ثقافة وفن

أهوار العراق

رمزية المفاهيم التعبيرية في تجربة أحمد الجليلي وليلى كبة

بشرى بن فاطمة

«أهوار العراق» ليس رمز تعبيري بصري يقف عند كونه مُجرد منفذ طبيعي يطل على التاريخ أو يداعب الحضارة بتفاصيلها الأسطورية والإنسانية وليس انتماء لمكان متنوع الملامح وثريّ على مستوى الطبيعة والتاريخ، فهو حضور كامل ومتكامل مع شخصية العراقي في تداعيات انتمائه لأرضه وحضارته، أثّر على ذاكرته فامتزج معها ومزج فيه ملامحه وشجنه.

فهو المكان الخصب والطبيعة التي احتوت تاريخ العراق القديم والحديث وهو حزن البحث عن الوجود في ظل التجفيف وسياسة المحو والإقصاء والتهميش.

والأهوار كمنطقة أثّر بشكل كبير على ذاكرة الفنانين وترك أثر العلامة والرمز فيهم منذ الخطوات الأولى للمستشرقين في العراق أدى إلى تشكل الملامح البصرية للتجارب التشكيلية العراقية، وهنا نلقي النظر والتحليل على تجربتين لهما عمق تعبيري وحضور مميّز وأثر جمالي حمل الحنين والحاضر التاريخ والطبيعة تجربة التشكيلي أحمد الجليلي والتشكيلية ليلى كبة التي اعتمد تفصيل الأهوار كرؤية بصرية عبّرت بتصورات استشرافية عن أهمية المكان وبحنين معمّق عن الماضي ومفاهيم الانتماء والبحث عن الهوية العراقية الثابتة على مر المراحل الإنسانية التي كوّنت الحضارات وثبّتتها.

أحمد الجليلي الرمز الموقف بين الحضور والانتماء

يطرح التشكيلي أحمد الجليلي موقفه عن الأهوار انطلاقا من انتمائه وهويته وبيئته بتشكيل تفاصيل متنوعة مكّنها من أن تحاكي الحضارات المتعاقبة على العراق وتنطلق بها نحو العمق في قصصها بين المبدأ الثابت والوجع الدافق استطاعت تلك التفاصيل أن تجادل الواقع مع الأسطورة.

تجربة الجليلي قدّمها على مراحل مختلفة تكاثف فيها اللون واحترف ترتيب المشاهد المتنوّعة ليغوص بها أبعد في صور استطاعت أن تظهر في حضوره الجدّي والمتعمّق شيئا فشيء بين ألوانه المندفعة في تراكماتها من الأزرق البارد والساحر إلى الترابي الثابت والواقعي، وبين كل ذلك يبدو المفهوم في علاماته حسيا وذهنيا.

فقد ركّز على دجلة والفرات في أعماله ليحيل على انتماء حقيقي يميّز العراق الحضارة «بلاد الرافدين»، كما يميّز الوجوه التي تنبثق من عمق الأسطورة والرموز التي أعاد فيها محاكاة الماضي والتاريخ في مجسّم الثور الذهبي السومري والجاموس المتداخل مع وجع الواقع في رقعة الشطرنج التي تشير إلى تحديات التناقض بين الوجود والعدم في تراكمات مركّبة تنسجم بين فكرتي الحضور المجادل لخواء الفناء في المعازف الحزينة التي تنشد الخلود.

حاول الجليلي في تجربته أن يقدّم جزئية هامة وعميقة من الواقع الداكن الذي هدّد ويهدّد منطقة «الأهوار» التي تقع جنوب العراق في منطقة الناصرية وميسان والمحافظات المُحيطة والتي تعدّ منطقة أثرية تمّ إدخالها إلى لائحة التراث العالمي اليونسكو.

وبما أنها من المناطق المهمة في تاريخ العراق الحضاري قامت عليها أولى الحضارات الإنسانية الأولى الحضارة السومرية التي ارتبطت بشكل كبير بالمخلوقات التي عاشت على ضفاف النهر وكذلك الكائنات المائية والأسماك وقد أنتجت تفاصيل الحياة القديمة والحضارة العريقة من خلال آثار متنوعة، وهنا اختار الجليلي أن يقدّم واقع المنطقة استنادا على تاريخها ساردا ما تتعرّض له من تهميش وإهمال بيئي أدى إلى هجرة سكانها ونفوق الحيوانات والتلوث البيئي.

حيث يبدو الإطار العام للمشهد جماليا ينعكس في ثراء المنطقة وتاريخها، يظهر فيه التمشي الميتافيزيقي  أشبه بخيال دافع للواقع ضمن غرائبية شاسعة الخيال رقراقة التدفق والتهاطل خاصة وهي تحاكي أمثولة الأنثى والسمكة والرجل والمركب الزورق وعلاقة السعي المندفع بين غواية الحياة والعمل فيها وبين الاندفاع الحالم والتدفق العميق، فالسمك في معانيه التشكيلية ورمزيته السومرية يعتبر رمزا للخصوبة وتجدّد الحياة والتمازج مع السمك خلق كائنا أسطوريا كان له تأثيره على مختلف الحضارات القديمة وبالخصوص حضارة بلاد الرافدين كما هي الأسطورة السومرية في «شوروباك» مثلا التي تجسّد تزاوج الانسان والأسماك.

ليلى كبة ثنائية الانتماء

ولعل هذه النقاط الرمزية التي حدّدها الجليلي في ترتيب حضوره الجمالي والتعبيري هي التي سعت إليها ليلى كبة بالتفعيل والحكايات المتوافقة مع ثنائيتها الثقافية فقد أخذت من أساطير بلاد الرافدين معبرا نحو الجمال ومنفذا نحو الجدال الممزّق للحضور المؤثّر في تفاصيله الحسية للأمكنة من اللون الأزرق الرمز إلى النخيل والطبيعة والانسان وبيوت القصب الشهيرة التي حملت حسية الحياة في منطقة الأهوار وتفاصيله المتفرّد.

فقد أثر المكان والتنقل والأسفار التي حملتها بين القارات من العراق إلى الإمارات ثم اليونان ومنها إلى بريطانيا فالولايات المتحدة الأمريكية ثم اليونان مجددا فلبنان لتستقر بثقل ما تحمل داخلها وتثري لغتها بمحمل الذاكرة وتنوع أفكارها وكم حنينها وحلمها بمدينتها الضائعة تلك التي عادت لزيارتها لكن دون أن تتعرف على ملامحها التي لم تختف من ذاكرتها رغم أن الوضع غيّرها وأثرت فيها كل الأبعاد وشوهتها السياسة والصدامات فعادت مثقلة بها وممتلئة بمخزون تعبيري ملون لم يكن داكنا بقدر ما كان مفعما بالأمل.

لمسته في التنوع والثراء المكاني والتفاعل النفسي الذي أثّر على تعاطيها التعبيري الفني وشكّل عندها دوافع للتجدد فقد كانت مثل عالم الآثار تبحث في كل تفاصيل انتمائها، حملت في ذهنها اللوحة بفكرتها وأخضعتها للتنقيب والبحث في الأسطورة عبر الملامح التي دمجتها في واقع الحالة المعاشة بتكثيف رمزي وهو ما أكسبها حرفية المزج بين الخامات.

فمنجزها زاخر بالتنوع بين اللون الزيتي على القماش الأكريليك الحبر اللوني المجفف والمتقن الانسياب، أي أنها تروي به اللوحة حتى يجف بدقة مع الأشكال المرسومة كأنما هو حبر ملون، ترتكز أعمالها أيضا على الملصقات الأوراق والقصاصات.

  للمكان بكل تفاصيله وملامحه تأثيره الأول في قراءة التداخل التفصيلي بين الواقع والحلم والخيال في اللوحة في ذهن ليلى كبة، لأنها تعوّدت تأمل الأمكنة سواء التي تكون فيها أو التي تقبع بعيدا راسخة في ذاكرتها، فتخلق بينها حركية تبث الحياة في اللوحة وتتركها تحكي كل التفاصيل وتعبر عنها بكل تلقائية وبساطة وتعقيد بمخزون التعايش وتأثيره النفسي.

ركزت ليلى كبة اهتمامها على التوجّه الإنساني وسلّطت الضّوء على العراق بكل ما يحوي من رموز الحضارة والتاريخ والإنسان سلّطت الضوء على الطبيعة وعلاقتها بالحضارة من خلال تدفق النهرين ومنطقة الأهوار، وظّفت في أعمالها رموزا متعددة «إنانا، تموز، أفروديت» تلك الآلهة القديمة التي تعبر عن الحضارة عن القدم والعراقة عن صراع الجمال والأنوثة وقوة الحضور والخصوبة والحياة، فهي تتكئ على حركات ضوئية شاسعة في مقاصدها ومداركها ملتزمة بجمالية التعبير التجريدي التي تعطي لكل لون دوره.

تبدو التصورات الفنية لكل من أحمد الجليلي وليلى كبة رغم انفصال كل تجربة عن الأخرى من حيث الأسلوب والتقنية ودرجات التصور التعبيري، متكاملة من حيث الصياغة والرمزية والانتماء، فكأنما يخوض كل منهما حوارا يغوص بالمتلقي ويحثه على التأمل في كل معنى وكل تشابك لوني يجمع الموقف الجمالي بالموقف الإنساني بالسعي الأكمل نحو حماية الأهوار من التجفيف والتلوث والحفاظ على الهوية والتفاصيل الباقية في عمق المكان.

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق