ثقافة وفن

“رمضان” رواية عن مختنقات ليبيا وانفراجاتها

علي شندب

حوارات عدة من خارج الصندوق وفيعلم المستقبلاتجمعتني بالمفكر الدكتور علي المنتصر فرفر، خلال العقدين الأخيرين وكانت تؤسّس لتعاون مثمر في محاولة استقراء التحوّلات وبعض الأحداث التاريخية التي عصفت بالوطن العربي منذ بداية الألفية الثالثة، حيث النكبة الكبرى تتجسّد باحتلال وغزو العراق، ربطا بنكبة فلسطين التي سبقتها، وتطلعاً لكيفية سبر أغوار أعاصير السنوات القادمة.

لكن الأمر الذي حدثني عنه الدكتور فرفر قبيل رحيله، فكان أيضاً حول انهماكه بترجمة روايةرمضانللروائي الأسباني الفنزويلي الرائعسلفادور جيارّاتاناالذي عاش وواكب فترة عصيبة من تاريخ الاستعمار الايطالي لليبيا وانطلاق حركة الجهاد الليبي. وقد وعدني الدكتور فرفر بنسخة من الرواية التي نقلها الى العربية بعد تمكنه من اللغة الفنزويلية بعدما عمل سفيراً للجماهيرية في بلاد تشافيز. رواية، يعتبرها الدكتور فرفر بمثابة الدرّة في انتاجه الفكري والفلسفي والإعلامي، سيّما وأن الرواية في استعراضها لوقائع حقيقية من فترة الاستعمار الليبي، تستبطن اجتراحاً لمعضلة ليبيا الغارقة في دمها منذ عام 2011 بفعل تناسل أدوات الاستعمار للمشاريع الخطيرة والمشبوهة إياها.

بداية أيلول 2021 كان الرحيل المفاجىء للصديق الدكتور علي المنتصر فرفر،إثر حادث سير أليم وليس بسبب وباء العصر كورونا، وقد شكلت وفاته حالة حزن جمعي من زملائه وطلابه في الجامعات الليبية فضلاً عن رفاقه في أقانيم الثقافة والفكر والسياسة والثورة، والحرية بوصفها غاية سعادة الإنسان في كل مكان، والعمود الفقري لروايةرمضانبطل الرواية الأسطوري الذي قذفته الأقدار الاستعمارية طفلاً شريداً طريداً من أعماق الصحراء الليبية الى مدينة بنغازي، حيث بنيت ملحمة كبيرة للكفاح ضد الاستعمار الايطالي تشعبت مراحلها وأدواتها وتضحياتها بأبعادها الانسانية الخالدة.

منذ أسبوعين فاجئني موزع البريد بطرد ثقيل، فتحته بنهم لاكتشاف حمولته، فتبين أنهارواية رمضانالتي ألزم المنتصر نجل الدكتور الراحل نفسه بإرسالها لي. وبعد مرور أكثر من سنة على التزامه ظننت لمرات أنها لن تصل. لكني ومن دون انتباه ولا افتعال وجدت عيناي تسبحان بالدموع، دموع الفرح بارث الدكتور فرفر الفكري والانساني ممثلاً بالرواية وبابنه المنتصر وشقيقتيه الكريمتين الذين تواصلوا معي. وبتركيز غير مستقطع التهمت الرواية سطراً سطراً، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفا، حتى تكونت لدي حالة وجدانية وتفاعل نفسي هو مزيج من الحزن والفخر والفرح بمعرفتي الثمينة بالدكتور فرفر، وبالتواصل الذي حافظت عليه أسرته الكريمة، والأهم بمنظومة القيم العميقة التي صاغها ذلك الروائي الاسباني الفنزويلي.

رمضانرواية تشكل قراءتها استنطاق حديث لمجريات التاريخ الذي يعيد نفسه في ليبيا وبصور متشابهة في لبنان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وخصوصا في فلسطين. رواية جديرة باقتدار أن تتحول بفعل وقائعها وشخصياتها التاريخية الطبيعية الى مسلسل تلفزيوني وعمل مسرحي هادف وجاد يعيد شحذ ذاكرة الأجيال وحفظها من الاختراقات المسمومة التي تحاول فبركة وصناعة تاريخ تبني حركة الاستعمار المتجددة مشروعاتها عليه في استدامة الاستعمار وتزيينه بهدف تأبيده في بلادنا العربية خاصة. وبهذا المعنى تضع الرواية على كاهل المسكونين بالحرية والتحرر والانعتاق وخصوصاً من النقاد والبحاث وأهل الفكر والثقافة بوصفها حصن العرب الأخير وتحملهم مسؤولية المبادرة الشجاعة وعدم النكوص عن واجباتهم الوطنية والقومية والدينية والانسانية، والتصدي لمحاولة التغريب الثقافي والتشظي الهوياتي والانشطار المجتمعي بهدف تدميره، بعد الانتهاء من مراحل تدمير الدولة الوطنية هنا وهناك وهنالك.

التحية واجبة لروح المرحوم الدكتور المفكر الصديق علي فرفر الذي تبيّن الوقائع المنسدلة من دفات انتاجه الفكري والثقافي الغني بمقاربات الحلول غير المستحيلة، وثبات الرؤية وعلميتها ودقة الموقف للخروج من الأزمات غير المستعصية متى توفرت العزيمة والارادة الطيبة كالتي عرفها زملاءه وطلابه وأصدقائه، وتتمسّك بها أسرته وابنه المنتصر حافظ وصايا والده في الالتزام بالعهد والوعد والطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق