
بشرى بن فاطمة
ليست التوافقات البصرية التي قدّمتها روث تيريل التشكيلية الأمريكية الرائدة (1930-2023)، بالبسيطة كما تبدو ولا بالمعقّدة كما هو انتماؤها السريالي المتماهي مع الرمز والمثير للمقاصد، فهي ليست بالعابرة أو الهادئة وسط صخب متكامل ومدروس ومكتشف في تأملات الوجود والواقع وانبعاثات اللون في الحلم.
فقد كانت بحرفية مصقولة عبر مراحل نضجها وتطورها الفني والتقني والبصري، قادرة على تحويل ذلك الحلم إلى كابوس معلن لحلم مشتهى ومتمرّد، فبين التناقضات تجد ذاتها محلّقة تجادل اللحظة المنفلتة من الزمن في عمق التعاقب بين الماضي الغابر والمستقبل الغامض.
تنتمي روث تيريل الى المدرسة الفنية الأمريكية المعاصرة ولدت في شيكاغو وتلقت تعليمها الاكاديمي في جامعة ستانفورد للرسم وجامعة ألينويا، تكوينها الأكاديمي المُبكّر واطلاعها على فنون العالم والتطورات الفكرية والفلسفة البصرية التي تأثرت بواقعها جعلتها تكتسب روح التجريب وتخوض مغامرات الاكتشاف حيث كان لها حضور دولي كثيف أدخل اسمها في تاريخ الفن التشكيلي العالمي، كما مهّد لها الطريق حتى عرضت أعمالها داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، انتمت للجمعية العالمية السريالية وكان لها تطوير لفنون الخيال من خلال توظيف الخامة وتدعيم الصورة بالكولاج عملت في التدريس الجامعي وقدّمت الكثير من الأطروحات في البحوث الفنية.
في أعمالها الفنية وكذلك أسلوبها الكتابي اعتمد روث على الحركة والبحث والغرابة وإثارة الفكر للتاؤل وعدم القبول بالمسلمات المعلّبة فقد تفرّدت بأسلوبها هذا، خاصة تلك الرؤية الاستفزازية امتلكتها حتى تواجه الواقع بسريالية “ذات رؤية” كما تقول عنها أي أنها لا توظّف السريالية لغاية طرح الغرابة أو استعراض الفانتازيا الفواقعية بل اعتمدت رؤية ومضمون وحضور وفكرة وحلم ساهم الكولاج في دعمه بصريا.
رغم أن السريالية تميز عملها بشكل واضح وبارز إلا أن تفاصيل أعمالها الدقيقة تحيل أيضا وضمنيا على تطور التيار السريالي وبالخصوص بالعودة إلى الدادائية والواقعية السحرية وبذلك تجمع بين زمنين وفترتين بين الحضارة الإنسانية وبين التجارب التشكيلية منذ الكلاسيكيات الأولى وعصر النهضة إلى التطويرات الحداثية، فهي تحاول تطويع فنون عصر النهضة مع الرؤية الحديثة والمعاصرة باعتماد المشاهد والرموز الدينية ودمجها فلسفيا.
بدأت روث منذ ثمانينات القرن الماضي في اعتماد الكولاج كتقنية معبّرة عن أفكارها وصور أحلامها بشكل ملائم وحر متخلص من القيود التي تفرضها عناصر اللوحة في إنجازها، والتي كانت تستغرق وقتا طويلا، في مداخلاتها ومقالاتها كانت تقول عن منجزها الفني، “يمكن وصف عمليتي الإبداعية بأنها حوار تأملي بين العقل الواعي والعقل اللاواعي، الصور التي أستخدمها تستند إلى رؤى تأتي إليّ من الأحلام ويقظة الخيال ردًا على التأمل في بعض الأسئلة الفلسفية الوجودية”.
وعن تقنية الكولاج وضّحت في كتاباتها “أعمل مع الكولاج كوسيط لي لأن هذه التقنية توازي طريقة العقل في تكوين الأحلام، من خلال إعادة تنظيم عناصر الحياة اليومية في مجموعات غير متوقعة ، يمكن للأحلام في كثير من الأحيان أن تركز على حقائق خفية ومعان متعددة وتخرجنا من نظرتنا العادية للأشياء، باتباع عملية مماثلة ، أقوم بتعديل ودمج قطع من الصور “الموجودة” في الحياة اليومية من أجل اكتشاف إمكانيات رؤية العالم من منظور أكثر دقة ورقي، فالموضوع العام الذي يدور في جميع لوحاتي وتركيباتي يدور حول تسليم الهوية الشخصية للفرد والولادة من جديد إلى ذات أكثر شمولية في تواصلها مع الأطر الزمانية والمكانية لذلك تتعامل معظم الصور بشكل رمزي مع موضوعات الاستسلام والتحول والموت والتعالي”.
اطلاع روث على حضارات العالم بتفاصيلها الدينية والثقافية سواء لما قبل التاريخ أو الحديثة جعلها تكتسب روحا جديدة وشاملة في التعبير عن مقاصدها الفنية مثل تأثرها بعلوم الطاقة وعلم النفس اليونغي والكيمياء وهو ما عمّق تعاملها مع فكرة الحياة والموت وفكرة الخلود والفناء وهو ما كوّن فلسفتها المتجادلة بين الوعي واللاوعي وكوّن بحثها عن التماس الفعلي المتناقض بين الحواس والأفكار واتباعها للمسار الروحي عبر الأزمنة بحثا عن الحالات الوجدانية في تكاملاتها مع كل ذلك وهو ما جسّدته في أعمالها.
يراوح فن روث تيريل على الجمع بين فن البورتريه الخيالي والفن التجريدي والمناظر الطبيعية، فتتكون أعمالها من قطع من الصور تقوم بقصها ولصقها معًا “بالطريقة القديمة” دون استخدام التكنولوجيا الرقمية.
من خلال هذه العملية ابتكرت صورًا تشبه الأحلام تستدعي الموضوعات الميتافيزيقية والوجودية إلى الذهن، إنها تلهم المشاهد للنظر إلى الأشياء “من منظور متعالي” كما يتم وضعها على ملصقات الدعاية الخاصة بها.
ومع ذلك ترتبط القطع بالحياة اليومية وينعكس ذلك في ولع تيريل باستخدام الأشياء التي تم العثور عليها والمناظر الطبيعية الداخلية الغنية الخاصة بها.
فهي تجمع الغريب والغير متوقع في الجمع كما تقول “أجمع الأشياء التي لا تتماشى بالضرورة في العالم الحقيقي ولكنها تتجمع معًا في عالمي”.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections