سياسة

ورحل أسطون الدبلوماسية والسياسة و”دبابة” الفكر

د. منصور خالد

مصطفى يوسف

فقد السودان الأسبوع الماضي، رقما مهما في خارطة الوطن، لا يمكن تجاوزه البتة، أسطونا من أساطين الفكر، جهبذا من جهابذة السياسة، رجلاً كان أطول النخلات في أرض الدبلوماسية، التي شهدت صولاته وجولاته وبصمت بإبهام التفرد والنبوغ له، قامة في دوائر البحث، التي قدح فيها زناد الرؤى وأنار طرقاتها ودروبها، وشعلة في قاعاته وقبساً في دهاليزه، التي صال وجال فيها، ومنارة في منصات العلم التي انتصبت عليها قامته العلمية فارهة الطول، أفل نجمه بعد مسيرة 89 عاماً،  كان يهدي خلالها الباحثين عن شتى صنوف المعرفة إلى خارطة الطريق.

قال عنه الأديب الأريب السياسي الذي عرف كيف يغزل الحرف الدكتور المرحوم عمر الحاج موسى، وزيرالثقافة في بدايات العهد المايوي:” ان السودان فيه وفيه، وفيه منصور خالد”، نعاه دكتور فرانسيس دينق وزير الدولة الاسبق بالخارجية السودانية، بقوله:” كان عملاقا حقيقياً”.

نعم كان الدكتور منصور خالد يزن دولة، بحجم قارة، لم يكن سودانياً بقدر ماكان عالمياً، عرفته أقبية الامم المتحدة التي عمل فيها ردحا من السنين، مناصراً لقضايا الأمم والشعوب، ومدافعا في اليونسكو، ًحتى تضاء نيران الثقافة والفكر، ومنافحاً في منظمة العمل الدولة عن تعلية بنيان حقوق العمل المعترف بها دولياً، شهدت له تجمعات الدبلوماسية التي كان وزيراً لخارجيتها، وخبرته منابر جامعة كلورادو بالولايات المتحدة، التي عمل فيها أستاذا للقانون الدولي.

من أم درمان، العاصمة الوطنية، الأصالة والعراقة، التي شهدت مسقط رأسه في 1931م، انطلق وإليها عاد ليكمل بقية العمر، بعد أن أحس أن ساعة الرحيل أزفت، مضمخا بعبق الوطن، ملطخا بطين (جروفه)، ترتسم على محياه سهوله وأوديته وأنهاره، ويحمل في الدواخل إنسانه وقضاياه المصيرية والملحة، قيمة ومعنى، كان كل هذا وكل ذاك.

أهلته كلية القانون جامعة الخرطوم، ليتعرف عن كثب على الإرث الإنساني في مجال الحقوق والقانون، فمنحته درجة البكالوريوس، التي لم تشف غليل تطلعه العلمي، كانت قرب سقياه ظمأى للمزيد، فحط الرحال في بنسلفانيا التي نال في جامعتها درجة الماجستير، ثم واصل مسيرة العلم وكانت باريس محطته التي نال فيها درجة الدكتوراة في القانون.

سيرته الذاتية تكشف عن قدرة عجيبة في معانقة معادلات السياسة وكيمياء الدبلوماسية، ولوغاريتمات الفكر، التي بسّطها أثناء عمله كزميل بمعهد ودرو ويلسون بمؤسسة اسمثونيان بواشنطن، وهي من الدوائر التي لا تسمح للمرور عبر بوابتها إلا لمن اتصف بالفعل وامتلك خاصية (دبابات الفكر)، ما من محفل إلا ووضع بصمته فيه، وما من دائرة إلا وأوصل التيار فيها.

أشعل زناد الفكر وزود المكتبة الإنسانية بمؤلفات، تنم عن الثقافة الثرة، الاهتمام الأوسع والأشمل والإنحياز لثقافة عالمية متجاوزة، لا تعرف ولا ترتهن لقيود الحدود ولا ضيق التصنيفات، دون ان يمارس شغل (الهتيفة) الذين امتلأ بهم زماننا الآن، لايُعلي صوته، لكنه يهتف ويصرخ بالكلم المموسق والمدوزن لعصب التلاقي البشري.

كتب عن قضايا السودان، فأبدع كعادته دوماً، وعن العالم فأجاد، نظر بعين ثاقبة ونظر متقد، تجاوز الصغائر وسما نحو العلا، يروم صدر السماء لفكره، فلاغرو إن قيل عنه إنه تجسيد للمثل النادرة في عالمنا المفارق والمفكك.

أذكر تماما انه كان القاسم المشترك في كل حواراتنا ونقاشاتنا الليلية والنهارية بسحن كوبر، أنا، حيث كنت اقضي فترة اعتقال تخفظي بلائحة الطواريء واللواء خالد حسن عباس وزير الدفاع في عهد مايو، والدكتور بهاء الدين محمد ادريس مستشار الرئيس نميري، اللذين كانا يقضيان عقوبة السجن المؤبد، رحمهما الله، ماذكرت قضية من قضايا السودان إلا وكان له فيها- حسب مايقولان- القدح المعلي، ماورد موضوع إلا وكان له شرف التصدي له (هو رجل فات الآخرين سنين ضوئية). 

زودنا بالكثير المثير الذي لا نملك معه إلا أن نحني الرؤوس لهذا العقل المتقد تجلة وتقديرا، قرأنا له، حوار مع الصفوة، لا خير فينا ان لم نقلها، السودان والنفق المظلم.. قصة الفساد والاستبداد، الفجر الكاذب، جنوب السودان في المخيلة العربية، النخبة السودانية وإدمان الفشل، في جزءين، السودان، أهوال الحرب.. وطموحات السلام.. قصة بلدين، الثلاثية الماجدية.. صور من أدب التصوف في السودان، في ثلاثة أجزاء، تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد.. وهي مجموعة مقالات.

ناضل من أجل السلام، ومن أجل وطن معافى، في دولة الحقوق والواجبات، دون تغول أو وصايا، وكافح من أجل الحرية، بمعناها العلمي الدقيق، كان همه أن يرى سوداناً موحداً، ترفرف فوق راياته معاني العزة والسمو، لكن شاءت الأقدار كما اراد المهرجون والمهوسوون والأوباش غير ذلك، فأنفصل الجنوب، وانزوى منصور عن المشهد لايلوى على شيء، ألا رحم الله منصوراً، بقدر ما قدم لبني وطنه وإنسان العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق