سياسة

التدخل المصري في السودان

بدر الدين العتاق

مصر تعرف جيداً كيف تسوِّق لبضاعتها في كل المجالات، والمجال اليوم هو « السودان في العقلية المصرية « الذي يقول: ‭{‬السودان يتبع لمصر، وهما دولة واحدة ‭}‬ وساقت الحجج والبراهين التي تدل على ذلك بغض الطرف عن صحتها من عدمها فالمحصلة الأخيرة هي التدخل المصري في الشأن السوداني في كل جوانب الحياة حين لا تحرك السودان أي ساكن لا بالحق ولا بالباطل ولا تحاول حتى علمياً أو عملياً أن تحفظ ماء وجه السيادة السودانية وأنَّه دولة ذات سيادة وطنية منفصلة ومستقلة ذاتياً عن مصر وعن أي دولة في العالم.

كتب الأستاذ الدكتور / محمد فؤاد شكري، أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، كتاباً تحت عنوان: (الحكم المصري في السودان – 1820 م – 1885 م) في أربعمائة ثمانية وأربعين صفحة من القطع الكبير ، طبعة دار الفكر العربي لسنة: 1947 م، يركز فيه الكاتب على أحقية السيادة المصرية للسودان في أكثر من موقف أكاديمي وعلمي وسياسي وخلافه – ذكر هذا في المقدِّمة -، ويرى الدكتور / شكري، أنَّ السودان يمثِّل الامتداد التاريخي والحياتي للدولة المصرية على مر التاريخ الإنساني [ قضية حلايب ليست بعيدة عن الأذهان نموذجاً عملياً ] وأنَّ التفريط فيه يعتبر تفريطاً في حدود مصر الجنوبية على طول الشريط النيلي، راجع ذلك في مقدِّمة الكتاب إن أردت.

أخذ الدكتور والعقلية المصرية في هذا الادعاء من عهد الامبراطورية العثمانية والمماليك والانجليز الذين حكموا دولتي مصر والسودان مما أوعز للعقل الجمعي المصري بهذه الأحقية لأنَّهما كلَّفا مصر بحكم العِرق العربي واللغة واللسان القريب للسودانيين أن يمارسا سلطتهم بالوكالة على جنوب الصحراء والشريط النيلي حتى الحدود اليوغندية التي كانت تحت بلجيكا وبعض مستعمرات أفريقية السمراء، وكان أشد الاعتراض من مصر ومفكريها وحكَّامها على كيفية التفريط في ملكهم وسيادتهم على السودان وشعبه وأرضه وفكره / وحتى اليوم / هو قيام الثورة المهدية التي أبعدت الجميع من فكرة الخضوع لدولتي مصر وتركيا من طريق وكالة مصر عليها مما أوعز بطبيعة الحال في السرد العام أنَّ السودان ما هو إلا تابع لمصر في أي ظرف كان وأنَّ الثورة المهدية يجب أن يقف تمددها وحماسها مع إخماد كل حركات التحرر في السودان إلا التي تتبنَّاها هي مباشرة كما في إقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان كما سيأتي بيانها لاحقاً، علماً بأنَّ مصر هي أول من باركت انفصال جنوب السودان عن شماله سنة: 2011 م، وأول من دعم جون قرنق في معارضته للنظام المايوي 1983 م ـ وهي أول من دعم المعارضة الشمالية في حكومة الإنقاذ الوطني (1989 م – 2019 م) واستقبلتهم في أراضيها ودعمتهم دعماً لوجستياً – التجمع الوطني – وكانت أكبر فارقة حقيقة ومباشرة في زعزعة النظام السابق لأمن مصر القومي هو التوجه الإسلامي الحر المباشر للسيادة الوطنية السودانية / هناك تسجيل صوتي مسرَّب لرئيس هيئة الأركان المصري للفريق البرهان مؤخراً بمنع أي عقلية إخوانية تنتمي للفكر الإسلامي داخل القوات المسلحة السودانية وطردها من القوات المسلحة وإن احتاج لأي دعم فهم على جاهزية فورية، راجع النت / التي لم ترضاه مصر وحاولت جهد أيمانها خلع النظام الترابي القائم آنذاك وأيدت وحاولت مع المجتمع الدولي تسليم البشير إلى المحكمة الدولية بتهمة ارتكاب مجازر وإبادة جماعية في دارفور حين تم آنذاك القبض على بعض الآليات العسكرية الداعمة للمتمردين في دارفور تحت ديباجة « صنع في مصر « وعن سؤال الجهات المعنية عن الأمر قالت مصر: « إنَّ الأسلحة كانت في طريقها لدولة أخرى لكنَّها ضلَّت طريقها « وهكذا لم تنفك مصر في التدخل السافر المغرض على سيادة جمهورية السودان في كل الظروف التاريخية.

نعم!  لنا مع مصر ما ليس لنا مع أي دولة في العالم من رباط إنساني عميق ومتجذر حدَّ النخاع وما يمس مصر يمس السودان تلقائياً، ولها اعتبارها في الشعب السوداني بكل مشاعر الإخوة بين شعبي البلدين لكن، نرفض رفضاً باتاً أي نوع من التدخل في الشأن السوداني من الشقيقة مصر ولنا جميعاً أحقية حفظ السيادات الوطنية لبلدينا.

تاريخ السودان في العقل المصري:

من ذات تلك المقدِّمة أسوق للقارئ الكريم كيف ركز في العقل الجمعي المصري أحقية السيادة المصرية على السودان خارج عن النطاق السياسي لأنظمة الحكم في كلتا البلدين التاريخي واليوم، مما أودى بكراهة الشعب السوداني لهذه العقلية العقيمة التي لا ترى غير حب الامتلاك والنفوذ المصري على بلاد السودان تاريخياً ومستقبلاً وهو الذي يجب أن يُصحح في كل المجالات الأكاديمية والعلمية وإعادة كتابة التاريخ السوداني بعيداً عن العقل الجمعي العالمي وبالتحديد العقل المصري لأنَّه مما تضطرب معه العلاقات بين البلدين شعوبياً وشعورياً.

الذين كتبوا التاريخ السوداني منذ السير هارولد ماكمايكل وبيرون ومحمد بن عمر التونسي ونعوم شقير ومحمد الجابري «السودان كما يرويه أهله / وكان أهله هم المصريون لا السودانيون، فتأمَّل!  « – كاتب الشونه، في شان الله – والأستاذ / محمود شاكر، وكتابه: « الحكم المصري في السودان – 1820 م – 1885 م « وأضرابهم، هم من أسس لهذه الأكذوبة (أحقية السيادة المصرية على السودان وتبعيتها لها) ودرَّسوه لطلابهم في الجامعات والمعاهد ذات الصِّلة ولكل العالم، والدكتور / مكي شبيكه، نقل ذات الأمر في كتابه عن تاريخ السودان / لا ننكر كثيراً من الحقائق في تلك الكتب لكن التركيز على أكذوبة أحقية مصر في السودان هو موضع الفكرة من هذه الكتابة والتي صاغتها وسوَّغتها الكتابات فقط تركيزاً على هذه النقطة السوداء في سجلاتهم ومساجلاتهم، راجع مناظرة البروفيسور / جعفر ميرغني، للدكتور / نبيل رزق، المؤرخ المصري في أحقية حلايب من عدمها وتبعيتها للسودان أم لمصر إذ سرعان ما غادر رزق منصة التفاوض حيث ذكر هو بنفسه أحقية المثلث وتبعيته للسيادة السودانية حسب اتفاقية 1898 م في كتبه وأنكرها لاحقاً بمفهوم أنَّ هذه قضية داخلة في السياسة لا التاريخ /، فقد قرأت لهؤلاء المؤرخين كتبهم جميعاً ووجدت كثيراً من الأخطاء في كتابة حوادث التواريخ، أو مثلاً الاتفاق على تاريخ لحدث معين في كل ما كتبوه ويكون مضطرباً، مما نما إلى نفسي بأنَّ هؤلاء المؤرخين لم يتثبتوا في تسجيلاتهم للحوادث التاريخية لبلادنا وهذا التضارب يفيد بتركيب التواريخ على أحداث ليست حقيقية كما سيأتي لاحقاً بيانها، لكن الشيء الوحيد الذي اتفقوا حوله هو سيادة مصر على السودان أو بمعنى أدق: الاستفادة واستغلال الخطأ التاريخي للمؤرخين على تثبيت فكرة السيادة المزعومة على السودان وأراضيه وشعبه وسيادته وما اتفاقية الحكم الثنائي الانجليزي المصري على السودان (1898 م – 1956 م) إلا تتويجاً عملياً في هذه التركة لمصر وكل ثروات وخيرات السودان المفروض أيلولتها إلى مصر وهذا التناقض وكل العمق التاريخي المكتوب من عقليات غير سودانية هي التي باركت هذه الأكذوبة والفضل ما شهدت به الأعداء كما يقولون، راجع بحثنا عن هذا الموضوع بعنوان: « دارفور. . في شان الله « لمزيد من التوسع إن شاء الله.

وهذا من تجويد تسويق بضاعة مصر في العقل العالمي والمصري بالتحديد كما ترى.

جاء في كتاب: (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) لصاحبه المؤرخ التونسي الأصل / محمد بن عمر بن سليمان التونسي (1789 م – 1857 م / 1374 هـ، المتوفي بالقاهرة) المصري الهوى والنسب والذي وفد إلى بلاد السودان سنة: 1803 م / 1804 م، في رحلة تعريفية وتجارية في أحسن الأحوال، والذي طبعته واهتمت به المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والأنباء والنشر – الدار المصرية – بتاريخ: 27 / 6 / 1965 م – الموافق: 27 صفر 1385 هـ ، جاء قوله: [ إنَّ إقليم كردفال كان في نزاع بين مملكة دارفور ومملكة سنار حيث وقعت الأخيرة تحت نفوذ دارفور في عهد المماليك وكان على رأسها السلطان / محمد الفضل (1777 م)، وعندما افتتحه المصريون كان حاكمه المقدوم مسلَّم يدين بالولاء والطاعة لمحمد الفضل سلطان دارفور ] يعني بعض تخوم المملكة لا كلها.

يُلاحظ أنَّ الجملة بين القوسين تشمل ذكر المناطق الثلاث المتنازع عليها مع أغلب الحكومات التي حكمت السودان والتي طفت على السطح السياسي المحلي والإقليمي والدولي في عهد نظام الإنقاذ بالتحديد سنة: 2003 م، واعتبرت قضية دولية لا صراعاً محلياً، ثم لاحظ كلمة « وعندما افتتحه المصريون « مما يشير إلى النفوذ المصري المتوهم بالسيطرة على السودان وهو الذي من بعد أدَّى إلى تفاقم الجرثومة الاستعلائية المصرية على السيادة الوطنية السودانية.

جدير بالذكر أنَّ الرَّحالة التونسي سبق بالتدوين للحياة في السودان الرَّحالة الدكتور الفرنسي: – بيرون perron – والذي طبع كتابه أو مذكراته عن دارفور سنة: 1832 م، وكانت الزيارة سنة: 1803 م، وقد أخطأ – واستفاد من هذا الخطأ في تحقيق التواريخ الكثيرين – الدكتور / محمود فؤاد شكري، في كتابه سابق الذكر بأنَّ محمد بن عمر التونسي قد مكث ببلاد السودان من سنة: 1803 م – 1820 م، وهذا خطأ!  والصواب أنَّ محمد بن عمر التونسي مكث في السودان بين سبعة إلى ثمانية سنوات فقط وهو الراجح لأنَّ التونسي هو من ذكر مدَّة إقامته بالسودان من سنة: 1803 م / 1804 م، الموافق: 1218 هـ – 18011 م / 1812 م، ورجوعه إلى تونس سنة: 1813 م المصدر السابق، فتكون الإقامة بين سبع إلى ثماني سنوات لا سبعة عشر إلى ثمانية عشر كما توَّهم شكري، وأوهم بعده الكثير في نقل المعلومة الخطأ وإذاعتها بين الناس أي في العقل الجمعي المصري بالتحديد.

ثم يقول: إنَّ الرَّحالة بيرون مكث في السودان من سنة: 1793 م – 1796 م، حين يقول التونسي ببقاء بيرون أو فيما اتفقا عليه لمعاصرتهما نفس الفترة منذ: 1795 م – 1797 م، أي: شكري، فتأمَّل أصلحك الله!  هذا الاضطراب.

ملاحظة مهمة أخرى، هي التركيز على إقليم دارفور بالتحديد مما يعني الاهتمام المسبق بهذا الاقليم منذ قديم الزمان ولا أعرف سبباً واضحاً لهذا الاهتمام الكبير الذي توليه الشقيقة مصر لدارفور الحزينة المنكوبة منذ تولي سليمان سولونج عرش سلطنة الفور سنة: 1640 م ؟ أو قبلها بكثير.

ربما يكون أثر تكوين بعض الممالك في الحزام القاري لوسط العمق الأفريقي كتكوين سلطنة البرنو على يد / محمد الأمين الكانس، في ذات الفترة والذي ترجع أصوله لقبيلة الجعليين، أثر في الصراع بين العرق العربي والزنجي الافريقي الذي تولَّى كبره أصحاب المصلحة فيما بعد مما يؤثر سلباً في توسعة النفوذ الجغرافي لهم ؟ الله أعلم! .

ومن ذات الماعون يكتب عن تاريخ بلادي السودان اللبناني الأصل الأستاذ نعوم شقير، الذي يركز كتابه الموسوم (تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته «1236» صفحة) على أحقية مصر وملكها للسودان ويرسل كتابه هذا إلى الباب العالي الخديوي الأكبر في مصر وفي الاستانة ويريد مباركته فيما قام به من إنجاز عظيم، وفعلاً كوفئ نعوم شقير على صناعته العظيمة في كيف صنعت مصر السودان وكيف قامت بتمويله ورعايته والعناية به من التدخلات الغربية وكيف قامت بتطويره إدارياً وصناعياً وفنياً وسياسياً وعسكرياً وهلم جرَّا، ويتفق معه كل اللذين كتبوا عن السودان بهذا الفضل العظيم.

نحن / أنا بالتحديد / لا (أ) ننكر فضل مصر على السودان في التحديات التي ألَّمت به على مر التاريخ النيلي الطويل والعميق لكن في ذات الوقت يمنعنا الكبرياء والحق التاريخي في أن نكون أداة في يد مصر تغالب فيها مصلحتها على مصلحة بلادي السودان وأن يكون التاريخ الذي كتبوه هو الحق لا غير رغم الوضع السياسي والاقتصادي والفكري الضعيف إلا أنَّ السودان لم يركع ولن يركع لدولة مهما كانت أو كبرت ولنا في ذات التاريخ تواريخاً وقضايا حقيقية مثل محرقة المك نمر للخديوي إسماعيل في شندي سنة: 1821 م وكذلك حروبنا ضد الغزاة والمستعمرين في توشكي وأم دبيكرات وأبي طليح والنخيلة وكورتي وشيكان وقدير ودارفور والمتمَّة 1888 م – 1889 م / 1306 هـ، وأم درمان، والسياسية القائمة الآن في حدودنا مع مصر المعروفة بمثلث حلايب وشلاتين وأبي رماده، وكذلك حدودنا مع إثيوبيا في منطقة الفشقة الصغرى والكبرى وأيضاً معركة الصمود في أبيي وغيرها الكثير ولو لا تلك المجاهدات لصار فعلاً وعملياً تبعيتنا لمصر أو لغيرها من البلدان ذات النفوذ الاستعماري والأطماع في ثروات وخيرات السودان وليست معركتنا مع المجتمع الدولي ببعيدة عن الأذهان في كل القضايا الدولية التي تحفظ كرامة وسيادة السودان وشعبه على نفسه وأراضيه.

ويُذكر جيداً أنَّ السودان نال استقلاله عن الحكم الثنائي بتاريخ: 1 / 1 / 1956 م، بينما نالت مصر استقلالها عن بريطانيا بتاريخ: 18 / 6 / 1956 م، أي: بعد السودان بستة أشهر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر حسين، بينه والسيد / انتوني هيد، وزير الحربية البريطانية آنذاك، ويسمونه عيد الجلاء لا الاستقلال لجلاء آخر جندي بريطاني من الأراضي المصرية فافهم! .

ولك أن تراجع خطابات ومراسلات الحكومة البريطانية للحكومة المصرية بتاريخ: 28 / 2 / 1922 م القاضية (حق التصرف في السودان) بأن ليس لمصر سلطة على السودان وأن سيادته على نفسه أمر مفروغ عنه واشتراط بريطانيا على مصر عدم التدخل في الشؤون الخاصة للسودان وإلا يُعتبر انتهاكاً للسيادة البريطانية والتاج البريطاني من مصر (معاهدة تقرير المصير للسودان سنة: 1936 م، وشرط الجلاء عن مصر) باعتبار أنَّ كلتا البلدين واقع تحت حكم بريطانيا وليس لمصر حق أو حرية القرار في السيادة السودانية، (إلغاء اتفاقية 1899 م، الحكم الانجليزي المصري على السودان) راجع حديث المؤرخ السوداني الدكتور / « معاذ تنقو « في هذا الخصوص بالنت.

من جملة ما يُقال هنا أنَّ العلاقات التاريخية بين البلدين رهينة بتحرير العقل الجمعي المصري عن امتلاك أو تبعية السودان لجمهورية مصر العربية وأنَّه على المؤرخين السودانيين اعادة كتابة وصياغة العقل العالمي تركيزاً نحو هذه القضية المهمَّة وبالتحديد مصر وأن تظل العلاقات المتجذرة بينهما محل احترام وتقدير مدى الحياة فتاريخ البلدين ربا على السبعة ألاف سنة هي حضارة وادي النيل العظيم مما يتوقف عنده المرء كثيراً قبل الشروع في أي فكر سالب مغاير يعكر صفو العلاقات للمدى البعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق