ثقافة وفن

كافكا في «باب مراكش»*

ذ. محمد بوعابد (أبو ريم)

أي كافكا هذا الذي يراد في هذا العنوان؟

معلوم عند قراء الأدب العالمي الحديث والمعاصر جميعهم أنه كان هناك شخص يسمى فرانتس كافكا Franz Kafka، وأن هذا الإنسان كان قد ولد وترعرع وعاش في بلاد المجر ما بين 1883 و1924. ومعلوم كذلك أنه حدث، منذ ما يقارب أكثر من العقدين من الزمن، أن استثمر كاتب روائي ياباني، هو هاروكي موراكامي، هذا الاسم العلم، فوظف أجواء غرائبية وعجائبية في مؤلفه الروائي المعنون: «كافكا على الشاطئ»، الذي أدخل فيه الفلسفة والأدب والموسيقى، غير أن كافكا المقصود في هذا العنوان تراد منه الدلالة على توجه فكري وأدبي تم وسمه بصفة (كافكاوي) المشتقة من هذا الاسم العائلي، وقد عنت الكافكاوية عند البعض من القراء والنقاد ما يعنيه ويدل عليه مصطلح العبث واللامعقول، وذلك بحكم أن الكتابة الأدبية عند فرانتس كافكا تميزت بسمتي الهشاشة والتشظي مع عدم الاكتمال. فقد كانت روايات كافكا غريبة المضامين، وملتبسة المعاني. وكان صديقه ماكس برود هو الذي احتضنها وعمل على إخراجها للقراء، مع أن كافكا كان قد أوصاه بحرقها. ولكن هذا الصديق تدخل بالتغيير والتعديل، إذ أصدر رواية «الرجل الذي اختفى» بعنوان من عندياته هو «أمريكا»، كما أصدر رواية «القلعة» مكتملة مع أن كافكا لم يكن قد أنهاها. يتبين إذن أن الأعمال السردية، القصصية والروائية التي خلفها فرانتس كافكا، اتسمت بكونها غير تقليدية ومثيرة للقلق. تعني كافكا هاهنا توجها فكريا وفنيا، وهو التوجه الفكري والأدبي الجمالي الذي تجلى بوضوح وشفافية في ما خلفه من إبداعات سردية، روائية وقصصية، هذا الكاتب المجري الجنسية، والألماني اللسان، واليهودي الديانة: فرانتس كافكا Franz Kafka. ولعل من أهم وأبرز الإبداعات الروائية الكافكاوية التي تكشف بجلاء هذا التوجه الفكري والأدبي، والتي تبرز للعيان سماته الفكرية وخصائصه الجمالية، هي رواية: ((المسخ/أو/الانمساخ/أو/التحولLa Métamorphose))، التي يحكي فيها ساردها كيف عاش «غريغوري سامسا Gregory Samsa» قصة تحوله من كائن بشري إلى حشرة كبيرة الحجم، ومرفوضة من قبل الأسرة والمجتمع المحيط بها. فهذا البطل المضاد L›Antihéros قضى حياته الرتيبة في خدمة المجتمع، وإعالة الأسرة، ليستيقظ ذات صباح مستعدا لمغادرة بيت العائلة والتوجه صوب مقر عمله كما اعتاد، لكنه سيلفي نفسه وقد انمسخ، فتحول من كائن بشري إلى حشرة ضخمة، كبيرة الحجم، وذات أرجل متعددة، وبجراح جسدية ونفسية. ثم يتكشف له كيف غدت وضعيته أشد تعقيدا مما كانت عليه، وهذا ما سيدفعه إلى الارتماء في حضن اليأس والانتحار. وبهذا، وبما يماثله من الوضعيات المسرودة في مؤلفات كافكا: (القضية  Le Procès، القصر  Le Châteaux) تفصح الكتابة الأدبية عند فرانتس كافكا عن غربة وتشيء الإنسان de l›Etre Humain La Réification في ظلال المجتمع الغربي الحديث. وهذه الكتابة، بهذا التوجه الفكري والجمالي، ليست من العبث في شيء، بل إنها كتابة تسجل موقف مبدعها المدين لكل ما يمكن أن يسهم في استلاب الإنسان وتشييئه، بحيث تمكن قارئها من وضع اليد على العديد من المستويات الدلالية، إذ هي كتابة بوليسيمية: سيكولوجية، وسوسيولوجية، وسياسية، وذات أبعاد عقدية ميتافيزيقية.

فما علاقة هذا بما سماه العنوان: باب مراكش؟

ليس المقصود من عبارة (باب مراكش) الإحالة على تلك المنطقة المعروفة بهذا الاسم في مدينة الدار البيضاء، أو شبيهتها الموجودة في مدينة الصويرة، ولا الإحالة على أي باب من الأبواب المتعددة للمدينة المغربية (مراكش)، التي كانت وظلت عاصمة ملك المغرب الأقصى منذ العصر المرابطي، مرورا بالعصور والحقب المتتالية: الموحدية، المرينية، الوطاسية، السعدية، العلوية… ولكن المقصود منها هو التأشير على هذه المجموعة من المنتخبات القصصية التي أصدرت طبعتها الأولى (دار بدوي للنشر والتوزيع. ألمانيا) في نهاية سنة 2022، والتي سجل مؤلف نصوصها القصصية ذ.لحسن باكور بأنه شكلها من معظم نصوص مجموعته القصصية «الزرافة تظهر في غابة الإسمنت»، إضافة إلى قصص أخرى مختارة من مجموعتيه السابقتين: «رجل الكراسي»، و»الرقصة الأخيرة». وعبارة «باب مراكش» التي حملتها عنوانا هذه المجموعة من المنتخبات، هي في الأصل عنوان قصة من القصص المنتخبة من المجموعة الفائزة ب(جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي 2017).

فكيف تيسر لكافكا، بصفته تأشيرا على توجه فكري وجمالي، أن يحضر في هذه المنتخبات القصصية؟

جاء لحسن باكور بهذه المنتخبات القصصية متكونة كما يلي:

•الزرافة تظهر في غابة الإسمنت: من ص 11 إلى ص26

•رجل مثال: من ص27 إلى ص33

•لقاء: من ص34 إلى ص39

•الغريمان: من ص40 إلى ص46

•المحطة الأخيرة: من ص47 إلى ص56

•باب مراكش: من ص57 إلى ص78

•ضيف لا ينوي المكوث طويلا: من ص79 إلى ص82

•..وجلست تنتظر: من ص83 إلى ص87

•الوقائع الغريبة لاختفاء المواطن أحمد الغبري: من ص88 إلى ص99

• رجل الكراسي: من ص100 إلى ص105

•عصافير الروح: من ص106 إلى ص109

•المصعد: من ص110 إلى ص120

•موكب الظهيرة: من ص121 إلى ص129

• رحلة في جوف الظلام: من ص130 إلى ص135

•الحادثة: من ص 136 إلى ص146

النصوص القصصية التسعة الأولى استمدها ذ. لحسن باكور من مجموعته الثالثة «الزرافة تظهر في غابة الإسمنت» التي تم طبعها وإصدارها في السودان سنة 2017، بعد أن حصل بها على جائزة الطيب صالح. ومن إضمامته القصصية الأولى، التي صدرت سنة 2008 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بعنوان «رجل الكراسي»، انتخب النصين رقم10و11. ثم من مجموعته القصصية الثالثة المعنونة: «الرقصة الأخيرة» استل المنتخبات 12و13و14و15، وكان قد أخرجها لعموم قراء الأدب في 2016 ضمن سلسلة «كنانيش مراكش». وبالقراءة المتمعنة في هذه النصوص القصصية لا نجد أيما حضور لفرانتس كافكا، سواء بالنص على الاسم (الشخصي والعائلي) الذي عرف بهما هذا الكاتب العالمي، أو بالإحالة على نص من نصوصه الإبداعية التي اشتهرت عند قراء الأدب العالمي. ولكن، هناك استضمار، من قبل الكاتب ذ. لحسن باكور تنضح به كتابته القصصية، لمقومات وخصائص تميزت بها الكتابة السردية عند هذا الأديب العالمي المحسوب على الأدب ألأوروبي الحديث في صيغته الألمانية، وهي الخصائص التي تتجلى في حضور الغموض والالتباس، وفي التحول والانمساخ، وفي صوغ ما يفيد الدلالة على كون الإنسان الحديث والمعاصر يعيش في عالم تغلب عليه عوامل القهر النفسي، والقلق الأونطولوجي، ضمن نظام من القهر والعسف العبثي سواء في علاقاته المجتمعية أو في صلاته وارتباطاته السياسية، كما في صلاته بالوجود داخل العالم الفيزيقي وأبعاده الميتافيزيقية.

مستويات من التحول والانمساخ في قصص

«باب مراكش»:

في هذه المجموعة المنتخبة من قصص ذ. لحسن باكور يحضر ما هو كافكاوي، ونعني به ما هو غرائبي وعجائبي، وهو الذي يتجلى في ما هو أسطوري أو شبه أسطوري، وقد يتجسد من خلال التحول والانمساخ، كما قد يتجلى من خلال مواجهة التجسد المادي للرهاب، ومن خلال القلق النفسي والأونطولوجي، علاوة على التصوير الاستعاري والرمزي والفانطاسماغوري. وقد يكون اختيار «باب مراكش» عنوانا لمجموع المنتخبات، وهو عنوان القصة رقم 6، مؤشرا في حد ذاته على العجائبية والغرائبية. وما ذلك إلا لأن لفظة الباب تحيل على معنيين متناقضين، فقد تكون بابا للدخول صوب الحضن والكنف، وذلك الحضن والكنف قد يتسم بالدفء، مثلما قد يتميز بالبرودة. كما قد تكون تلك الباب بابا للخروج، وهو خروج إما صوب الرحابة والأمن أو نحو الضيق والضنك والظلم.

1. «باب مراكش» عجب وغرابة

في أدنى المستويات:

إذا كان قد قيل عن بعض الفضاءات إن (الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود)، والعكس صحيح: (الداخل إليها مولود والخارج منها مفقود)، فإن بطل قصة «باب مراكش» يدخل هذه المدينة العجيبة والغريبة من ساحتها الشهيرة (جامع الفنا) التي هي مجمع العجب والغرابة، حين تلتقطه إحدى بائعات الهوى الفقيرات، فهو ما جاء إلى هذه المدينة، وما دلف إلى ساحتها، سوى من أجل التمكن من تلبية شهوته الجنسية، يقول في ختام سرده: (…باب المرأة هو أول باب علي أن أدخل منه مراكش قبل أبوابها التاريخية المشهورة…). هو طالب جاء ليدرس الفكر الفلسفي، وشجعه صديق له على ولوج المدينة من مدخليها: المرأة والساحة. لكنه، وهو يسعى للتخلص من احتقانه الجنسي، سيجد نفسه في الساحة (جامع الفنا) ثم في غرفة حقيرة وقد تلقفته بين يديها امرأة امسخت عن الصورة الأولى التي رآها بها. فالمفاتن التي سحرته في الساحة، وحفزته على السير وراء صاحبتها بغاية ممارسة الجنس، تحولت إلى تشوهات في ظل الغرفة الموحشة والكئيبة التي تعيش فيها، وتستقبل فيها زبناءها الذين أعمتهم الرغبة الجنسية. ففي سعة ورحابة الساحة (جامع الفنا) ظهرت المفاتن الجسدية للأنثى، فتأججت الرغبة، وفي ضيق ووحشة الغرفة تجلت التشوهات الجسدية لنفس الأنثى، فخبت تلك الرغبة وتلاشى أوارها. ومن جهة أخرى سيعيش هذا الطالب تجربة مع هذه الأنثى، يتكشف له عبرها تحول هذه الأنثى من امرأة قادرة على التحكم فيه، إذ تفرض عليه البقاء في غرفتها رغما عنه، إلى امرأة في حاجة إلى عطفه ومساندته ولو بالإنصات لها وهي تحكي مأساتها، فتصور كيف كانت في قمة شبابها مطلوبة ومرغوبا فيها، ثم كيف استحالت منبوذة من طرف من كانوا يتهافتون على صحبتها، فغدا حضورها مرفوضا في الفضاءات التي كانت تستقبل فيها من قبل استقبال النجوم. ولربما هكذا يتجلى التحول والانمساخ في أدنى مستوياته وأبسط درجاته من خلال قصة (باب مراكش)، فالمكان يتحول من الانفساح (ساحة جامع الفنا) إلى الضيق (غرفة موحشة كئيبة)، والإنسان ينتقل من حال إلى حال نقيض: فالمرأة الحسناء في الساحة تغدو شوهاء في الغرفة، وهي التي كانت مطلوبة ومرغوبا فيها من قبل الطالب تصبح بعد انهيارها إثر انفجار جراح مأساتها هي التي تتوسل شفقته ومساندته. أما هو، الطالب القادم من أجل تلبية شهوته، فإنه ينصدم منذ دخوله الغرفة، ويخبو ما كان فيه من تأجج شهواني، وبدلا من أن يحقق ما سعى إليه فإنه سيتعرض للتعنيف والسرقة من قبل السكيرين اللذين عبر بهما عند دخوله مع المرأة، وعند مغادرته غرفتها.

2.العجيب والغريب من الدلالة النفسية

إلى الدلالة الاجتماعية السياسية:

وهناك مستوى أعلى من الغرابة والعجائبية، يتمثل في القصة رقم 12 وهي الحاملة لعنوان: «المصعد»، وقد أشرعها ساردها بالتصريح: (كلما دخلت مصعدا صعقتني رجفة الخوف.)، فهو يخاف من أن يصير المصعد (…إلى قبر فولاذي عالق بين السماء والأرض…) قد يمكث فيه سجينا، وقد يهلك بداخله جوعا وعطشا، كما قد يغدو (…هاوية سحيقة مظلمة القاع!..)… ويمضي السارد معترفا بخوفه من كل شيء، وقد (…استفحل إلى رهاب لعين استوطن مني الأعماق.). ثم يخبر المسرود له بأن مقر عمله الذي خاض من أجل الظفر به حربا شرسة كان نكاية فيه (… في الطابق السادس من عمارة شاهقة العلو؛ حيث لا مفر من استعمال المصعد.. أي التعرض لحصتي تعذيب يوميتين، على الأقل، صعودا وهبوطا.). فحتى وهو وسط جموع الصاعدين أوالهابطين كان يعيش عذابا مزدوجا: جسدي ونفسي، فجسمه يتعرق متشنجا، ونفسه تنقبض خوفا من المصعد وقلقا من معرفة الآخرين بحاله المضطرب خوفا وجزعا. وبغاية إجراء محاولة للتخلص من هذا الرهاب، يقرر السارد المغامرة بركوب المصعد بمفرده، حينما يكون جميع مستعمليه في هذه العمارة قد أفرغوا مكاتبها. ثم يشرع خلال حصة الفراغ هاته في الصعود والهبوط ما بين الطوابق العشرة. ولكن، في لحظة مباغتة يركب رفقته من الطابق العاشر شخص: (…كما لو كان كائنا شفيفا من دخان. كان رجلا نحيفا، طويل القامة وغريبا لم أره من قبل، يرتدي معطفا رماديا طويلا مفتوح الأزرار تهبط أطرافه إلى حدود كعبي حذائه.)، وهذا الكائن الغريب سيتحكم في سير المصعد ما بين الصعود والهبوط، وقد اتخذ من السارد مادة للسخرية، معيرا إياه بخوفه وجبنه، ومانعا إياه من مغادرة المصعد. ويزداد غليان قدر الغضب بين جوانح السارد، فقد نكأ الغريب جراحه النفسية، حين تحداه متهكما به، مما أفضى بالسارد دون شعور منه إلى تطويق عنق خصمه، وتشنجت أصابعه فوق قفا هذا الكائن وحنجرته، مع تزايد ضغطه عليهما، إلى أن صار الخصم يتهاوى ميتا. وهنا يجد السارد نفسه قد أضحى في مواجهة أسئلة مصيرية: ما مبررات وجود الجثة معه في المصعد؟ كيف يمكنه إخفاؤها؟وما هذا الذي يحدث له؟ أهذا كابوس من كوابيسه اللعينة التي حولت حياته جحيما؟. ولكن المصعد يتوقف عند بلوغه الطابق الأرضي، وينفتح أمام (جسد البواب)، فيكتشف السارد اختفاء جثة القتيل الذي كان يناكفه محاصرا إياه داخل المصعد وساخرا منه.

يخبرنا سارد هذه القصة أن اللقاء بالرجل ذي المعطف الرمادي الطويل كان قد حدث في الطابق العاشر، أي في أعلى عليين من العمارة، وأن التعذيب الذي سلطه عليه جرت أطواره ما بين الطوابق العشرة، إذ كان الاستفزاز والتجريح، ثم تلته عملية تطويق العنق والخنق التي أدت إلى مقتل ذلك الذي (… كان كائنا شفيفا من دخان…)، وبالهبوط إلى الطابق الأرضي سيتلاشى الكائن الشفيف من دخان، فلا جثة ولا جريمة، وإنما هو السارد وقد صارع خصمه الذي يسكن ذاته، فكره وجسمه ووجدانه، فهل تخلص نهائيا من رهابه؟ يقول السارد في نهاية النص: (… أمعنت النظر فأدركت على نحو غامض ومبهج في آن، أني كنت لوحدي داخل المصعد. ارتبكت واختلطت بداخلي مشاعر الفرح والدهشة والخوف(…) رحت أركض وأركض بأقصى ما أستطيع، لا يعيقني شيء ودون أن ألتفت.)

قد يكون من المتيسر تناول هذا النص القصصي باعتباره يعالج حالة سيكولوجية، يعاني منها ومن عقابيلها العديدون في الواقع، فالسارد يحكي كيف عاش لحظة فانطاسماغورية، أي قضى في المصعد، ما بين الصعود والهبوط، لحظة تخيل فيها ما أرعبه، إذ توهم خوفه وفوبياه قد تجسدت أمامه كائنا بشريا مخيفا بنحافته وقامته الفارعة الطول وأصابعه التي تحكمت في أزرار المصعد، وباستفزازه مع سخريته، ثم تخيل أنه دخل مع خصمه ذاك في صراع، فتمكن من صرعه  والقضاء عليه. ولكن، نرى كذلك أن ليس من المتعسر مقاربة هذه الموضوعة من زاوية أليغورية، وهو ما بدا لنا حين ربطنا ما بين النص وظروف إنتاجه. فقد تساوقت كتابة هذه القصة (المصعد) مع ما كان يعيشه العالم العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، وجاء صدورها ضمن مجموعة (الرقصة الأخيرة) سنة 2016، وفي حسباني وظني أن ما عرفناه تحت مسمى الربيع العربي، وذلك التوق إلى التحرر من العسف والطغيان الذي جاءت به ثورة الياسمين وما تلاها من أحداث، كل ذلك يكمن بمعنى ما في خلفية محكي هذا النص. ألا يمكن قراءة المصعد رمزا للرغبة في الرقي والتقدم على المستويات الاجتماعية والسياسية؟ وأن مصارعة السارد وصرعه للرجل الغريب توازن وتوازي رمزيا مصارعة ثوار الربيع العربي لذلك الخوف والتردد ولكل شكل من أشكال الرهاب الناجم عن ما يمارس من إرهاب في المجتمع؟

3. (علال المحكور) يجسد العجب والغرابة في مستوى أعلى حين صار زرافة:

ثم تزداد وتيرة الغرائبية حدة، فيشتد ما يثير العجب والاستغراب في نفس القارئ المتلقي لهذا النص القصصي الذي استهل به الكاتب ذ. لحسن باكور مجموعة اختياراته القصصية هذه، وهو المعنون: ((الزرافة تظهر في غابة الإسمنت)). قد يفترض القارئ، انطلاقا من العنوان، مجموعة احتمالات، منها: أن الزرافة المقصودة هي ذلك الكائن الحيواني المعروف في غابات إفريقيا، وأنها لسبب ما ظهرت في إحدى المدن الحديثة، ما دامت عبارة (غابة الإسمنت) يراد منها الدلالة على هذه المدن ذات العمران الحديث، والتي تكون متشيدة عبارة عن عمارات تعلو طوابقها وتتعالى حتى عنان السماء، متشكلة من شقق ومكاتب وأسواق ومولات…

لكن، لندع الاحتمالات جانبا، ولنتقدم من النص في ذاته، ولنتأمل جملته الافتتاحية التي يقول ساردها: ((عندما استيقظ ((علال المحكور)) من النوم ذلك الصباح ووقف أمام المرآة لم ير وجهه!))، فنجدها تذكر القارئ لها بالسطر الأول  في رواية «المسخ» لفرانتس كافكا، والذي تقول جمله السردية: ((استيقظ غريغوري سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول إلى حشرة هائلة الحجم،))، وذلك حين نلاحظ أن الشخصيتين السرديتين: علال المحكور وغريغوري سامسا، كلاهما قد أسند إليه السارد العليم القيام بفعلين، أولهما فعل عادي، يقوم به كل كائن بشري أو حيواني بعد انتهاء حصة نومه الطبيعية، والفعل الثاني يثير لدينا – نحن القراء – الاستغراب والتعجب، ويدفعنا إلى محاولة اكتشاف السر وراءه متسائلين: (لماذا لم ير علال المحكور وجهه؟) و(ماذا سيفعل غريغوري سامسا مع ما وقع له من تحول وإمساخ؟ هل يمتلك إمكانية ما لعلاج حالته؟ وكيف سيواجه محيطه الاجتماعي؟). لكن، لنترك غريغوري سامسا ووضعه المأساوي، ولنلتفت إلى تسجيل أن المشترك، بين هذه الشخصية الخارجة من فكر وخيال وحبر فرانتس كافكا وبين مضارعتها الصادرة عن فكر وخيال وحبر ذ. لحسن باكور، يتمثل في التحول والامساخ. لكن على العكس من فرانتس كافكا الذي يسارع إلى صدم قارئه إذ يقرر منذ الجملة الأولى في سرده أن البطل (وجد نفسه قد تحول إلى حشرة)، فإن الأديب المغربي ذ. لحسن باكور، يترفق بقارئ قصته هذه، إذ يتمهل في عرض أطوار التحول التي تطرأ على جسم ونفس بطل قصته. وهكذا نجد أن هذا المسمى (علال المحكور) حين استيقظ من نومه اكتشف بذعر أن رقبته طالت طولا غير معقول، وأن في أعلى قنة هامته ظهرت حدبتان صغيرتان، وتذكر أنه أثناء نومه (…ارتطم رأسه بعنف بجدار الغرفة…)، وقد أحس بالصدمة مما حدث له وبالعجز عن تفسيره واستيعابه. ولأنه كان على موعد مع حبيبته في يومه ذاك، فقد ازدادت نفسيته تعبا، وغمره الحزن. ومن بيته إلى المنتزه، حيث موعد اللقاء بالحبيبة، عاش عناء شديدا وحزنا مريرا، فقد (…حاصرته النظرات والتعليقات الجارحة بقسوة…). ثم في المنتزه سيطول وسيعذبه الانتظار، فقد: (…مرت دقائق الانتظار خشنة ثقيلة الوطء.)، بل يخبرنا السارد أن موعد اللقاء كان قد انصرم منذ مدة دون أن تظهر المرأة، وعلال جالس ممسكا بباقة الورد. وفجأة ظهرت المرأة، (…بدت له أجمل وردة في الحديقة كلها، لكنها.. كانت برفقة رجل آخر!). ثم سرعان ما توالت الصدمات على علال المحكور، بحيث (…كان الحزن يأكله، ولم يكن يشعر بأي شيء (…)  توقف حائرا وشاعرا بالضياع والغبن (…) الصرخات الخانقة احتبست في صدره، (…) قرون توشك أن تخترق فروة رأسه (…) فصار يقف على أربع. (…) تمزقت البدلة إربا إربا(…) تقف الآن زرافة حقيقية…). وعلى مهل يتقدم بنا ذ.لحسن باكور لنقف على تحول علال المحكور من كائن بشري إلى كائن حيواني عجيب: الزرافة، فأحدث ظهوره في المنتزه، بهذه الصفة والحالة، اضطرابا وسط المرتادين، وامتد أثر ظهوره المزلزل لهدأة المدينة فطال السلطات المكلفة بحفظ الأمن، وتدرج (… إلى أن انتهى الأمر إلى حاكم المدينة…) الذي لم يشغل باله من الحادث سوى بما سيعرفه (المنتزه) من تبدد وضياع (…إنها الحديقة الأكبر والأجمل في المدينة كلها. كلفت المدينة ميزانية ضخمة وكلفته هو شخصيا الكثير من الانتقادات وصراعا ضاريا مع خصومه.). إن المهم والأساس في نظر مسؤولي المدينة ليس ما يعيشه إنسانها، بل ما يمكن أن يطولها فيغير ما أنشأوا فيها من بنايات. ليس خوفهم وقلقهم مما يحدث للإنسان ماديا ومعنويا، إنما خوفهم وقلقهم على ما سيطرأ على إنجازاتهم ومكانتهم (مصالحهم المادية ومعنوياتهم الرمزية) من تهديد بالتعديل والتغيير.

لقد انتقى القاص ذ. لحسن باكور لشخصية بطله المضاد في هذه القصة اسما هو (علال)، ووسما هو (المحكور)، وهو اختيار يصرح للقارئ منذ التعريف البدئي بان هذه الشخصية تعاني من (العلل) بعدما (عللت) غيرها، إذ قدمت لهذا الغير ما به يحيا من جديد، ما دامت (علال) مشتقة من (العلل) بفتح العين واللام، وهذا مصدر الفعل (عل) الذي يستعمل لإفادة مجموعة من الدلالات والمعاني وفقا للسياقات التي يأتي ضمنها، ومنها: (علل العطشان): سقاه سقيا بعد سقي، كما منها: (عل فلان): مرض، أصابته علة معينة. ولعل علة العلل التي تعاني منها شخصية هذه القصة هي ما أعلنته بحدة تلك الصفة الوسم (المحكور) التي تعني أن الموسوم بها يعاني من (الحكرة=الحقرة، الاحتقار وقلة العناية بل عدمها من طرف المحيط)، و(الحقرة) اصطلاح في مجتمعات شمال إفريقيا تجمع في أحشائها الدلالة على كل ما يحس به أي كان عاش ظلما وغبنا، عسفا وحيفا واحتقارا. فلنسجل مع السارد كيف أن ما يحيط بهذا ال(علال) من أشياء ينضح بالبؤس: (… حطت عيناه على الجدار؛ بالضبط فوق بقعة رطوبة عبثت بالجير الرخيص ورسمت فوق الجدار ما يشبه وجها لحيوان مألوف(…) أعلى المرآة المنقطة حوافها بفضلات الذباب (…) سريره المتهالك (…) داخل شقته الصغيرة المكتراة ذات الغرفة الوحيدة …)، وكذلك لا ينحصر البؤس في محيطه، بل يمتد ليشمل حالته الجسدية (…أنفه الأفطس بندبته القديمة المتبقية من شغب الطفولة(…) فطالعه الوجه حينذاك شاحبا تعلوه صفرة مرضية وقد بدا أكثر ضمورا من ذي قبل!)، وليطول حالته النفسية: (تمنى بضراعة لو كان نائما لا يزال… ندت عنه شهقة ذعر…. مصدوما وعاجزا عن استيعاب ما حل به… مكتئبا، ومغمورا بالشقاء….). وإن هذه المعطيات التي تطول المستويات الاجتماعية والنفسية التي يعيش وفقها (علال المحكور) لهي ما تبرر تحوله وامساخه الرمزي. لكن لماذا اختار الكاتب تحول هذه الشخصية إلى (زرافة)؟

وقبل أن أتصل بالكاتب ذ.لحسن باكور لأسأله عن سبب اختياره لتحول بطل قصته إلى زرافة،  تذكرت ما كنت قد عاينته مرارا في الطفولة والمراهقة مما كان يتعرض له شخص في حينا وغيره من أحياء مدينتنا. فشخصية (علال المحكور) الورقية حفزتني على تذكر هذا الشخص الذي من لحم ودم، والذي عايشته زمنا، ورأيت بأم عيني كيف كان ينقلب هدوؤه اضطرابا وارتجافا، فيتطاير الزبد من فيه وقد صار شبيها بجمل هائج نتيجة لما كان يتعرض له من استفزازات صبيانية. لقد كان هذا الشخص شبيها إلى حد ما ب(علال المحكور)، فهو الآخر طويل العنق، فارع القامة، مقوس الظهر، تتدلى يداه المديدتان إلى جنبه، ويبدو على نظرته نوع من السذاجة المفرطة التي قد تبلغ حد الهبل. وكان الأطفال ما يفتأون يعاكسونه، منادين عليه بأصواتهم الحادة في نشاز: (وا الصاروخ! وا مسخوط الوالدين! واسلوم المخارة!)، فيتوجه إليهم صارخا في وجوههم، ومحاولا التخلص من زعيقهم بالنعوت المشينة التي كانوا يلصقونها به. وإذ يبلغ به الغضب حدا لا يطيقه فإنه يلجأ إلى ما تيسر له من الحجارة ليقذف بها جميع من في مرمى بصره ويديه. كان (الصاروخ) يواجه مناكفيه ويبادلهم العنف اللفظي والمادي، ولم يكن مثل (علال المحكور) الذي لم يجرؤ على مقاومة وضعه البئيس وحالته المزرية، بل ظل ثابتا، متحملا وصابرا على ضنك المرض والتعب والجوع مع العطش. ولم الزرافة؟

ثم عمدت إلى خزانة كتبي مستخرجا كتاب الإمام العالم أبي عبد الله زكريا بن محمد بن محمود القزويني (المولود سنة: 605هـ/1208م، والمتوفى سنة: 682هـ/1283م). ففي هذا المصنف، الذي منذ عنوانه يعدنا صاحبه ببيان: ((عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات))، أورد القزويني حديثا عن «الزرافة» ضمن الباب الذي عنونه: (النظر الثالث: في الحيوان)، وبالضبط حين حديثه عن (النوع الرابع من الحيوان: النعم). وفيه سلط أضواء التعريف بالأنعام التالية: الإبل، والبقر، وبقر الوحش، والجاموس، والزرافة، والضأن، والمعز، والظبي، والمعز الجبلي. وسجل بخصوص هذا المجموع الحيواني أنه: (…كثير الفائدة، شديد الانقياد، ليس له شراسة الدواب ولا نفرة السباع، ولشدة حاجة الناس إليها لم يخلق لها سلاح شديد كأنياب السباع وبراثنها وأنياب الحشرات وإبرها، ومن شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش وخلقت ذلولا…)(2). ثم كتب القزويني بخصوص «الزرافة»، واصفا إياها كما يلي: (… رأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقر، وجلدها كالنمر، وقوائمها كالبعير، وأظلافها كالبقر، طويلة العنق جدا، طويلة اليدين قصيرة الرجلين، وصورتها بالبعير أقرب، وجلدها بالبقر أقرب وأشبه، وذنبها كذنب الظباء.)(3). ولعل التشبيهات الواردة في وصفه لهذا الكائن الحيواني العجيب «الزرافة» تجعل منها جماع ما شبهت به، وذلك ما سيتضح أكثر حين تعرض المصنف لذكر ما قيل عن كيفية تولدها (… من ناقة الحبش والبقرة الوحشية والضبعان…)(4)، وتفسيره لذلك بكون (…الضبعان ببلاد الحبشة تسفد الناقة، فتجيء بولد بين خلقة الناقة والضبعان. فإن كان ولد تلك الناقة ذكرا، ولحق بالمهاة، أتت الزرافة.)(5). ثم عزز القزويني دعوى القائلين بتولد «الزرافة» العجيب من هذه الحيوانات بما حكاه (طهمان الحكيم)، وهو: (… أن بجانب الجنوب بقرب خط الاستواء يجتمع بالصيف حيوانات مختلفة الأنواع على مصانع الماء من شدة العطش والحر فربما تسافدت غير أنواعها فيتولد مثل الزرافة والسمع والعسار وأمثالها…)(6). ولأن القزويني، حين حديثه عن كل واحد من حيوانات هذا النوع الرابع، لم يكن يكتفي بتسجيل الأوصاف الجسمانية التي يتميز بها، ولا بالحديث عن كيفية توالده وما يحتاجه من مأكل ومشرب وبيطرته، بل كان يخصص فصلا يكشف فيه خواص أجزائه، وكيف يستفيد منها الناس مأكلا ومشربا واكتحالا وسعوطا وبخورا… فإنه سجل في ختام حديثه عن «الزرافة» أنها (… من الخلق العجيب ليس عندها إلا ظرافة الصورة وغرابة النتاج.)(7).

وتسعفنا هذه المصاحبة للمصنف العالم زكريا بن محمد القزويني على أن نضع أيدينا على أن «الزرافة» كائن حيواني عجيب وغريب، فهو عجيب من حيث الخلقة الجسمانية، ومن حيث التولد عن من تشبه أجزاؤه أجزاءها العضوية من الحيوانات الأخرى. وهو غريب بين مجموع (الأنعام)، أعني الحيوانات التي تستفيد البشرية من: ألبانها، ولحومها، وجلودها، وأوبارها، وبعرها، وغير ذلك مما ينتج عنها من منافع. فالزرافة بحسب ما سجله عنها القزويني غير ذات نفع، وإن كانت تمتلك (ظرافة الصورة)، علاوة على أنها من دون سلاح للمقاومة، وتتميز بـ(الثبات والصبر) لأنها (خلقت ذلولا). وهي بكل هذه الصفات الجسدية والنفسية شبيهة بشخصية (علال المحكور). وإن كان ذ.لحسن باكور، حين سؤاله عن مبرر اختياره أن يتحول (علال) إلى «زرافة»، أخبرنا أن فكرة هذه القصة انبثقت في ذهنه بعد أن توالت ملاحظته للسلوك غير السوي لشخص كان يأتي المقهى، التي كان يرتادها ذ.لحسن باكور، وكان لا يتوانى عن التلصص دون خجل على ما كان يقرأه في صفحات الجرائد غيره من الزبائن الآخرين، وقد كان هذا الشخص طويلا فارع الطول، وأنيق الملبس، ويضع ربطة عنق طويلة تزينها بقع صفراء اللون، ورغب الكاتب في معالجة ظاهرة التلصص والبصبصة التي يمثلها هذا الشخص… ولكن كان للقصة أن تفرض سيرورتها وصيرورتها، فتتشكل وفقا لمنطقها الداخلي، وتقدم بالتالي ما يمكن أن تتشيد منه معاني ودلالات غير ما رامه كاتبها… كما كان للقراءة أن تسعى لتخط لنفسها مسارها الخاص، وتحفر لها ما يسعفها على العثور على الماء في جب الشعر/السرد الكامن في ثرى هذا النص القصصي.

4. العجب والغرابة في اختفاء المواطن أحمد الغبري:

في هذا النص القصصي (الوقائع الغامضة لاختفاء المواطن أحمد الغبري) تستوقفنا أولا لفظة (الوقائع) في العنوان، لأنها تذكرنا بما عنون به الكاتب الأديب الفلسطيني إميل حبيبي رائعته الروائية: (الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)، ثم يستوقفنا ثانيا ذلك الإهداء الذي تقدم به الكاتب ذ. لحسن باكور (إلى روح صديقي القاص الراحل أحمد طليمات). فبحسب ما نعلمه عن الأديبين الفلسطيني (حبيبي) والمراكشي (طليمات) هو أنهما معا كانا يشتركان في التهمم بقضايا المجتمع والإنسانية، وأنهما معا كانا منخرطين في الفعل النضالي، وقد انشغلا بالأدب كتابة، فظهرت لكل واحد منهما أعمال إبداعية تميزت بمحاولة إنتاج كتابة سردية تمتاح من التراث الإبداعي العربي والإنساني، وتعمل على إنجاز أدبها الخاص، أدبها المنغرس في تربة الإبداع الأدبي الإنساني العام والمشترك. فلم يكن الأدب والكتابة عند كل من الفلسطيني إميل حبيبي والمراكشي أحمد طليمات غواية وعبثا، بل كانا يمثلان عندهما ساحة من ساحات النضال والمواجهة لكل ما هو مشين بالحياة وضار بالوجود الإنساني.

وفي حمل اسم (أحمد) يشترك بطل القصة مع الكاتب القاص المهداة إلى روحه، مثلما يتقاسمان نفس التهمم والانشغال الممض بمصير بلدتهما (مراكش). لكن، إذا كان أحمد طليمات قد رحل عنا مخلفا أعماله السردية الروائية والقصصية والشعرية لتخلد دعواه للحرية المقرونة بالمسؤولية ولصنع سبل إبداع الحداثة الممكنة والجمال، فإن ما كان يخافه على مدينته (مراكش البهجة) ما يزال يتحقق أمام أعيننا، منذ صارت دور ورياض هذه المدينة العتيقة نزلا ومضايف يسيرها ويدير شؤونها أجانب، مستخدمين فيها أبناء وبنات البلدة والوطن لتلبية رغبات السياح الأجانب.

و(أحمد الغبري) لا يختلف عن (أحمد طليمات)، من حيث إن كليهما سكن في بيت بأحد أحياء المدينة العتيقة، ثم انتقل للسكن في حي حديث خارج الأسوار، ومن حيث إن كليهما كان (… يجالس نفسه. فهو رجل ((حدودي داخل سوق راسو))…) وإن كان كل منهما (… لا يتورع أحيانا عن الجهر ببعض الآراء أو المواقف الغريبة التي تلفت إليه الأنظار…)، وبخاصة منها ما يتعلق بمهوى عشقهما المشترك (… مراكش التي يسميها مراكش السوداء…).

وإذا كان قد قيل (إن من العشق ما قتل)، فإن اختفاء (أحمد الغبري) قد نجم بحسب ذ.لحسن باكور في هذه القصة عن ارتباطه العاشق لمدينته، وتعلقه بحيه القديم حيث أصدقاؤه المرحين والحميمين، وحيث بيته العتيق الذي تآكله الندم على بيعه والتفريط فيه لصالح (…تلك العجوز الفرنسية الضئيلة…). فالسارد العليم يخبرنا أن (أحمد الغبري) لبث يوم اختفائه يعيش حالة من الانقباض، لاحظها مجالسوه في الحديقة العمومية، ومع أنهم حسبوها نوبة من تلك النوبات التي عادة ما تعتريه، فقد سجلوا (…أن غيمة الأسى المطبقة على صدره هذا المساء أكثر كثافة…)، وقال صديقه «العوينة» منبها الآخرين: (( ألم تروا أنه مخطوف شارد، ومنذ جلس لم يكف عن نفض ثيابه؟!)). ولم يخف الضيق الذي كان يطبق على صدره منذ الصباح سوى حين دنا من حيه القديم، لكنه سرعان ما عاد في شكل (…سحابة أخرى من غبار انقضت عليه فجأة من حيث لا يدري، غطت وجهه واخترقت خياشيمه…).

لم يكن هذا الأحمد الغبري غبريا منذ كان وانوجد في خيال الكاتب الأديب ذ.لحسن باكور، بل كان كائنا مراكشيا، وفي رواية أخرى كان اسمه (أحمد البهجة)، فهو من مدينة (مراكش البهجة)، على غرار لاعب كرة القدم الذي اشتهر بنفس الاسم، ولعب في صفوف عدة أندية مغربية وسعودية، ويمكن عد (أحمد الغبري) الفاقد (البهجة) من المنافحين والمدافعين على تراث مدينته وحضورها الحضاري والثقافي على غرار سميه الأديب طليمات. فمثلما كان أحمد طليمات يتألم لما طال ويطول هذه الحاضرة المرابطية من تشوهات عمرانية، ومن اجتثاث لأشجارها ونخيلها، وما كانت تتسم به بصفتها واحة، فإن (أحمد الغبري) أبكته تلك النخلات التي (…مات معظمها عطشا أو حرقا…) وقد استبدت بفضائها (…جرافات عملاقة تتحرك في الخلاء وتزمجر وهي تغرز مخالبها في بطن الأرض وتقتلع جذوع النخل مطيحة بها أرضا، ومثيرة سحبا كثيفة من الغبار.)، بل يتحدث عنه مقدم الحي في تقريره المرفوع إلى الجهات المختصة، فيذكر قائده بتعامل (أحمد الغبري) مع (…نخيلات بعد طرية العود (…) انهمك في انتزاعها برفق خشية أن تتأذى، قبل أن يودعها أكياسا…).

هذا الكائن المراكشي المفتقد ل(البهجة) بسبب ما طال مدينته من تدمير لمعالمها العمرانية ومن إفساد وتخريب لمميزاتها الأيكولوجية، سيتحول إلى كائن من غبار محكوم بالزوال. فقد أعدمت واحة النخيل العظيمة وسكنها الغرباء مشيدين فيها ما لا صلة له بعمران المدينة، وخرج (أحمد الغبري) من بيته داخل الحي القديم في المدينة العتيقة، إذ سكنته (عجوز فرنسية ضئيلة)، وغدت مدينته مغبرة بكثافة لدرجة أنه في البدء (… أوشك أن يختنق بالغبار الذي تسرب إلى رئتيه…)، ثم عند مروره ببيته الفقيد (…تراءت له غيمة غبار عملاقة تغطي الزقاق (…) حينذاك اكتشف مذعورا أن الغبار ينبع من داخله…)، وفي سيارة الأجرة التي استقلها في العودة إلى الحي الجديد كان (…يخشى أن تتذرر أطرافه ويصير بدنه الهش كومة غبار قبل أن يبلغ وجهته.). وداخل البيت الجديد سيشعر بالاختناق، فذرات الغبار التي تتناثر من كل جزء وعضو من جسمه (… تتراكم في حلقه وتسد منخريه…)، لذلك فقد رمى بنفسه المتفتتة ذرات غبار من النافذة.

انمازت الأعمال الإبداعية لإميل حبيبي، وبخاصة روايته ((المتشائل)) بالعديد من المقومات الأدبية المجتلبة من التراث النثري العربي، مما يتيح له التخلص من خطية الحكاية، ولعل ذلك ما يشاركه فيه الأديب المراكشي، فقد تميزت الكتابة الأدبية عند أحمد طليمات، المهدى إليه نص هذه القصة، بنزوعها التجريبي هي الأخرى مع الاستمداد والاسترفاد من التراث الأدبي العربي ممثلا في الشعر والحكي والمقامات، والاشتغال على اللغة والبلاغة ببيانها ومعانيها مع بديعها… وفي قصة (الوقائع الغامضة لاختفاء المواطن أحمد الغبري) سار ذ.لحسن باكورعلى نفس نهج إميل حبيبي وأحمد طليمات في التجريب. فمع وجود الراوي، وهو السارد العالم بكل شيء، ومن خلال حضوره وعبر ذبذبات صوته تصلنا أصوات ساردين آخرين هم: جلساء الحديقة العمومية، ومقدم الحي، ثم الحارس الليلي، وأخيرا الزوجة. ويتوسل كل واحد من هؤلاء الساردين للوقائع أداة مختلفة: فالجلساء في الحديقة العمومية يتكلمون جميعا واصفين شخصية أحمد الغبري، وكيف شاركهم اللعب دون حماس، ومقدم يتحدث بشكل فردي ورسمي موجها خطابه إلى من يمثل السلطة مستعملا الكتابة وفق قواعدها الإدارية، فيوظف الإخبار والوصف والتذكير، ويسبغ على كلامه ما يفيد اليقين مرة وما يستفاد منه الشك والريبة مرات… أما الحارس الليلي فيقر معترفا منذ أول كلامه بتعاطيه للخمرة ليلتها، ويصرح بعد ذلك برؤيته للشخصية حين تهاويها في الفراغ وتبددها غبارا، ولكنه يفصح عن عدم فهمه لما شاهد، فمعرفته بشخصية (أحمد الغبري) الرزينة والمتعبدة المصلية لا تتوافق مع افتراض انتحاره، مع أن ذلك هو ما رآه يحدث. بقي حديث الزوجة التي قدمت إفادتين، يستفاد منهما معا أنها لبثت ليلتها في انتظار عودة زوجها إلى أن غلبها النوم، فلما استيقظت في صباح اليوم الموالي أثار انتباهها وجود الغبار الكثير في العديد من مناطق الغرفة، فقد لاحظته (… فوق ملاءة السرير…) واسترعت انتباهها(… كمية أكبر من الغبار منثورة على طول إفريز النافذة.)، ثم رأت (…خيطا رفيعا من التراب ممتدا من قدم السرير حتى مدخل الغرفة.)… وكل ذلك أشعرها بالقلق والهلع، فخرجت للبحث عن زوجها غير عارفة أي وجهة تقصد.

أن يختفي إنسان ما في مجتمع معين قد يكون أمرا عاديا، لأنه قد يكون تعرض لحادث فحمله الإسعاف إلى مستشفى، أو قد يكون أصيب بفقدان الذاكرة فتاه عن بيته، وقد يتم اختطافه من قبل أعداء له كانوا يتربصون به، أو وقعت واقعة أفضت إلى تدخل عنيف لقوى تسلطية محلية أو أجنبية… لربما كل هذه الاحتمالات تبرر أنواع الاختفاءات التي بمستطاعها أن تطول بعض الأشخاص في ظل مثل هذه الظروف المعينة والمحددة… لكن، أن يتحول إنسان ما إلى كائن يتذرر ترابا وغبارا، فهذا يستدعي أن يكون قد نظر إلى عيني ذلك المسخ المسمى في الأساطير اليونانية (ميدوز**ا) ليغدو حجرا فيتفتت ترابا وغبارا. فمن الميدوزا التي وقع بصرها على (أحمد الغبري) فتحول إلى غبار يتذرر؟. أهي مدينة عشقه التي امسخت، وحين أبصرته يتجول بين دروبها والزنيقات سلطت عليه أشعة بصرها الماسخة؟ أم هي العجوز الفرنسية الضئيلة التي ابتاعت منه منزله القديم، ثم حولته إلى (…البناية الإسمنتية الجديدة ذات الطابقين، ورأى ضوءا في الطابق الثاني الذي تنبعث منه موسيقى غربية..)، وقد (تراءت له واقفة وسط باحة البيت على مقربة من نافورة الماء وشجرة النارنج، تمسك خصرها الضامربيديها وتجيل نظراتها في أرجاء المنزل وعلى وجهها ابتسامة ظافرة..).

هوامش:

*باب مراكش: مختارات قصصية، تأليف: لحسن باكور. الطبعة الأولى 2022، الناشر: دار بدوي للنشر والتوزيع (ألمانيا).

1.ص:285، ((عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات))، لأبي عبد الله زكريا بن محمد بن محمود القزويني، ط 02، المنصورة: مكتبة الإيمان، 2006.

2.ص:289، نفس المصدر السابق.

3. نفس الصفحة من نفس المصدر السابق.

4. نفسه.

5. نفسه.

6. نفسه.

7. نفسه.

**ميدوزا، أو ميدوسا: وحش من الأساطير الإغريقية. وهي امرأة تملك شعرا تحولت جدائله إلى ثعابين. وهذا الاسم يعني بالإغريقية (الحارسة الحامية). وتدعى كذلك غورغونة أي (المرعبة والمخيفة والمفزعة)، فهي واحدة من الغورغونات الثلاث اللواتي يحولن كل من يقع بصرهن عليه إلى حجر. ولأنها، في رواية، كانت أجمل من أختيها الخالدتين (ستينو وبوريال)، وكانت هي فانية، وإذ تجرأت على ادعاء معادلتها جمالا وبهاء للربة (أثينا) فقد مسختها هذه فأصبح وجهها بشعا ومرعبا. ويذكر الشاعر أوفيد رواية أخرى في الكتاب الرابع من مؤلفه «التحولات»، بترجمة لعلي أحمد سعيد أدونيس، تأتي على لسان البطل بيرسيوس جوابا على سؤال: لماذا وحدها تحمل ثعابين ممتزجة بشعرها؟ مفادها: أن إله البحار بوزايدون أغواها وضاجعها في معبد مينيرفا، أي أثينا، فغضبت هذه، وعقابا منها لميدوزا على هذا الانتهاك فقد حولت أهم مفاتنها، وهي خصلات شعرها، إلى ثعابين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق