ثقافة وفن

رائحة الذكريات

د. على عفيفي

هل وجدت نفسك يوماً تتذكر مشهداً من فيلم عند تناولك لطعام معين؟ هل تذكرت شخصاً عزيزاً عليك عندما مر بجوارك شخص آخر لم تتبين ملامحه حتى؟ هل وجدت نفسك تفكر فجأة في العودة لتدريبات السباحة بمجرد أن فتحت عبوة مبيض الملابس الشهير؟ اسمح لي عزيزي القارئ أن أخمن سبب ذلك الحنين الطارئ إلى الماضي، إنها الرائحة ولا شك. نعم، فالرائحة لها مفعول السحر في استرجاع الذكريات. ستظل رائحة الملوخية الشهية تذكرك بوجه والدتك أو بالفيلم الذي شاهدته لأول مرة أثناء تناولك للغداء، تماماً كما ستذكرك رائحة مبيض الملابس برائحة الكلور في حمام السباحة الذي توقفت عن ارتياده منذ زمن.  أمر غريب، أليس كذلك؟ الأغرب هو أن هذا الارتباط القوي بين الرائحة والذكريات قد يغير من شعورنا الفطري تجاه الروائح، فرائحة المنزل السيئة التي كنت تكرهها ستصبح رائحة محببة عندما تترك ذلك المنزل الذي عشت فيه ذكريات جميلة، وربما تكره إلى الأبد رائحة عطر جميل لأنه يذكرك بمديرك المتسلط أو أستاذك الصارم.

هذا الارتباط القوي لا يقتصر فقط على الروائح ولكنه يمتد إلى باقي المؤثرات المحيطة بنا، هل تذكرك أغنية معينة برحلتك الأولى إلى الإسكندرية؟ هل تتذكر والدك الراحل كلما سرت في شارع معين؟ إذا كانت حواسك الخمسة تعمل بشكل طبيعي فأنت بالتأكيد قادر على الربط بين المؤثرات المختلفة والذكريات التي تمر بك، ولكن العلماء لاحظوا أن حاسة الشم أكثر فاعلية في استرجاع الذكريات من باقي الحواس، فما التفسير العلمي لذلك؟

ظلت الإجابة على هذا السؤال مجهولة لفترة طويلة، فلم يكن العلماء قادرين على تحديد مركزي الشم والذاكرة في المخ بكل دقة. في البداية، ذهب العلماء إلى أن جزءاً صغيراً في المخ يسمى الـ hippocampus هو المسئول عن حاسة الشم وذلك لاتصاله المباشر بالأعصاب القادمة من الأنف، ثم جاء عالم الأعصاب الشهير رامون كاخال (1852- 1934) ونفى وجود أي اتصال بين ال hippocampus ومركز الشم في المخ (Olfactory bulb)، ثم أثبت التقدم العلمي وجود هذا الاتصال بالفعل وأن ال hippocampus هو مركز الذاكرة والتعلم في المخ1.  ولكن، هل الاتصال المباشر بين مركزي الشم والذاكرة يفسر دور الروائح في استرجاع الذكريات؟ ليس بالضرورة، ولذلك حاول العلماء القاء الضوء على هذا الارتباط.

وجد العلماء أن أي نشاط عصبي يحدث في مركز الشم يتبعه نشاطاً في مركز الذاكرة والتعلم2. مؤخراً، قام فريق من العلماء بتعريض عدد من المتطوعين لروائح مختلفة وطلبوا منهم أن يتذكروا تلك الروائح (مرحلة التعلم)، ثم قسموا المتطوعين إلى فريقين، طلبوا من أحد الفريقين التنفس لمدة ساعة عن طريق الأنف والآخر عن طريق الفم. بعدها اختبر العلماء قدرة الفريقين على تذكر الروائح (مرحلة الاسترجاع)، فوجدوا أن الفريق الذي تنفس عن طريق الأنف استطاع أن يتذكر الروائح بصورة أكبر من الفريق الذي كان يتنفس عن طريق الفم، وهو ما يؤكد دور الاستنشاق من الأنف (الشم) في المساعدة على استرجاع المعلومات3. اكتشف فريق آخر من العلماء أن جزءاً في المخ يسمى ال Anterior olfactory nucleus مسئول عن ربط الروائح بالوقت والمكان الذي تعرض فيهما الإنسان لتلك الروائح، وهو ما قد يفسر أخيراً دور الروائح في استرجاع الذكريات4.

على الجانب الآخر، وجد العلماء أن الأشخاص الذين يفقدون القدرة على الشم يكونون أكثر عرضة للإصابة بمرض الزهايمر، وأن اختباراً بسيطاً لقدرتك على الشم قد يتوقع إذا كنت مصاباً أو في طريقك للإصابة بالزهايمر5، ولكن أرجوك لا تقلق عزيزي القارئ، ففقدانك القدرة على الشم قد لا يكون خطيراً وقد لا يؤثر بأي حال من الأحوال على ذاكرتك في المستقبل. لا تجعل عدم قدرتك على تمييز رائحة الطعام يقلقك، بالعكس، فقدرتك على تمييز الروائح وربطها بالذكريات قد يجعلك تتذكر إلى الأبد ماذا حدث في المرة الأخيرة التي انتقدت فيها طعام زوجتك.

مصادر

•Alastair Compston, The hippocampus and the sense of smell. A review, by Alf Brodal. Brain 1947: 70; 179–222., Brain, Volume 133, Issue 9, September 2010, Pages 2509–2513, doi.org/10.1093/brain/awq242

• Kay, L. M. et al. Olfactory oscillations: the what, how and what for. Trends in Neurosciences. 32, 207–214 (2009).

• Artin Arshamian, Behzad Iravani, Asifa Majid and Johan N. Lundström. Respiration Modulates Olfactory Memory Consolidation in Humans. Journal of Neuroscience, 28 November 2018, 38 (48) 10286-10294, doi.org/10.1523/JNEUROSCI.3360-17.2018

• Aqrabawi, A.J., Kim, J.C. Olfactory memory representations are stored in the anterior olfactory nucleus. Nature Communication, 11, 1246 (2020). doi.org/10.1038/s41467-020-15032-2

• Roberts RO, Christianson TJH, Kremers WK, et al. Association Between Olfactory Dysfunction and Amnestic Mild Cognitive Impairment and Alzheimer Disease Dementia. JAMA Neurology. 2016;73(1):93–101. doi.org/10.1001/jamaneurol.2015.2952

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق