي يعبّر بشغف عن تلك التجربة في الورق والقماش ووجوه المخدات كنا نحلم ونركض ونغازل ونستمر، فوجه المخدة الأبيض وقماش الكتان كان يصلح لأن يصنع أربع محارم تقسّم كل مساحة لتحمل فكرة وحلما وخيالا كفيلا بأن يخرجنا للحظات إلى الطبيعة باختلاف مواسمها لأن يثبت لنا أن الوطن مغروس في ذاكرتنا.
الألوان كانت من البلاستيك صغيرة الحجم ليسهل تمريرها من الشبك الحديدي الفاصل بين السجين وأهله وهي مرحلة تأمين الخامة وبحضور المخدات والأقلام تبدأ المرحلة التي تعتبر الأصعب وهي البحث عن مكان الرسم، حيث كانوا يختارون الزوايا البعيدة عن النظر وفي نفس الوقت يصلها ضوء المصباح ولذلك كانوا يعوّضون نقص النور بالألوان والعتمة بالفرح فكل لوحة تعكس حالة ونفسية وإحساسا يفجر عمدا تلك الألوان بالتحدي وبالنضج الذي يتزايد عند كل فكرة ولوحة ورسمة للتعبير عن الوجود وعن الاستمرار في المقاومة والموقف الأساسي من العمل الفني، كل عناصر الوطن كانت حاضرة في أدق التفاصيل التي تحدد معناه في ذاكرة تقاوم الطمس وحضور يكتمل مع الطفل والمرأة والأرض والخارطة الكاملة في التراب وعلامات التطريز والبحر والطبيعة في الشهيد والبندقية.
رغم أن الأسرى اجتمعوا على الفكرة والمغامرة والمصير والألوان ولكن من المؤكد أن لكل منهم حكايته التي تسرد تفاصيل معمقة من تلك المعاناة والمغامرة تفاصيل تعكس حالته ومشاعره ووقوفه أمام السجان ونفسيته التي بدا جزء منها في الرسومات وبقيت أثارها تحكي الإصرار والاستمرار، وقد قدّمت مخرجة الأفلام الوثائقية اللبنانية- الاسبانية ليلى حطيط فيلما قصيرا عن هذه التجربة بعنوان «أقلام عسقلان» سردت فيه تجربة الأسرى وبالخصوص تجربة الفنان زهدي العدوي وعن التجربة تقول «اهتمامي بموضوع المقاومة عن الطريق الفن كبير لأني أعتبر الفن منفذا انسانيا فهو من أهم أدواتها خاصة مع مثل هذه التجارب يتحوّل إلى فعل صادق ومثل هذه المقاومة تقلق السجان «العدو» فيكون الأسير محاصرا ورغم ذلك يحتفظ بالأمل وتلك قصة عسقلان التي رأيتها بكل مشاعري.»
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection