
ملحمة الزمان
ليان طاهر
للكتب مزيج آخر من المثالية، مثالية رائحة الصفحات المتراكمة على جثمان الأغلفة، جثمان يحتضن تلك الصفحات الكامنة في حرب بين النسيان والتوّهان ، حرب لطالما تذبذبت معانيها ، فهل يختفون القُراء ؟ ، أم ان الصفحات هي التي تبدأ بالضيعّان ؟ حملت أول كتابٍ في سن الثامنة، وأصبحت كجنديّ رافق الكتاب دربًا ، وحارب معه أفكار الزّمان ، وأخرج المعاني التي طمست في تلك الأغلفة ويخرجها لدياجير العالم القابع بزحمة الأهوال ، كجندّي قد أصيب اذا قُلبت آخر صفحة من ذلك الغلاف ، وخرجت آخر رصاصة من بطون تلك الكلمات ، وساد نزيف النهايات على أواصل الورقة الأخيرة ، فأفارق الكِتاب مصيبًا فأتلطخ بدموية العبر والأحكام ، دموية طهرت بها العبارات والدّروس .
ولا يمكنني الابتعاد ، فأشعر بسرمدية هذه الأغلفة الكامنة ، وراء موت من كتب عليها كلماته ، كلمات التي لم يستطع قولها بحرية تحت أنظمة قوانين هذا العالم البائس ، فحرق هو ومعطياته ، أو أصاب اختيار موته لتنشر كلماته ، تنشر كلماته ليعيش هو ، فما للكتب أن تخسر صُناعها وتحمل في آفاقها وصاياهم ، ولا لي أن التقي إلا بكلماتهم التي تفتقد الحياة ، لتخرج مجددا ولا تُحبس بعتبات الانتظار ، ولا تلتفت للاسم المطبوع عليها لكي لا يصيبها الحنين ، ولا أستطيع أن أقرأها مرة أخرى كي لا أشعر برماد الفتيل ، أو حتى أن أصاب بالحريق ! فما يمكن أن تُهجر تلك الأغلفة، ولا يموت أصحابها، لا تغبّر أغلفتها، ولا تتلاشى رائحة صفحاتها .
سيكون صعبا جدا الاعتراف، لا يُحق لي أن أتخذ صفات التّعبير، وأقول بأنها هذه هي المشاعر المجتاحة ، ولا يحق لي أن أنظر لمن يسيء لتلك الكتب المُحاربة ، وأن أرى بأنه بالفعِل يعتريه الوجدان ، فتقذف الكُتب بالسِهام ، وترمى وحشية بالرّصاص ، وما عليها أنها ستواصل القِتال ، وتقطر آخر عِلما وفكرا ليفيد الزمان ، فينشر عبّق الوصايا والآمال ببهتان الأغلفة ، وتتطاير صفحاتها هربًا من جهل المكان ، لربما تصل لقومًا يقدّرها ، أو حتى أن يحتويها القُراء تحت ستائر التستّر وبعيدًا عن البُغضَاء .
فإن كانت تلك الأغلفة مُحاربة ، فمن نحن ؟
ولا تزال الشمس ثاقبة بوسط تعاسة السماء ، فبأي ذنب قد جعلها تشعر بالإكتعاف ؟، فما الذي سيجعل هذا العالم يمضي وسط أنظمة تأبى البقاء ؟، تُرمى الأعباء في كل عتمة وضياء ، وتُحمل معها آمال قد ظنّت بأنها وصلت للسماء ” فحُرقت لآظنانها من شمس حارقة ، كانت اقرب لأن تكون حاقدة ، توالت كل نفس مُرة في الاعتياد لكنها لم تجد نفسها ، فضاعت في عتمة النّسيان ، وكأن القمر كان أشبه بالهلكان ، الضياء الذي كان بالوجدان ، حَكمتُه أرواح تقطع الطرق وسط زحمة الاهوال ، فهل هُناك أُناس لم يُضيئوا بسبب فسادهم؟ ، أم ان هذا العالم قد جردهم من ضيائهم ؟ ، فأن كان كل شيء يبدأ بالزولان ، مُجددا ….فسأجلس على اريكتي لأرى الرُحال فابتسم لهم آملا بأن هُناك أحدا سيغير مساره عائدا ، فلربما سيجلس هذا المزعوم يائسا ، وهو ابعد من ان يكون كذلك ، ان كان القدر يخطُ بِكِتابِه ، اخبره من سيرحل ؟ …وان لم يرحل أحد فمرحبا بك أيها القدر.
وربما قد كسرنا أحدهم ، ربما جهش غيرنا بالبكاء بسببنا ، وغيرهم من تجرد من الشعور ، فقد أذنب جميعنا بقصة أحدهم لسنا الأبطال دائما ، جميعنا مذنبون ، بطريقة أعمق لأن تكون ذنبا بل غريزة
.. كان الوقت متأخر جدا.. اجرينا محادثات قاسية ..من فراغ ساطع للسعة سواد قاتمة من سيمسح الغُبار عن كتفيك ؟ ..يُمكنك التّظاهر بأنك لم تسقط ..لكن سيبدو هذا واضح جدا ..بغض النظر عن أعينك المُظللة والأتربة جراء سقوطك ..سآتي اليك ..وعدني بأنك لن تلومني اذا ازحت تلك الاتربة عنك فيمكن انها ستسقط علي مُجددا …في مكان ما قلبك هناك
انه فَصلي …الشتاء. أتَمعُن من خلال تلك النافذة التي قد بدأ الضباب يلتم حولها. حتى باتت الرؤية مُعدمة …فتحت تلك النافذة مُتاجهِلةً ذلك الضباب المتراكم عليها ..وكأن لقاء بعد قُطعٍ طويل قد حدث ،رائحة التُراب المُبلل هو كل ما أشعر بوجوده ، تراطم تلك الأمطار المشتاقة لأرضها يُحرك مشاعري المتجمدة ، مواكبة تجمد ذلك الجو ، تَسارع أخيطُة الرياح ،حامِلةً معها أوراق شٌجيرات تائهة ،و مشاعر متراكمة ، أنني أنظر ….شُجيرات تتحرك بمشاعر جياشة، كتلك التي تُصيبنا ، عندما يَحدثُ شيئا ..كان قد اُنتِظر حدوثه ، تتطاير أجزائها ، مُمسِكةً تلك الرياح تَوهانها ،تقودها لمكان آخر ، سماء كغير عادتها ، حالكة ، مُكتظة بالغيوم ..شاحبة بسوادها ،بما فيه الكفاية لِتَظُن أن قد أصابها مَكروهٌ ما ، بَرقٌ مُتباهي يَظهر في تلك اللوحة الغريبة ، يستعرِض نَفسَه ، أمام باقي أؤلائِك الأسياد ، بُرود غريب يُصيب كل نَفس مُتواجِدة ، مدينةٌ ساكِنه ، هادئة ، بطُرقٌ أُعتاد عليها الاكتِظاظ ، نوعا ما خالية ؟ ، لا يوجد غير تِلك الأضواء ، التي تَسكنَت آفاقها المُعتِمة ،ألتَفِتُ للوراء لأعود بنظري للداخل ، لأرى عائلتي تتبادل تلك الضحكات الجميلة ،بالابتسامات التي تنمو كل وهلة على أفواههم ، كان الدِفء الذي يُذيب كل التّجمد ، كان دفئا لكل نفسٍ ضائعةً بين طرقات حالكة، لكُلِ نفس تائِهة في عتبات تالِفة ، هو الدفء الذي يذيب تَجَمُد هذا الأرض ، هذه الأرواح ، هذه الأنفس .
انت قلت لي بأنني لست الاسوء حالا في هذا العالم
فكرت في الامر كثيرا ووجدت بان ليس هناك شيء للتفكير به
في حين كنت أود سماع ما اود سماعه ، جعلت من الأمر ساخرا جدا
بدا الأمر لي كأنه غثيان مؤقت قد ظهر على سقيفة الغرفة التي كنا نتحدث بها ،
لكنه بالفعل قد طغى بطريقة مشمئزة ، انت ، قد شعرت بالغثيان من كلامي ،
حين سقطت تلك الكلمات بهدوء شديد ، كانت قد سقطت بالفعل على كتفي بقسوة ، هل كانت تربيته حينها؟
استمَر بِالفرار ، يهرول أعينه بين صفحات نفس الكِتاب، ويلهث ضاحكا على سينمائية الأفلام ، يبحث عن لذة في الطعام ، و يتوسل جاثيِا للشغف بالإياب ، يبحث نفسه بين طيات النسيان ، يتمعن في الأوجه للعثور على الأسباب ، ولكنها زائلة ، كانت أقرب لأن تكون حاقدة …فبأي ذنب جعله يشعر بالإكتعاف؟ لا زال هائما بالفِرار ، ويتوسل لنفسه ان لا يَجِد الطريق بعائق، لكنه تاه في أكفِنةٍ من الضباب الخانِق
الأب، هُمِشت بطولاتها بغض النظر عن تفاصيلها الجميلة، الأب كُسِرت معانيها من عُمقِها، الأب قد كانت يوما درعًا احتمي به من كل ضربةٍ مٌباغِته، الأب كانت لي ضياء خافِتا يدفعني لأن أرى جمال العتمة الآسرة، الأب كلمِة طالما تمنيت أن اجد منها صُحُفا تتدفق معانيها عنها، لكنني لم أجد سوى انها معنى ضائِعا داخلي فقط، شيئا لطالما افتقرت له الصحف والإذاعات، أوراق الكتب المتناثِرة والخزعبلات .
والدي العزيز، أبي ، وطني الدافئ ، لكنني لا أملك ادنى فكرة ماذا أصفك يا أبي ، فقد كنت مزيجا لكل شيء جميل ، أهكذا ظهرت كلمة أبي ؟ أبصرت في هذا العالم وأبصرت معها دفئ والدي، فكلما أِبتَعد كنت أشعر ببرود هذا العالم البائِس، فيُزال ذلك البرود حين اسمع خطواته المتعبة تقترب من الباب، فأركض محتمية في احضانه من وحشة البعُد، فيهطل دفئه في قلبي ونفسي ، مُرتسمة في جوفي ذكرى حاضِرة في كُل لمحة لي لكلمة “الأب” .
والدي العزيز كان شخصا رصينًا ، خلوقًا ، قويا ، لطيفا ، مثابِرا ، نبيلا ، مثقفا يهوى الكُتب ويهوى القُرّاء ، في كل نُطقا لكلمة “الأب ” اذكر أنامله الدافئة وهي تُقلب صفحات الكُتب المتناثرة حوله ، مُحدِثا لي عن ماذا تحمل بُطون تلك الاغلفة الغريبة ، مجاوبا لي عن كل سؤال مزعج في كل مرة ينتقل بها الى صفحه أخرى ، عن اول كِتاب عاد به من عمله معه ، وعن أول شُعورٍ باللهفة لقراءة ما قدّمته أياديه إلي ، وعن أول فرحةٍ في انهاءه بعد تلعثمات لاطفها الكِتاب لحامِله ، وعن فخر والدي بعزيمتي التي عاهدته ان أكون على مسارها دومًا ، كوّن شخصا ينظر الى العالم بطريقة فلسفية جميلة بثقافية واقعية ، وبنبوغا رائِعا ، وورثت منه خُلقا عظيما وقربا من الله ومن الناس حبا ولطفا ، قوية مستقلة ، ” الأب ” .
والدي العزيز ، والدي الذي خجَل منه الزمان فلم يُهزم منه ولا مال ، الذي حارب تحديات الزمان وامسك بأحلامي الضالة ، وقادها إلي ، في كل مرة تتطرق كلمة ” الأب” في مسامعي ، اسمع خيوط صوته في مسامعي وهو يشجعني بضحكة مختبئة بداخله ان انتصر عليه في الشطرنج ولو انني حينها كنت ألعب دوره واستخدم جنوده ليقتلوا الملك الخاص بي ، كنت أرى في أعينه شغفا استمد منه قوتي في عتمتي القاتمة ، ابصر النور في متاهتي التي يخيل الي ان قواي خارت واضلعي قد ارهقت وقتها ، كانت كلمات أبي هي كل ما يهابها العالم في قوله لي ” نحن ندرك اننا كنا سعداء في أتعس لحظاتنا ، اننا نندم على اخطائنا عندما نرى مرارة النتائج ، ادراكنا للأمور بعد ضياعها هو ما يضعف همتنا ويخير قوانا في الاستمرار ، لعلكِ تحتاجين القناعة لا الإدراك ” أعظم ما قيل في ” الأب ” .
الإكتفاء، لعل الاكتفاء بكلمة ” الأب ” هي المعنى بحد ذاته، لعل انهم لم يجدوا ما يواكب عظمة ” الأب ” فقيل المعنى هي الكلمة بحد ذاتها، جوهرها، ما ينكب في كل هواجسك ومسامعك وذكرياتك هي المعنى الحقيقي للأب ، عند اشتياقي له في كل مرة عند ذهابه للصلاة ، عند حزني وكربتي ، ان أرى عيناه كسماء اكتظت بها نجوم الحياة ، ما كنت لأبخل عليك يا أبي بعمري لو أنّ العمر يُهدى ما كنت لأرى جمالا الا عندما تضحك عيناك ، ما كنت ان اشعر بعظمة الأب لولاك
حتى لو كان ذلك الضباب حالكا.. ساجدك بالفعل. لو كانت تلك النجوم اكتفت من اضاءة السماء…. ستكون انت النور الذي يضيء طريقي…سأركض بحذائي المبتل ..تحت قطرات تلك الامطار المُظللة …..وسأجدك …
لا تُحدثني بما كان يحتويه الزمانُ…فقد تاه …مابكَ لم تعد تخبرني هل الكلام أذاك؟ ….أحببت التفاخر في التفاهات …فجلعت من التفاهات معجزات …اخبرتك لم لا تحدثني بكل فِعلٍ…جعلته في سُبات …؟…ألم تكن أنت من أخترت الانتباه ؟…أفعالك الدنئية ..تستتر عليها بأحاديثك الجميلة ؟….أخبرتك ! .. انتَ لست بملاك …فلماذا تذكر أفعالا وكأنها أتت من السماء؟…وتعتقد الان بأن الامر قد فات؟
..فلا سماء ستمطر عليك بكائها …ولا رياح تحرك احشائها …..ولا ارض ستهز باجزائها …لاجلك …..ستجد من يمكنه أن يمد اذرعه إليك هو أمك ! …لذا …لا تقصر بها …وأقضي معها كل أيامك وكأنه يومٌ واحد ….ولا تتركها عندما تكون في أمس الحاجة …لأفعالك …..وقُل لها إنك تحبها …قبل أن يفوت الأوان …أحِبها …مهما كنت صغيرا …كبيرا …أو ربما مُسِنًا ؟….أحِبها كما كنت …أفعل ..أنا .
كان يُسمح لمشاعره بأن تحتضر، ويسمح لأخرى لتُحبس ، في صميم قلبه الجاف كانت هناك الكثير من المشاعر الاسيرة ، وقد حسب بأنها مستقرة في وتينه ، لم يشعر بالفعل بنفورها ، لم يشعر بتلك المشاعر ، هي لا تعمل ، لاهي بخارجة ولا هي بدخيلة ، ولأنها حُبست في قلب هزيل، كانت ستنفجر ، او تفيض ، كانت ستسيل ، بطرق بشعة ، وفي أوقات مُقرفة ، كانت مستعدة للخروج ، هي اسوء من ان تكون مشاعر هي نوازل ، كوارث ، احدها يفيض والأخر يسيل ، وقد كانه هو الأسير … لا مشاعره ..لا نوازله .
أعتقد بأننا نقع في الأخطاء ونحاول النهوض منها مجددا، ولكن بطريقة وبأخرى نعود لنسقط مرة أخرى ليس لأننا لم نتعلم من أخطائنا ولكن اصواتنا الداخلية دائما ما تخطئ في النهوض، نتناسى أخطائنا لنفتح آفاق أخرى لأخرى نتورط بها.