
نسيت أن أكبر معرض فني للتشكيلية السعودية نور هشام السيف
بشرى بن فاطمة
«نسيت أن أكبر» 31 لوحة فنية من الحجم الكبير قدّمتها التشكيلية السعودية نور هشام السيف في معرضها الفني الذي احتواه فضاء نايل جاليري في القاهرة طيلة شهر جانفي الماضي اختزل حالة جمالية ثرية وعميقة، ناضجة وطفولية تعتّقت بصريا وتكوّنت تعبيريا لتثير تساؤلات الوجود والبقاء في تفاصيل ميّزت العمق المفاهيمي المختمر في سنة من الحجر الصحي الاجباري طغت بتفاصيلها الموحشة على العالم.
كان المعرض اختزال الحنين والصراع النفسي والذهني والعاطفي فيه، بين الانتقاء والمعايشة والهروب والتفاعل واللجوء المُرهق لجماله المنفلت من تفاصيل الزمن الهاربة، حاولت نور هشام السيف أن تحمل فيه ثباته الباقي مع تفاصيل ذاكرتها الثابتة في مخزون السينما العربية والعالمية الذي كان بالنسبة لها مُحفّز الحضور الدائم لتلك الذاكرة.
يحاكي المعرض وكما تقول الفنانة «التفكير في الماضي والحنين إليه من خلال كادر سينمائي خاص واستثنائي»، فكل لوحة هي عبارة عن مشاهد حملت عواطف متعدّدة قادرة على استقبال كل الهواجس والتناقضات والمشاعر المتلونة والمتحوّلة في إطار واحد استطاع أن يتحمّل الفرح والحزن والاحتفال والانعزال والحب والنفور والشهوة والكبت والقيود والتحرّر، بشكل متوازن السرد فنيا وتعبيريا.
ففي العزلة يطرح الانسان أكثر من سؤال عن وجوده وعن مكانه ومكانته، عن حضوره وتفاعله وعن علاقاته بين الآخر وبين ذاته ليتداخل في مراياه العاكسة شعوريا وذهنيا، فيكتشف أن الأمكنة في ذاكرته تشكّل مجازا متوافقا ومتوازيا معها ومتباعدا ومتجاذبا ومتصادما ومتصالحا مع كل معارفه وحواسه ومع شغفه المتمسّك أكثر بالحياة.
فالإنسان من خلال الذاكرة يرى ذاته الطفولية ويستعيد روحه الحالمة وتفاصيله الدافئة بين التأمل والحلم وبين التباعد والاقتراب، تلك الرحلة الهلامية التي تعيد تشكيله في الأزمنة فيتكامل فيها ليتشكّل صورا تستفيض إلى لوحات، تجربة اعتبرتها الفنانة التشكيلية السعودية نور هشام السيف في «نسيت أن أكبر» رحلة عايشتها وتعايشت معها في خيالها وذاكرتها وحواسها أنضجتها ومن ذلك النضج أنستها أن تكبر، لتبقى طفلة بين دماها وأشرطتها وأفلامها وشخصياتها وصورها التي زرعت فيها تفاصيل دقيقة وعميقة الحضور بحنينها حقيقية في أحلامها حرة ومقدامة في طموحها اللامنتهي.
فكانت هي الرؤية التي توغّلت فيها لتعايش فكرة العزلة والعزل في زمن الجائحة والتي جعلتها تفكّر بعيني فنانة وطفلة لها عالم من ألوان يتجاوز كآبة العزل وروتينه الداكن.
فالعزلة التي عايشها العالم لم تكن اختيارية بقدر ما كانت إجبارية عامة مفروضة على البشرية كمنعرج قلب مفاهيم البقاء، خاصة عندما كانت العزلة منفذ عبور بين الموت والحياة وخيطا رفيعا نفض غبار الذاكرة عن كل لحظات التأمل الداخلي في جوانبنا الإنسانية كجزء دقيق من حياة الانسان أعاده لتأسيس فكرة الحياة من جديد.
بحثت نور من خلال فنها عن عالم يُشبه انتماءها وشغفها الباقي بالصورة والكلمة والسينما واللون وكل ما فيها من أبطال انعكست على ذاكرتها بين الحاضر والماضي حوّلتها إلى شخوص وامتزجت فيها مع الأدوار التي تقمّصتها، فكان اللون داخل اللون انعكاس صور في صورها العالقة تلك التي توقفت فيها عند كل فيلم ومشهد وكل حركة ولقطة وكادر.
ساعدتها كل تلك العناصر على بناء مفاهيم العلاقات الإنسانية والأسرية وتعزيز فكرة الانتماء التي كسرت نمطية الروتيني بالروتين نفسه ذلك البعد الزمني المُتكرّر الذي أعاد ترتيب الحضور داخل الحياة من جديد وبين ذاك وذلك كانت الأسئلة رفيقة البحث عن أجوبة الوجود وتصورات المنشود وانبعاث الذاكرة من عمقها وهي تبحث عمّا يعزّز الإنسانية أكثر، العزلة أو المشاركة.
«نسيت أن أكبر»، عمل بصري فني تشكيلي هو تجريب داخلي يعبّر عن مخزون الأمكنة ودوافع الحنين التي تستنطق الذكريات نحو العمق بتصورات مرحة ومثيرة تتشابه في سطوحها حتى تكون أليفة ومتوافقة بين عمق الفنانة والمُتلقي في ذلك التماس الشعوري بينهما، بين دوافع الحنين في ذاكرتها وبين تواترها معا في استدراج المتلقي نحوها وكأنه يعيد قراءة ذاته معها.
تبدو التقنيات التي اعتمدتها الفنانة بسيطة ولكن قدرتها على تطويعها من خلال الأكريليك والقماش في تكثيف اللون وتدريجه وتناول الحركة مع العمق في تطويع الفراغ بحرفية بديعة الانسجام تعيد تلخيص أسلوبها وتقنياتها المتفرّدة بين اطلاعها المعاصر على البوب آرت في كثافة اللون وتسريعه الحركي عبر انسيابية متفاعلة تعالج الجوانب المرحة في فكرة الاسترجاع الزماني والتجادل مع الحدث المنتسب لزمن الذاكرة إضافة إلى نهلها من خصوصيات التعبيرية المعاصرة وعمقها الفكري القلق والحائر في وجوده وبين الواقعية الرمزية ومداها المنطلق في تراتبية العلاقة بين الزمان والمكان والشخوص، فقد كانت نور هشام السيف معاصرة بأسلوبها الذاتي المتفرّد الذي يرشح بأنوثتها المتمرّدة حتى على ذكرياتها التي صقلت شخصيتها في مرحلية ثرية التفاصيل هادئة وناعمة وحريصة على تخزين حضورها عبر كل مرحلة وكل انتماء لها.
تحمل نور هشام السيف شخوصها معها وتتنقل بذاتها معهم في علاقة غرائبية وكأنها تقوم بإخراج فيلم خاص بها فانتازيا تجتاح الروتين لتنتصر على الرتابة وتتكامل مع مواقفها الجديدة من الواقع ومن الحياة، فتعيد ترتيب تلك المواقف البصرية من صور الأفلام بتداخلاتها وتعاتقها بدورها مع أحداثها وانصهارها مع زمنها، حيث تفكّكها وهي تفتح منافذ بيوتها الصغيرة على كل شخصية وكل حدث وكل فيلم وكل تفصيل ذهني، لتطل منه على الماضي وتقرأ آثاره على الحاضر وهي تستعيد مع كل فكرة تناقضات الحضور الأنثوي الملوّن والعنيد وعلاقته بالآخر عاطفيا وذهنيا حيث تركّبه حسب مستوى حضورها الهادئ والصدامي المتناقض الغامض والمتسارع الواضح، وهي تستقدم أبطالها وتقدّمهم أقوى معها وتحاكيهم باللون والأبعاد فيتحول حضورهم إلى مشاركة متكاملة بينها وبينهم وكأنها تحاورهم من جديد وتستنطق الحنين باللون.
إن هذه التجربة تحمل فلسفة بصرية متعدّدة المعاني تلخّص فترة جائحة كورونا بتفاصيل القلق وتبعات التواصل الإنساني من خلال رصد المشاعر والذكريات قبل وبعد الجائحة وخلق انعكاسات حسية ومفاهيم باطنية تدور داخل الذاكرة وهي تتعاصف وتتهاطل بين الموجود والمنشود في رحلة القلق والانعتاق.
وكأنها تحاول أن تقول إن اكتساب المعرفة المؤكّدة لم يعد مقنعا في عصر التفكيك وبين كل ذلك التفكيك هناك الجماليات البصرية التي تنحدر من قمم العمق في ذاكرتنا، تلك التب تعتمد كل أساليبها الحسية والذهنية وتستدرجنا حتى نعيد ارتكابها ونحن نتأملها بحرص شديد وأمل يسترجع فينا ذواتنا التي لم تكبر وهي تتابع الذاكرة وكأنها تسترجع فيلما عالقا في ذكرياتنا وترصد فيه كل حركة ولون وضوء باعجاب وانبهار ودهشة لا يختف نورها.
نور هشام السيف فتاة بل هي طفلة حالمة ورسامة رائعة، يعبر فنها عن حالة وجودية فريدة يعكس الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان الاخر فينا، ذلك الحائر التاىه الذي يعاصر مشاعر متضاربة بالكاد يفهمها او انه يابى ان يدركها ليعيش التغييب والاغتراب في ازمنة مختلفة يلتقي فيها الماضي والحاضر في ان، فلا نحن لامسنا سعادة منشودة لن ندركها ابدا، ولا نحن عدنا إلى ماض طالما احتضن ضحكاتنا وزرع في دروبنا ورودا وباقات احلام جعلت من الامل ممكنا، لكن من السعادة شيئا مستحيلا.