سلايدرسياسة

اختراق الإنسان للطبيعة سيأتي بجائحة جديدة!

الحقوق الأساسية في زمن كورونا

موازين العالم تنقلب رأسا على عقب

د. محمد بدوي مصطفى

mohamed@badawi.de

ما الفرق بين كورونا وكوڤيد ١٩:

نسمع الناس يتحدثون في كل مكان أن فلان قد أُصيب بمرض الكورونا ونقرأ من ثمّة عن فيروس كوڤيد المتجدد في كل مواقع التواصل الاجتماعيّة بشتى الأشكال والألوان، لكن هل سأل شخص نفسه يا سادتي ما الفرق الحقيقيّ بين الاسمين (كورونا وكوڤيد ١٩)؟ هو كورونا هو كوڤيد، خالها أو عمّها، صاحبها أو ابنها، وهل للاصطلاحين علاقة وثيقة مع بعضها البعض؟ أجد أهميّة تنوير المواطن وتوسيع أفقه المعرفيّ في زمن الجائحة مهم. أولا من ناحية التفرقة بين الاصطلاحين علميّاً وثانيا من جهة التوعية الصحية لمجاراة هذا الوباء والتعامل معه. فعلماء الفيروسات يتنبؤون بقدوم جائحة قادمة لا محالة وأن كورونا سوف تغير حياتنا جذريا وقلبها رأسا على عقب!

وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية يطلق على فيروس كورونا القادم من الصين والمسبب عموما لأمراض الرئة والذي بدأ ظهوره لأول مرّة في أوروبا في شهر فبراير عام ٢٠١٩ بكوڤيد ١٩. والأخير اختصار للمصطلح الإنجليزي (كورونا فيروس دِزيزسس ٢٠١٩ (Corona Virus Disease 2019)، في نفس الوقت أطلق على العامل المسبب لمرض “فيروس كورونا المتجدد” الذي كان يُسمى سابقا (2019-nCoV) مصطلح خاص هو سارس كوڤيد-٢ (Sars-CoV-2) وهذه التسميّة الأخيرة سوف تكون هي المعتمدة والأهم في الدراسات العلميّة القادمة.

حقوق الإنسان الأساسيّة في زمن كورونا:

عندم نتساءل بيننا: ما هو الأكثر أهميّة في سياق مكافحة الجائحة: حماية الحياة أم الحريّة؟ ظل هذا النقاش يشغل الرأي العام في ألمانيا ولا تفتأ الأصوات تتعالى وتنادي بحق الحريّة في العمل، الحركة، إلخ، فبدأت الاحتجاجات الغاضبة تملأ ميادين بعض المدن الألمانية (تجمع أمس الجمعة بمدينة شتوتغارت أكثر من عشرة آلاف مواطن ولم تلتزم الأغلبية بتعليمات الابتعاد).  قرأت في هذا السياق نقاش دار بين الفيلسوف يورغن هابرماس والخبير القانونيّ كلاوس غونتر. أحسست من خلاله أن المجتمعات الأوروبية تشغلها قضية كتم الحريّات بصورة كبيرة. ذلك أدّى إلى ظهور نظريات المؤامرة التي تنحصر في استغلال الجائحة لأغراض سياسيّة بحته وكمتنفس لبعض الأحقاد، رغم ذلك نجد الأصوات المنادية بأن حريّة الفرد هي فوق مسطرة القانون المنادي بحفظ سلامة الحياة. حريّة الفرد تتلخص في فكرة: أنا حرّ في حياتي، إن مِتُّ فهذا ذنبي! وعلى صعيد آخر وفي بعض دولنا تعامل التفلتات التي تدخل – أقول بحذر – في سياق حريّات (كرامة الفرد لا تمسّ) ومخالفات التعليمات بالعقاب بشتى أنواعه: الضرب، الركل، الحبس، الغرامات الماديّة، الخ. وسوف أعكس وجهة النظر المتعلقة بأحقيّة حق الفرد في الأسطر القادمة حسب نقاش الفيلسوف والخبير القانونيّ.

الغضب العارم وتزايد الضغط لتخفيف قواعد الحجر الصحيّ الصارمة:  

 يتزايد الضغط الشعبيّ والجماهيري يوما تلو الآخر من أجل تخفيف قواعد الحجر الصارمة في مكافحة جائحة كورونا. ذلك يعكسه المشهد العام وينفجر بركانا من داخل الأسر المكلومة خاصة ومن داخل المجتمعات القابعة والمجبرة على العطالة عامة. في هذا الإطار تتبدّى سياسة الحكومة الفيدرالية الألمانية متناقضة بين ما ينادي به الاقتصاديون من فتح أبواب العمل لدعم عجلة الاقتصاد وبين ما يمليه عليها نتائج علماء المجالات الطبيّة من تعليمات لاحتواء وكتم أنفاس الفيروس وإلا ستكون العاقبة وخيمة! ومن الأصوات التي تنادي بمرونة التعامل وتتعالى بضرورة حفظ حقوق المواطن الفرديّة هما رئيس وزراء مقاطعة شمال الراين- فيست فالن (أرمين لاشيت) ورئيس حزب إف دي پى (كرستيان ليندنر) اللذان سيستندان على أيقونات قانونيّة معروفة وخبراء في القانون لِمَروَنَة فك الحظر، حيث أشارا في العديد من تصريحاتهما ومقابلاتهما إلى الإضرار الاجتماعية، البدنيّة، النفسيّة، العقليّة والثقافية البالغة كأثر سلبيّ لسياسة الحجر الصحيّ التي تتعارض تماما مع “حماية الحياة المطلقة” التي من شأنها أن تضمن لكل مواطن حقه الشرعيّ في المشاركة في الحياة. وقد أكد مجلس الأخلاقيات الألماني في هذا السياق بالفعل أن “الحماية الضرورية للحياة البشريّة ليست مطلقة”؛ وأن “الخطر الحياتي العام” الوارد حدوثه ينبغي أن يُقبل من أيّ فرد. 

الموازنة بين الحقوق الأساسيّة وحماية الحياة:

لقد اشتعل الصراع في هذا السياق عبر رئيس البرلمان الألمانيّ (بندستاق) السيد ڤولڤغانغ شويبله عندما أدلى بتصريح له قائلا: عندما أسمع أن كل شيء مرهون بسلامة الحياة العامة، عندئذ ينبغي عليّ أن أقول: هذه “المطلقيّة” (Absoluteness / absolu) بشكلها الحالي ليست صحيحة البتّة.  إن الحقوق الأساسيّة التي يكفلها الدستور الألماني (Grundgesetz – Loi fondamentale – Basic Law) للأفراد تحدّ بالفعل بعضها البعض. وإذا كان هناك قيمة قانونيّة مطلقة بالدستور الألماني فهي حتما أن ” كرامة الإنسان مصونة” (أي ليست قابلة للمساس). ولا يستبعد في سياق حفظ هذا القانون أن يكون الموت نتيجة محتمّة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: كيف يمكن لنا أن نناغم بين كرامة الإنسان المصونة من قبل القانون وحماية الحياة والسلامة البدنيّة. 

نقاش بين فيلسوف وخبير قانونيّ:

ظل الفيلسوف يورجن هابرماس والقانونيّ كلاوس غونتر، أستاذ القانون الجنائي في جامعة جوته بمدينة فرانكفورت، يناقشان هذه الأسئلة منذ سنوات. ويشير هذا النقاش الفلسفي الرفيع، أنه

لا يمكن اعتماد التصريحات والبيانات السياسية كتعليقات قانونية. ويساور القانونيّ حقيقة القلق عندما يرى أن جوقة من القانونيين قد انضموا إلى كورال الأصوات منادين بحماية الكرامة التي تكفلها المادة ١ من الدستور الألماني، مستخفين (إن صح التعبير) بالجملة الثانية من نفس المادة والتي تنطوي على “حماية الحياة” واضعين الأمثلة في ثوب كل أشكال وأنواع الحقوق الفرديّة، على شاكلة حق الحريّة وحق المشاركة والحركة، الخ، ومنددين بفك الحجر حتى تطير حرّة طليقة في فضاء الإنسانيّة. يقول غونتر: يمكن أن يشجع هذا التصرف على تفلتان وانحرافات قانونيّة عديدة، كما جاء في تصريحات “بوريس بالمر” عمدة مدينة توبنغن والتي اكتنفها نفس المنطق المنادي بقدسيّة  “حريّة الفرد” التي تتفوق على “سلامة الحياة”؛ والمعروف عن هذا الأخير أنه يعمل بمبدأ فرق تسد. وفكرة بوريس بالمر لا تتماشي تماما وتصريحات رئيس البرلمان الألماني شويبلر علما بأن هذا الأخير وضع أولوية الحق الفرديّ في صون كرامة الإنسان قبل حق حماية الحياة. ذلك حدس أخلاقي لا مراء فيه، فالحياة البشرية هي أكثر من أنها مجرد “الحياة” – التي نعزوها للحيوانات – وقد أطلق أرسطو عليها مصطلح الحياة “الكريمة”.

مفهوم كرامة الفرد على ضوء الدستور

(الأساسي في ألمانيا):

إن مفهوم حق “الكرامة” انطلاقا من مواد الدستور الألماني الذي يكفله لكل فرد داخل المجتمع يمكن أن نترجمه اليوم في سياق جائحة كورونا وتبعا لأدلة الفيلسوف يورجن هابرماس، في ذاتيّة حق اتخاذ القرار وحق تحمل المسؤولية الفرديّة (كل نفس بما كسبت رهينة). وربما تنشأ من جراء تحمل هذه المسؤولية حالات مهينة للفرد، كما يصرح، مثال الأمراض الفتاكة التي يتعذر معالجتها، البؤس الشديد، الافتقار المهين أو الاضطهاد بسبب انعدام الحريّة، ساعتئذ يكون الموت للمرء أرحم وأبقى من أن يعيش ويعاني مرارات حياة لاإنسانيّة. وبصرف النظر عن المواقف اليائسة المأسويّة المذكورة طيّه، فلا يمكن لأحد غير الشخص المعنيّ نفسه من اتخاذ هذا القرار عنه فضلا عن أي حقوق تكفلها قوانين أساسيّة أيّا كانت. بمعنى أن هناك أمرين لا ثالث لهما: البقاء أو مفارقة الحياة.

إن السؤال الذي يطرحه هابرماس في هذا السياق يكمن في الآتي: هل للدولة الحق في الحكم في أن يحيا بعض مواطنيها أو حتى واحد منهم فقط مقابل الرفاهية المنشودة؟ بمعنى آخر: كيف يمكن موازنة حريّة الفرد مقابل توفير الحياة الجيّدة إلى حد ما للمجموعات الاجتماعيّة الكبيرة؟

متى ينفك العالم من السيّدة “كورونا”:

لقد أصبحت السيدة كورونا يا سادتي ك “متلازمة داون” (داون سندروم) تصاحبنا، تعاقبنا وتكبلنا في كل لمحة ونفس. تغيرت ملامح المدن وتبدلت طرق المعاملات بين الناس وتفاقمت مآسي الناس الذين سلقوا على أن يقتاتوا لقمة العيش يوما بعد يوم. هل سيستمر الحال هكذا؟ لكن إلى متى؟ وهل “للصبر حدود” – على حد كلمات أغنية أم كلتوم؟ هل يا ترى هناك بشائر يحملها المستقبل وتفاؤل عالق في الأفق يشير إلى إمكانية حدوث معجزة بنجاح الأبحاث وقدوم اللقاح المنتظر في القريب العاجل؟ كلها أسئلة هامة عالقة بذهن كل مواطن. حسب تصريحات بعض العلماء الألمان أن قضية البحث قد تستمر إلى ما يقارب السنتين، أقل أو أكثر. سمعت بعض الباحثين يقولون إن الحال ربما يبقى كما بقي فيروس الإيدز دون وجود مصل. والأقوال والتصريحات متضاربة فعلينا أن نعيش ونعايش هذه السيّدة المتكرونة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

ينبغي علينا رغم ذلك أن نعلم ونتعلم بحكمة ويقين أن هذا المرض سوف يغير وتيرة ونسق الحياة في كل الدنيا. دعوني أضرب لكم مثال. ذهبت الأسبوع الماضي إلى الحلاق هنا بمدينة كونستناس، فوجدت تعليمات صارمة مخيفة ومهمّة في نفس الوقت ينبغي على كل زبون أن يحتذي بها. أولا البعد المسافي، التعقيم، الكمامات، عدم حلاقة الدقن، عدم ملامسة الوجه، منع الدخول لأي زبون غير ملتزم، الانتظار في الخارج، والقائمة طويلة! ومن يخالف هذه التعليمات تنتظره غرامة وقدرها ألفين يورو بالتمام والكمال تقع في آخر الأمر على عاتق صاحب المحل. لندع الحلاقين جنبا ونفكر مرّة واحدة في زيارة أهلينا وذوينا مثلا: كيف يمكننا أن نسافر بالطائرة أو قل بالمركبات العامة مع احترام قواعد الالتزام بالبعد المسافي، التعقيم، إلخ؟ ربما يقول أحدنا، القاتل الله والمحي الله. بيد أن هذا المرض فتّاك، نعم فتّاك إلى أبعد الدرجات، وقد أثبتت التقارير الطبية الجديدة أنه لا يصيب الرئتين فحسب بل يُحدث إصابات في الكليتين، المخ، ويصيب أيضا الأطفال ويسبب بعض التعوقات النيورولوجيّة (العصبيّة) والقائمة تتوسع والأبحاث جارية لمعرفة المزيد. إذن فالأمر جديّ وخطير للغاية.   

نظام العالم في ظل كورونا:

منذ آلاف القرون شغلت الجوائح والأوبئة والأمراض الشعوب وأخذت حيزا كبيرا من الجهد والمعاناة وتبديد الموارد الماليّة والطبيعية بغرض القضاء عليها أو أضعف الإيمان احتوائها أو تقليل خطرها وديمومتها. وكما ذكرت أعلاه أن الدنيا قد تغيرت وفي طريقها أن تتغير وتتحور جذريا أكثر فأكثر بسبب الكورونا.

فنحن نجد معدلات الوفيات والإصابات في السويد مثلا عالية جدا مقارنة بدول أوروبيّة أخرى كألمانيا أو هولندا والسبب يعزى في أن حكومة السويد خاطبت العقول النيرة أن تلتزم باللوائح والتعليمات من جهة، ومن جهة أخرى عملت بنظرية عدم التدخل في أمور الطبيعة، يعني على منوال لكل داء دواء. فكانوا يأمّلِون عند انتشار الفيروس أن تنشأ مناعة طبيعة للفيروس داخل المجتمع يمكنها أن تحتوي قضية انتشار الوباء. وظهور كورونا ليس هو الظهور الأول لجائحات اجتاحت العالم بأسره فلنرجع البصر كرتين لنرى مدى أثر الطاعون الخطير في ذاكرة تاريخ البشريّة الجمعيّ والذي وصفه الكاتب ألبيرت كامو في روايته “الطاعون” وأخيرا وباء الإيبولا الذي انتشر في أفريقيا وانتقل إلى أمريكا وأوروبا. فاختلاف الأوبئة التي تهدد حياة الناس يحتم على العلماء أن يتعاملوا مع كل نوع منها بصورة استثنائية، دقيقة ومختلفة وفق نشأته، تطوره ومدى سرعة انتشاره فضلا عن أثره على الجسم من جهة والمجتمع من جهة أخرى. فينبغي علينا هاهنا أن نوفر العلاج لكل فرد في المجتمع فضلا عن توفير الدعم التوعويّ والارشادات المصاحبة باستمرار ومن ثمّة الدعم المادي والنفسيّ حتى يتمكن كل فرد في المجتمع من تجاوز اضرار الوباء وأثره نفسيّا أو ماديّا على محيطه الاجتماعيّ. ونلاحظ الآن في أوروبا تولّد أنماطا سلوكيّة، نفسيّة واقتصاديّة جماعيّة سببها الأساسيّ هو تفشي الجائحة، تتلاءم، تتوافق وتختلج بكل فئات المجتمع المتباينة فعلينا إذن أن نعي الدروس للتمكن من احتواء الأزمات القادمة التي تحث خطاها نحونا حثًّا وتسير على قدم وساق فهي قادمة لا محالة. من البديهي أن تتولد أنماطا سلوكية ونفسية جماعية أثناء وبعد حدوث تلك الأوبئة، فما هي العظات التي ينبغي أن نستفيد منها خلال هذه الأزمات، وكيف يمكن تجاوز هذه الأخيرة مستقبلا؟

ستترك “الغيّنة” كورونا أثارها الواضحة في مجتمعاتنا وسوف تغير فيها نظام النظافة العامة الذي يزداد صرامة يوما تلو الآخر. وكما ستُفشى عادة التباعد الاجتماعي والانغلاق على النفس داخل الأسر وتُنهي رويدا رويدا عادات السلام والمصافحة والعناق والتقبيل، خصوصا في الشرق الأوسط، وربما تصير العادة لا الطفرة في السنوات القادمة وستغير كورونا العرف والموروث على أوسع نطاق والأمثلة في الغرب كثيرة ولا حصر لها وحدث ولا حرج.

في الختام ينبغي عليّ أن أذكر بأهميّة تغيير العديد من العادات التي ارتبطت بأزمة الجائحة الحالية بل قل كانت أغلب الظن السبب الرئيس في نشأتها، ذلك بدءا من العادات الغذائية السالبة، مثل أكل الحيوانات الوحشيّة الغير أليفة (الوطواط، الثعابين، الفئران، الجرذان، القرود، الخ)، التي يمكن أن تتسبب في تكرار أو ظهور فيروس مماثل من المنشأ. لقد أثبتت الأبحاث أن عالمة غربية تمكنت من وجود فيروس كورونا في مغارات الوطاويط، الذي ظل إلى ذاك الوقت غير معروف في معجميات البشر والعوام، ومن المحتمل أن يكون المرض قد انتقل بسبب تدخل الإنسان في بيئات كانت مغلقة عليه إلى ذاك الحين.  فكلما توسع نطاق اختراق الإنسان للطبيعة في أماكنها الساكنة، الحالمة والبعيدة كلما ازدادت احتمالات ظهور وباء جديد لم نعرف له أي وجود من قبل. وهل يلدغ المؤمن من جحر مرتيّن؟! ربنا يستر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق