ثقافة وفن

المثقف العربي بين واقع الاختفاء وانهيارات الصورة الذاتية

د. وجدي كامل

قد لا تكون هناك صورة أشد بؤسا وأوضح تشققا حاليا من صورة المثقف في معيار، وزاوية النظر إلى نفسه وإطار وجوده، وقراءته لقسمات مصيره. فالمثقف العربي والذي تعنينا أوضاعه وصورته هنا، فقد جدواه وظله في صعيد الحياة الاجتماعية الشرقية بصفة عامة والعربية بصفة خاصة، فبؤس الصورة وقتامتها صارا يصدران من خفة وعدمية الدور، والوظيفة التاريخية التعليمة، والتثقيفية اللتان كان يقوم بهما في حركة التطور الاجتماعي والسياسي، والثقافي التي ربما بلغت أوجها ولامست ذروتها في النصف الأول، والثاني من القرن الماضي. فلقد قاد التوسع في التعليم النظامي بالبلدان العربية كما اشتداد وتفاقم مظاهر العمل على التحرر من ربقة الاستعمار الغربي نوعا جديداً آنذاك من المثقفين اختلف عما سبقه من التنويريين الدينيين الاجتماعيين السياسيين من امثال محمد عبده، وجمال الدين الافغاني، والكواكبي.

صعد نجم المثقف الأديب والسياسي والتحم مجهوده ضمن اشكال المقاومة الشعبية للاستعمار، فاكتسب بعد حيويا واحتراما لائقا في الرأي والذهن الشعبيين.

وإذا ما حصلت رافعة حركة التحرر الوطني العربية المثقف العربي إلى مصافي التمجيد والاجلال في الذهن الشعبي، فإن ما تلى ذلك من أعوام الحكم الوطني، قد افلح في تجريد المثقف الرسمي، وتنحيته عن تلك المكانة عندما اعربت التجربة عن المزيد من النكسات والخيبات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، أما وفي المستوى المقابل فقد زكت تلك النكبات التقدير الشعبي للمثقف المضاد الذي ظل يراهن على حيازته لبرنامج وطن بديل غالبا ما ارتبط بالأطروحات القومية، والماركسية إلى ان أطل زمان قضى تماما على عناصر منظومته الرهانية وتسرب شيئا فشيئا إلى خارج الذهن في ظل المستجدات الدولية التي وقعت. لقد قادت ظروف العولمة وأجواء انحسار الاوضاع الوطنية البديلة التي غدت مقيدة تماما بحزمة من الثقافة السياسية الدولية الجديدة إلى تراجع قيمة المثقف العام من الذهن الشعبي كنتيجة مباشرة لحدوث الثورة الاتصالية التي جعلت العمل الثقافي صناعة جماعية وبالتالي إدارة اقتصادية مما ادخل مفاهيم حديثة في القيمة المتصورة عن المثقف الفرد – المثقف القديم غير القادر على الاندماج الايجابي في التطورات القائمة. وفي ذلك يحتل المثقف الشرقي والعربي خاصة موقعا اصيلا – موقعا متخلفا لم يستجلب الضرر لصورته فقد في الذهن الشعبي بل اصطحب الاذى للنموذج التاريخي للمثقف والذي كانت أوروبا مسرحا خصبا له – الوضع الذي ينتج شكوكا عميقة حول اصالة مسمى مثقف على هذا الكائن المتعالي العاجز المثقف الشرقي العربي. وعلى الرغم من هذا التصور الذي غدا ثابتا وراسخا لدى قطاعات شعبية اجتماعية واسعة من المواطنين العرب الا ان ثمة مبادرات تخرج بين الفينة والأخرى في شكل، وعبر وسيلة الطباعة لها من الجرأة والقوة النقدية مالها حيث تعرضت كتب شتى لمعارضة التاريخ الرسمي المكتوب للمجتمعات العربية والدول بل التاريخ العربي بأكمله، كما ناقش كتاب بمنتهى الجرأة العديد من أوضاع المسلمات، والقيم اليقينية. ولقد اتت الثمانينات والتسعينات وبعد الاتساع النسبي الذي جرى في مساحات حريات التعبير والذي فرضته ظروف دولية معلومة – أتت بزيادة واضحة في عدد الكتب التي اتبعت طريق النقد الفلسفي، والاقتصادي والسياسي، والاجتماعي، والثقافي الفني وهي وفي ذلك عبرت عن ولادة عقول عربية نابغة، ونافذة، ولكن إلى ماذا تؤول النتائج؟ ان النتائج تؤول حتى هذه اللحظة لغير صالح الذهن العام الذي يصبح غريبا وبعيدا عنها – أي ما يمنع التفاعل المتوقع والاثر المطلوب منها – المتمثل في اثار الاسئلة وتأسيس رأي عام مستنير ومن ثم رد فعل جماهيري حولها. ولكن الواقع يقول بأن هذه الدورة للأفكار الجديدة تقف عند الدرجة الأولى من السلم عندما تتصدى لها الرقابة الرسمية والرمزية لمؤسسات تخلف الذهن العام فتحجبها عن الحياة أي عن الذهن العام الذي يظل سوقا مضمونة لبيع البضائع الثقافية والفكرية لمؤسسات التخلف النظامية وغير النظامية. ان لمن الطبيعي ان يخسر المثقف من هذه التجارب ولذلك فإن النتيجة ليست بغريبة انما الغريب هو رد فعل المثقف الذي ينفض سامره، يذهب، أو يغلق فمه، أو يعتزل العمل الثقافي أو يهاجر ان المثقف وفي هذه الصولات يظهر ضربا من الهشاشة النفسية ما يظهر ويعلن عما هو أخطر من ذلك وهو عدم قدرته من خلف شبكات للتضامن فيما بين اجناسه واضرابه – والمعنى هنا قدرته من خلف شبكات للتضامن فيما بين اجناسه واضرابه – والمعنى هنا تكوين الروابط، والجمعيات، والمنظمات المستقلة.. انه ينكفئ على ذاته على نحو ما ولكن يكون قد عبر تماما عن عدم عضوية الهم الثقافي الذي يبدو انه غالبا ما يكشف عن علاقة طارئة أو لاحقة قامت بينه وبين الممارسة الثقافية في مرحلة متأخرة في تجربته – الثقافية هنا لا تصبح قدرا أو مصيرا. فالكثير من المثقفين يتحولون لامتهان مهن أخرى ويلتحقون بوظائف مختلفة ولا بأس ان نسوا العمل الثقافي للابد امعانا في رفض الواقع وادانته بتلك التعابير الخجولة عكس العمال والثقافيين، الذين لا يمكن ان يغيروا مهنهم أو اعمالهم، فالتجار، والزواق وفنانو الازياء وغيرهم عندما يحاصرهم أي ضيق في حياتهم المهنية فإنهم لا يبخلون عنها بل يبحثون عن مواقع أو أساليب جديدة لممارسة ذات اعمالهم، من هنا نلاحظك ان المثقف العربي مجرد ظاهرة طارئة متى ما حاصرتها الشدائد والمحن كف عن نشاطه الأمر الذي يخلق تعراكما ايجابيا عنه في الذهن العام.

بذا لا يمكن وبأي حال وفي مجتمع يمور داخله ويتشكل نسيجه بأوضح علامات التخلف مثل المجتمع العربي ان يأتي امر نعي المثقف كحدث من الأحداث السعيدة، فهذا المجتمع الذي لا تزال تطفح على وجهه بذور الأمية والقبلية والرعوية، ويتألف فصيله المدني من مادة علاقة الفصام مع واقعه الريفي والصحراوي ليس باستطاعته حاليا اعلان حالة من السعادة المطلقة أو الدنيا بوقائع انهيار المثقف بالنحو الذي قد يفهمه البعض، ان الذهن الاجتماعي العام هنا قد يمارس ضربا من الشماتة والموضوعية، بحكم خيبة الأمل التي عصفت بكيانه وهو ينظر (جودو). مثقفه المخلص – المنقذ – الذي يدفع به خارج المستنقع، ويذهب به لمدارات ومقامات التنمية، والتطور المدني، وآفاق الحياة الرحبة الرخية.

إن دلالات انهيار المثقف في الذهن الشعبي العام لهي دلالات انهيار النوع النمطي، المتكرر، الجاهر بذاتيته قبل الآخرين، وهي تعني في الذهن الشعبي العام وبصورة اساسية انقضاء عهد الوسيط – السمسار، فالمثقف بتلك الشاكلة لم يكن اكثر من وسيط السمسار لظروف التخلف العام الذي عليه المجتمعات العربية.

وهو بذلك بإمكانه اعلان فك ارتباطه به وعقد ارتباطه مع مختلف وسائل الميديا العالمية وبناء علاقة مباشرة بينه وبينها بعد ان تواطأ مثقفه مع شروط التخلف.

ولا يجب هنا فهم اختفاء الدولة (بالسمات القديمة) وضعف دور المربي، والأب، والمثقف النمطي إلا في محور انهيار العملة الواحدة – التي هي مجموع هؤلاء الذين عصفت بهم الثورة المعلوماتية والاتصالية.

ان الذهن الشعبي له مثقفوه الشعبيون الطبيعيون الذين يتوالدون يوما بعد يوم ويقومون بأدوار التعليم بالتاريخ، والماضي والاساطير وكل ما يتعلق بكيفيات خلق التوازن الروحي الخاص بالذهن ولكنه يظل في حاجة عضوية إلى المثقف العقلاني النقدي المضاد.

المثقف الذي بإمكانه زحزحة المسلمات، وشحذ الافكار بالجدة والطرافة بالأسئلة المصادمة، المشاكسة، إنه مقف تنويري بالمعنى العميق والمعاصر والمستوعب لكل التحولات والمستجدات التي جرت في ميداني المعرفة والاتصال، اذن فإن حاجة الذهن الشعبي لهذا النوع من المثقفين تظل حاجة معبرة عن فكرة ضرورة وضع الموجب مع السالب حتى تتألف النواتج من ذلك، والتي تعني في جوهرها الحركة، والحراك نحو الأمام والذي يظل معبراً عن حاجة موضوعية طبيعية من حاجات الحياة بصفة عامة – ذلك ان الحياة هي التطور – هي التحديث بهدم القديم والانطلاق نحو أهداف جديد..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق