سياسة

بيت فتحية (١)

زيارة الى الخرطوم بعد عام من السقوط

شارلوت فيدمان

ترجمة فادية فضة ود. حامد فضل الله

“نشرت الصحفية والكاتبة الألمانية شارلوت فيدمان* مقالاً في الصحيفة الفرنسية لوموند دبلوماتيك (النسخة الألمانية نيسان/أبريل 2020)، تستعرض وتحيي فيه الدور الكبير للمرأة السودانية، في انجاح الثورة الشعبية ــ 19 كانون الأول، ديسمبر 2018، التي أطاحت بنظام الإنقاذ الفاسد والظالم وخاصة قهره وإذلاله للمرأة. ونحن نحيي ايضا عبر هذا المنبر كل الكنداكات، اللواتي جاء ذكرهن، وتحية خاصة للدكتورة عائشة الكارب، التي شاركت عدة مرات في المؤتمر الذي يقام سنويا في مدينة هيرمانزبورج في ولاية ساكسونيا السفلى، بدعوة من منتدى السودان وسودان وجنوب السودان فوكال بوينت، وكذلك المشاركة أيضاً في ندوة “الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر”، بدعوة من مؤسسة فريدريش ايبرت في برلين، لمداخلاتها الثرية ودفاعها عن حقوق المرأة وحقوق الاِنسان والديمقراطية وحرية العقيدة، بشفافية وموضوعية وعقلانية، بعيدا عن الهرج السياسي”.

جديلة شعر مقطوعة، رقيقة ومضفرة باحكام موجودة بيد سودانية. تنقلها بين اصابعها أثناء حديثنا، كرمز علماني، مثلما يسبح رجل بخرزات مسبحة الصلاة. شَعَر رفيقة مجهولة، تم العثور عليه خارج الميدان الرملي أمام المنزل، في أيام النضال عندما هاجم الجنود النساء وقطعوا بحركة سريعة ضفائرهن بالسكين.

فعل الجنود بما هو أسوأ، وربما يشير هذا إلى شيء آخر في عملية القطع وكذلك في عملية الحفظ. بعد مرور عام على سقوط عمر البشير، تُذكر هذه الضفيرة بالإذلال وبالصمود، ولكن وقبل كل شيء بأن التذكر ما زال سابقاً لأوانه. لأن الكثير، في الواقع، ما زال مفتوحا في السودان الجديد، وهذا يشمل ايضا، ما سوف تجنيه النساء من ثورة، كانت ثورتهن.

تجمعت في غرفة معيشة في الخرطوم؛ ثلاثة أجيال من النساء والفتيات، مثلما حدث قبل عام عندما وقعت مشاهد دموية في الميدان الرملي بالخارج، حيث وجدت الضفيرة لاحقًا. المنزل في زاوية الميدان، في منحدر من المسجد الذي كان ملاذاً للعشرات من الناس، حين تحطم زجاج النوافذ تحت وابل من رصاص الجيش. فتحية محمد أحمد، تلف شالاً أخضراً فاتحاً حول قوامها المستقيم، تقود كجدة الدفاع كما في السابق، وتتحدث كذلك الآن دون أي مُنازِع. لقد خرجت من البيت وقالت للجنود، وبتعبير لا مبالغ فيه: ” متى نموت هذه مشيئة الله. لكننا سوف نحصل على حكومة مدنية”.

شكلت النساء الأغلبية في المظاهرات

في يوم زيارتي، كان هناك مئات الكراسي في الميدان الرملي، حيث يجري إعداد تأبين لضحايا الثورة. تسود في بيت فتحية على الزاوية، حركة ذهاب وإياب حيوية. يسجل المحامون إفادات الشهود لمحاكمات الجناة، بينما يحملون الأصغر سنا صناديق شطائر إلى الميدان. ثم صمت لعشرين دقيقة كاملة إحياء لذكرى الضحايا، تقف النساء والفتيات بجد وبلا حراك في منطقتهن الخاصة، وبعضهن يحملن لافتات تحمل شعارات مرسومة بخطوطهن؛ العقوبة، القِصاص. تقدمت بعد صلاة العشاء ومع حلول الظلام، أول متحدثة، أم شهيد، منقبة لا يرى منها سوى العينين، ترتدي نقاب وقفازات سوداء، تتحدث بحماسة في الميكروفون، تتهم وترفع إصبع السبابة في الهواء. يرفرف حجابها مع الريح المسائية، ويلقي بظل أكبر حول الشكل الأسود.

امرأة سودانية ثورية بوجه مغطى تثير تساؤلات، خاصة للعين الغربية التي تبحث عن صور واضحة، لا توجد غالبا في السودان. عرّضت النساء حياتهن للخطر للإطاحة بالدكتاتورية الإسلاموية التي عاقبت من يرتدين البنطلون بالجلد. في بيت فتحية على الزاوية، لا ترتدي الحرية الجديدة أثواباً جديدة. الجميع يرتدي الفساتين الطويلة، مثلما كان الحال سابقا، وفتحية لا تبدي استحسانا لاِرتداء البنطلون..

قام فنانو الجرافيك، في مكان غير بعيد عن منزلها، يرسمون بالرش صور ظليه للمناضلات بأدوات المطبخ، على الجدران المجوفة.. شكلن النساء الأغلبية في المظاهرات، سواء المتعلمات أو غير المتعلمات، المسنات والشابات. هذا ما يجعل الانتفاضة مميزة، بجانب اللاعنف. ولكن السودانيات لم يتفاجأن بقوتهن. من على البعد، ربما رأيناهن ضحايا فقط، لكن هن أكثر من ذلك. ولديهن بالفعل تاريخ من النضالات. (في أسفل الصفحة، صورة ظلية رائعة لفتاة سودانية، بهية الطلعة، ترفع يدها اليمني الماسكة بسلاح المقاومة “مفراكة” (ملعقة خشبية طويلة).

عندما أصدر أحد المحافظين قراراً يقضي بمنع نساء الخرطوم من العمل في محطات الوقود والفنادق والمطاعم، تصاعدت الاحتجاجات واضطر المحافظ إلى المغادرة. كان ذلك قبل عقدين من الزمن. منذ ذلك الحين، ازداد الإفقار في عهد البشير، ولم يعد باستطاعة العديد من الرجال إعالة أسرهم، على الأقل ليس بمفردهم.

التحق المزيد والمزيد من النساء السودانيات بالعمل، وأصبحت بعض الأسر تديرها الآن امرأة، على الرغم من عدم وجود قانون بهذا الصدد، بحيث يعتبر بائعات الشاي مثالاً على كيفية ارتباط العمل والجمهور وتأكيد الذات. يجلسن على عدد قليل من البنابر “مقاعد صغيرة مضفورة بالأسلاك” وحفنة من الأكواب وغلاية ماء، في العديد من أركان الخرطوم.

استقبلوني المتحدثات باسم نقابتهن في مخزن سابق لأحد الأسواق. النوافذ حديدية، أرضية الاسمنت متسخة، الكراسي معوجة. تسعل الرئيسة عوضية كوكو، وتبدو مرهقة. ولدت في جبال النوبة، شردتها الحرب الأهلية، وجاءت إلى الخرطوم في الثمانينيات، ثم فتحت كشك شاي بعد ذلك وعاشت المضايقات. تقول عوضية، بالنسبة لقوات البشير الأمنية، كانت نساء الشاي “مثل وسخ الشوارع”، وقد تم تحطيم أكشاكهن، ومصادرة الشاي والأواني، وكانت النتيجة في كثير من الأحيان الديون والسجن. في مواجهة ذلك، أسست عوضية النقابة، وقد كان ذلك قبل سنوات، وخلال ذلك تم تنظيم 20.000 امرأة شاي وأعمال نساء صغيرة أخرى في الخرطوم. كان دعم الثورة أمرًا طبيعيًا بالنسبة للكثيرات، وأصبحت عوضية من خلال مطبخ الشارع، أسطورة.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق