
إبراهيم أبو الرُّب رمزية الضوء واستنطاق فراغ الصمت
بشرى بن فاطمة
تدفع أعمال إبراهيم أبو الرُّب، من يشاهدها للمرّة الأولى، للغوص داخلها وعدم الاكتفاء بمجرّد المشاهدة، بل بالتمعّن والاندماج مع تلك الملحمة الفنيّة والفكريّة والحسيّة وذلك الزخم الهائل من التراكم العاطفي والانفعالي مع الفكرة التي تبدأ من حدث أو واقع أو ذكرى، فيتحسّس تلك الإرادة المتحدية وذلك الإصرار القوي والتعبير الذي يتملك مشاعره وذهنه، فقد تمكّن من اختراق الفضاءات الواسعة للّوحة وتفجير أفكاره داخله بشكل دقيق، وهذا الأسلوب منحه ميزة وتفردا، خاصة وأنه ينجذب إلى المساحات الممتدة ليمارس داخلها طقوسا فنية ينفعل من خلالها بمراقصات روحانية الإيقاع وأفكار متناغمة في صخبها وهدوئها المنسجم مع أحاسيسه التي يبعثها ألوانا تتجادل مع الخطوط والشخوص والرموز.
يعيش أبو الرُّب فنه باعتباره قضيّة وطن وشعب وإنسان فيستلهم من وحي كل هذا جرأته الفنية ويبني ملاحم تستهويه ليغامر داخل المساحات ويتوغل في فضاءاتها الشاسعة، يقتحمها لتشكيل جداريّات ملحمية التعبير الرمزي فيها يجادل مع رؤى التجريد المعاني الإنسانية.
إبراهيم أبو الرُّب فنّان تشكيلي فلسطيني ولد بمدينة القدس سنة 1949، خرج منها إثر نكسة 1967 متوجها إلى الأردن ثم إلى مصر، وفيها تحصّل من جامعة حلوان بالقاهرة على بكالوريوس الفنون الجميلة و دبلوم الدراسات التربويّة سنة 1976، والماجستير في الفنون الجميلة سنة 1982 عن دراسة “فن التصوير المعاصر في الأردن”، و الدكتوراه سنة 1987 عن “الفن الإسلامي وأثره على التّجريد العربي المعاصر”، أقام عشرات المعارض الفنيّة المنفردة و المشتركة والجماعيّة والعامة، تحصّل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من الأردن سنة 1995، قام بالعديد من البحوث في مجال الفنون الجميلة والتربية الفنيّة والمحاضرات والندوات، له بحث عن الفن الأردني المعاصر -أليكسو-تونس سنة 1998 اقتنى منه متحف فرحات للأعمال الإنسانيّة 13 جدارية.
تجسّد الجداريات التي ينفّذها أبو الرُّب تاريخا إنسانيا يتجاوز الصراع بل يتمرّد بكل عنف على أشكال الإبادة الحضارية، تجربته تسرد على ثلاث مراحل كبرى شكلت عنده صراعا بين الذات في الوطن، والوطن في الذات، المرحلة الأولى من سنة 1970 إلى سنة 1980 كانت مرحلة الظهور وبداية بلورة الفكرة التمرد على الكلاسيكي فهي مرحلة التّحدي الأولى التي ساعدته على البروز في محيطه الأكاديمي بشكل مدهش واكتساب الحرفية والميزة الفنية، المرحلة الثانية من 1980 إلى 1990 هي مرحلة الثورة والنضج والموهبة الفنية العميقة في الألوان والمساحات والتداخل التشكيلي والرمزي لتتحوّل مساحات الجداريات المنجزة إلى مشهد ملحمي ثوري تميّزه الكتل البيضاء ورمزية الشهيد والكفن والموت الخالد، من خلال رمز المومياء بسيقانها الطويلة وخطوطها المتداخلة في شكل لولبي يثير حيرة تتشابك في رؤية بصريّة داخل مسطح واحد، فرغم التشابه البادي بين الجداريات المميزة لتلك المرحلة إلا أن المتعمق فيها يتمكن من فهم الفرق الجليّ والواضح داخل كل مساحة، فالأفكار ناضجة ومصقولة بجماليات بصرية صامدة في وجه الصراعات، التزمت بها جميع الفنون التشكيلية و خاصة الفن التشكيلي الفلسطيني الذي برز عالميا، المرحلة الثالثة هي مرحلة ما بعد سنة 1990، مرحلة التحدي الذاتي ومنهجيّة الاستمرار في ظل الخيبات والتغيرات تحدّ جعله يزداد اندماجا مع ألوانه وتوتّرا جماليا، كما وصفه الكاتب والشاعر إبراهيم نصرالله “لا يملك إلا أن يجد نفسه داخل هذه الأعمال لأنها وجهه الآخر ولون دمه وخطوط حياته”.
يعتمد أبو الرُّب على عدّة تقنيّات لتشكيل الرّمز والفكرة التي يقدّمها، منها حجم الفرشاة المستخدمة حركاته السريعة اللاإرادية حساسيته ومشاعره وانفعالاته المتداخلة في صخب الألوان المتنافرة التي تتناقض بدورها بين الأحمر والأزرق والأبيض والأسود فيعتمد على الألوان الزيتيّة والإكريليك والفحم كخامة تتجاوز السوداويّة في التعبير لتخترق بمرونة الفكرة المقصودة التي تراوغ المساحة وتستدرج الصمت نحو الصخب المطلوب في حضرة الرمز “الشهيد” لذي كثيرا ما يحاط بحركة ودوي واستمرارية بناءة رغم الهدم الطافح على أطراف اللوحة.
يستحضر أبو الرُّب كل شيء يعنيه كانسان وذات بالرمز والحرف العربي في الكلمات كما الخطوط والأشكال التي تعمّق فكرته في توترها وهدوئها وفي دورها داخل ذلك الصراع الملحمي، لتعبّر عن اندماجه داخل الجداريّة، وهو ما ساعده على تخليد فكرة الشهيد ليجسّد انتصار الشرفاء في معارك الظلم من خلال رمزية المومياء، وبتحدّيه الظاهر للمساحة الشاسعة التي تقود المشاهد إلى السّفر داخل تضاريسها التي تثبّت حالة اللاشعور و التي تدفع الحدث والإحساس للالتقاء في صراع فني تتشابك فيه الذات والحدث والفن الذي ينفجر ثورة داخل الجداريّة عن طريق اللون والحركة والرؤية، ليتحوّل الإنجاز الفني عنده إلى حالة تجلّ صعبة يتصارع فيها الحضور الذهني والفني وترفرف فيها أغاني فيروز التي تزيد من التصعيد ومن حالة الهيجان الفني والعنف التعبيري، يقول أبو الرب واصفا هذا التجلي “التدفّق الهائل.. ناتج عن وتيرة معيّنة هي امتزاج الحالة والحدث وصوت فيروز.. فكلما كانت مساحة اللّوحة أكبر كلما ازددت توتّرا وتحديا، وفيروز مرتبطة بحالة التجلي والاندماج.. عندي نوع من الترابط بين الرّسم وفيروز، إذا استمعت لفيروز فهذا يعني أنني سأرسم…”
إن فكرة الانتماء تتواتر بتعبيرات متنوعة عند أبو الرُّب فلا تنفصل عن فكرة الفن لأنها صقلت مسيرته وشكلت لديه هاجسا في فنّه ليعبّر عن العودة واللجوء والحريّة والاستشهاد، فهي تتجاوزه كفرد لتعبر عن الإنسانيّة، أما الرّموز فهي جوانب مرئيّة وحسيّة في المنجز تتشكّل تصاعديا زاحفة نحو النور والحرية والأمل فالشهيد خالد عنده وظل ثورته محفور على جدران الإنسانية وقضيّته التي كان لها شاهدا وشهيدا تبقى فكرتها قائمة لا تزول.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection