ثقافة وفنروايات

قراءة في رواية الواهمة

عبد الرحيم التدلاوي

التمرد في رواية “الواهمة” الصادرة في طبعتها الأولى عن دار العين المصرية سنة 2020. للمبدعة يسرا طارق:

اختارت يسرا طارق، ابنة الريف، أن تؤرخ لمدينتها الأصل “ازغانغان” بالناظور في أول عمل أدبي لها، ونسجت ذلك ضمن حكايا إنسانية مؤثرة؛ في إطار تاريخي حديث يتمثل في انتفاضة الريف وما أعقبها من أحداث، وما خلفته من مآسي.. رغم أنها لم تشهد تلك الأحداث؛ فقد ولدت بعدها بسنوات..

وفي هذا الصدد تقول: “إن العمل يلقي الضوء على تاريخ مدينة الناظور، معتبرة أن تاريخ كل مدينة في المغرب هو تاريخ للمغاربة جميعا، وعليه فطرح التاريخ عبر عمل أدبي فني لا يمكن أن يكون إلا مساهمة في محاولات تعريف شباب المغرب بتاريخهم”.

العنوان:

جاء العنوان كلمة مفردة في صيغة اسم الفاعل، ومعرفة بأل، مما يشي بخصوصية الشخصية الموصوفة بالوهم، والوهم تصور غير حقيقي، وخاطئ، وهو ما ستعيشه شخصية سوار الرئيسة في هذا العمل الروائي، طيلة الصفحات إلى أن تستيقظ مرعوبة على حقيقة وجودها فتتمرد عليه، وتخرج بذلك متحررة من سلطانه. لقد كانت الأحداث تتوالى، والضربات تنهال على سوار، تروم إيقاظها من غفوتها، ووهمها؛ وهم الحب بالأساس، خاصة في ذلك الحفل الذي ذهبت إليه مرغمة، وتعرضت فيه للإهانة بفعل تجاهل أحمد لها وانغماسه في الحديث مع سميرة ومع أمين حزب الأحرار الموعود بالاستوزار، تاركا غياها تحت لهيب نظرات كمال في البداية، وتحت نظرات الأمين الشبقة ثانية.

غير أن الوهم، في رأي سوار، سيمتد إلى كل حاضري الحفل المنظم من أحد أمناء حزب سوي على عجل. وبذلك، نستنتج أن صفة الوهم عامة وليست مخصوصة رغم أل التعريف، من جهة، وتاء التأنيث من جهة أخرى، تمتد من سوار لتعم الجميع، وبخاصة تلك القوى التي تسعى إلى لجم الثورة، والأخرى التي تريد تقويض كل شيء، فتعجز وتستكين وتصير مدجنة.

رواية “الواهمة” هي رواية سوار التي عاشت واقعا مرا بانتظار الأمر المفرح والجميل الذي تأخر كما كانت تقول ذلك جدتها إيحاء وعبر حكاياتها المشوقة والملغزة. عاشت تحت سطوة أبيها الخاضع هو الآخر لثقافة ذكورية لا تسمح بالحب، ولا تسمح للمرأة أن يكون لها مكان في الوجود، وأن تعبر عن نفسها وتفصح عما يشغلها، وعما تريده، لتنتقل إلى حضن أحمد وتحت سلطته التي لن تكسرها إلا حين تبلغ سن الأربعين؛ سن النضج الفكري والعاطفي، وفي لحظة مأساة حقيقية نتيجة موت ابنها، هذا الموت الذي خلخل يقين سكونها وخضوعها وكان من نتائجه أن أخرجها إلى جنة التمرد.

السارد في الرواية:

تعاور حكي الأحداث ساردان؛ سارد خارج نصي، يتمتع بمعرفة كلية، ويحضر في كل مكان، سارد عالم ينظر إلى الأحداث والشخصيات من عل، وسارد مشارك هو سوار التي تحكي بضمير المتكلم كشاهدة، عاشت الأحداث وانكوت بنارها؛ تجري الوقائع من منظورها الخاص، ورؤيتها الذاتية.

الزمن في الرواية:

الزمن النفسي في الرواية هو قرين زمن الأحداث، فكلاهما يسير ببطء، وتعيش الشخصية تحت نير سلطانه، وتعد العودة إلى الماضي نافذة من أجل الفهم، وكشف الحقائق النسبية بوضعها تحت مسلاط السؤال بغاية الفهم. كما أن الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات كان سببا في إبطاء الأحداث.

لكننا في لحظات نعثر على مؤشر يسرع الأحداث ويتمثل أساسا في عبارة “بعد ثلاثة أشهر”، وبعد” ثمانية أشهر”، هذه الفجوات تجعل الأحداث تسير بسرعة قافزة على ما هو إما مكرر أو غير ذي أهمية.

شخصية سوار:

تعيش سوار نهب مشاعر متضاربة، تجمع بين الحزن والفرح، بإيقاع مأساوي يتجاوب فيه الغياب مع الحضور، والأزل مع الأبد، والوجود مع العدم، وتقوم اللغة والذاكرة بترميم كسورها، بل تعيد خلق الوجود بروح ملؤها الدهشة وسطوة الفراغ، من ذلك، مثلا، حزنها على أخيها الغائب، وفرحتها بعودة أحمد حرا طليقا. أحمد الذي رفضه أبو سوار لكونه سبب معاناة أسرته، وسبب اختفاء ابنه صالح وبقية التلاميذ؛ إذ كان المحرض على انتفاضة الريف، تلك الانتفاضة التي تشكل خلفية الرواية، وعمقها، وسبب كتابة العمل الروائي. كان يرفضه ويصفه بالملحد والكافر لما يحمله من قناعات تضاد قناعاته وما ألفه من عادات وتقاليد.

عاشت سوار نهب أسئلة حارقة تسعى إلى فهم ما يجري، أو ما جرى لها مستعينة بجدتها وحكاياتها التي تحمل معاني مضمرة تبغي القبض عليها لتسعفها في الفهم. وتبدو تلك الحكايات هي نبع قصة سوار القبلية؛ قصتها قبل أن تخوض تفاصيلها.

بيد أن الأب والأم معا التي تشربت الفكر الذكوري، سيسعيان معا إلى حجب السؤال بتحريم النافذة المطلة على الخارج الواقعي والنفسي، وإذ نجحا في ستر النافذة المادية فإنهما لم يفلحا في إغلاق النافذة المطلة على الداخل النفسي، إذ من خلالها كانت تضع الأحداث المستعادة تحت مسلاط الفكر الساعي إلى ترتييبها وفهما.

كان هروبها مع أحمد إلى الرباط ضربة قاصمة للتقاليد والعادات، ولحظة من لحظات إثبات الذات ومحو قهرها، لكن سوار لم تكن تعلم ما يخفيه القدر لها من مفاجآت.

وإذا كان بعض الثائرين إما قد تمت تصفيتهم، وإما قد تم إيداعهم السجون، فإن بعضهم قد فضل الهجرة إلى الشمال أو الشرق، إلا أحمد المشكوك في إطلاق سراحه وهو المحرض على العصيان، فبفضل حاسته الانتهازية قد ارتأى الرحيل إلى الرباط مركز القرار عله يحظى بامتيازات تمكنه من الترشح في الانتخابات ومن ثم نيل حقيبة وزارية.

عن أحمد العاشق والمناضل الخائن وهو في الرباط مركز القرار:

اشتغل أحمد في الرباط بمكتب أحد المحامين المشهورين، وهناك تزوج من سوار، ستعرف حياته تحسنا لينطلق بعدها في تسلق المراتب الاجتماعية إلى أن صار محاميا مشهورا، وذائع الصيت في المغرب وخارجه.

بذريعة الحداثة سينطلق أحمد إلى تسلق السلم الاجتماعي، غير عابئ بمبادئ تلك الحداثة وما تختزنه من قيم رفيعة ومبادئ إنسانية راقية، الأمر الذي أفضى إلى توتر علاقته بزوجته سوار، فقد تركها تعيش تحت سطوة الفراغ..  والوحدانية، وانكب على إشباع رغباته وبخاصة مع مناضلات حزبه الصغيرات، وساعيا بوصولية لا يحسد عليها إلى اقتناص الامتيازات وتسلق المناصب القيادية داخل حزب سوي على عجل لضرب القوى الحية به.

شخصية صالح:

هو الأخ الأصغر لسوار التي تكفلت بتربيته، وكان وسيلتها الوحيدة للتواصل مع عشيقها أحمد، فقد كان مكلفا بحمل الرسائل إلى العشاق.

وتجدر الإشارة إلى ملمح مهم يشير بطرف خفي واستباقي إلى نهاية هذا الشاب المأساوية حتى قبل أن تحدث، وذلك من خلال ولادته العسيرة، حيث كان يولي دبره للعالم وكأنه لا يرغب في الخروج ويخلص أمه من عذاب الولادة وآلامها؛ وفعله هذا دليل على أنه كان يحس بالذي ينتظره. إن طريقة خروج صالح إلى الحياة؛ كانت تعبر عن سخريته مما سيأتي. فالمؤخرة سخرية ورفض ونقد لاذع. وستكون حياته جحيما حين سيقوم بالتمرد على واقعه.

تقنية التذكر والاسترجاع:

لم تكن استعادة الرواية للماضي من أجل إلقاء الضوء على الحاضر فقط، بل لتحريك الأحداث باتجاه مغاير لما كانت عليه، باتجاه تغييرها نحو الأفضل؛ ففهم ما جرى في الماضي هو السبيل إلى رسم معالم حياة مخالفة ومغايرة؛ هو لحظة تجلي إرادة الذات التي ظلت مغيبة لفترة من الزمن وكانت سببا في الألم الجسدي والنفسي. استعادة الماضي لتملك الحاضر والإمساك بدفته وتوجيهها وفق رغبات الذات ومتطلباتها.

بعد الطبيعة:

وتم استثمار الطبيعة بشكل ذكي، وحين أتحدث عن الطبيعة فلأقول إنها تترجم مشاعر وأحاسيس الشخصيات كما في بداية الرواية. وتحضر نظرية الفيض الفارابية من خلال الروح الأكبر والأصغر. كما تحضر ثنائيات عدة؛ الروح والجسد؛ الأعلى والأسفل. الملاك والشيطان. علما أن الأعلى قد لا يدل على السمو ولا الأسفل على الانحطاط، فقد يكون الملاك، بحسب الرواية، شريرا، كما يمكن أن يكون الشيطان خيرا.

ويمكن عد الجسد بوابة الروح، فلا نلج الداخل إلا من خلاله، والدخول لابد أن يحفز الداخل عبر جمال الباب الذي هو الجسد، فلو كان دميما لخلق نفورا، ولصد الداخل عن معرفة وفهم ما يخفيه ذلك الجسد.

بعد المسرح:

من بين الملاحظات حضور المسرح. فالتمسرح، إن صح التعبير، مشغل بقوة حيث حضور المكان واكسسواراته والشخصيات ونوع ملابسها ومواقعها والإنارة والحوار بطبيعة الحال.

ومن المسائل اللافتة للانتباه إرادة الحياة لدى سوار رغم ضرواة الأحزان، وكثرة الخيبات التي عاشتها:

فسوار وهي في الصندوق الخلفي حيث تابوت ابنها المتوفى سيهيمن عليها سؤال الموت.. وهو سؤال وجودي عويص لا جواب له سوى بالإيمان. وحين تفتح زجاج النافذة ستستنشق عبير المطر رمز الحياة. تلك العملية ستولد لديها الرغبة في عيش تجربة جديدة وستكون مع رشيد؛ رشيد هذا الذي يمكن عده دليلها إلى السعادة والحب. ويمكن اعتبار الحب رسالة الرواية الخفية والمتوارية بين السطور؛ إذ يمكن اعتباره طوق نجاة الإنسان من قبضة الإحن والبغضاء والقسوة والعنف، فهو البلسم لجراحاتنا، والمطهر لقلوبنا من أدران الحياة.

لابد من الإشارة إلى تفاعل الواقع الخارجي وأقصد به الطبيعة والواقع النفسي. فالجو سيكون مشحونا بالبؤس إذ لا مطر إلا بعد فترة حيث ستجود السماء بخيراتها لتعيد التوازن للشخصية المكتئبة.

عن البعد السياسي:

سنجد الرواية وبخاصة في الفصل السابع قد أقامت محاكمة لليسار المخزني الذي باع نضاله من أجل المناصب من خلال الحوار الدائر بين سوار وزوجها أحمد بعد أن رفع عنها الحجاب وبخاصة بعد مصرع الابن. وكانت تجليات هذا الانحراف بادية في الحفل المنظم من لدن رئيس حزب حديث الولادة؛ إذ سعى أحمد إلى التقرب منه ونيل رضاه.

سيرورة الأحداث:

تسير الرواية بأحداثها بشكل لولبي؛ بمعنى تداخل زمني الحاضر والماضي؛ فعن طريق الفلاش باك أو الرجوع إلى الماضي؛ قريبه وبعيده، نتعرف على الشخصيات ومواقفها وأفكارها وتصوراتها وخلفياتها المعرفية. عرفنا أب سوار المناضل الذي قدم خدمات للوطن لكنه سيتعرض للاعتقال والتعذيب ويخرج من السجن بفضل عفو عنه لينخرط في أعمال تمنحه الثراء وخاصة حين ارتباطه بأحد المستعمرين الذي منه استمد ثروته حين غادر البلاد. وعرفنا عشق سوار لأحمد وطموحاتها المجهضة. وتجدر الإشارة إلى أهمية النافذة في العمل؛ فهي عتبة بين الداخل والخارج سواء أكان ماديا أم نفسيا.

لم تقم الرواية بنسخ الواقع بل عملت على إعادة خلقه بغاية تشريحه والقبض على أجوبة تمكن من فهمه. ومن خلال عالمها التخييلي تطرح جملة أسئلة على قارئها تحثه على البحث عن أجوبة محتملة.

الأساليب الموظفة:

تم توطيف أساليب لغوية مختلفة؛ التقريري الذي يسرد الأحداث بموضوعية، ويتابع تطورها بشل حيادي، والشاعري الذي يترجم ما تشعر به الشخصيات من مشاعر ، ومن أمثلته ما ورد في الفصل الرابع حين ستتحدث سوار عن الحب، والتأملي حين يستبد بسوار لهيب السؤال، وهو ما نجده في بداية بعض الفصول، وحين تكون صحبة تابوت ابنها، إذ تنشغل بسؤال الموت وخلافه، والمسرحي عبر تقنية الحوار المعبر عن مكنونات الشخصيات ومواقفها وأفكارها ورؤيتها للعالم، والوصفي المعبر إما عن الحيرة كما في وصف سوار وهي تنفث دخان السجائر، أو للتحسين حين يتم وصف جسدها وهي تطل من النافذة، أو حين تمارس الحب مع زوجها وما تشعر به من سمو جسدي وروحي، وحين تمسك لأول مرة بطفلها الذي حرك فيها أنهارا من المشاعر العطرة، أو للتعبير عن الألم وبخاصة حين تكون سوار حاملا، وفي لحظة الطلق والولادة؛ تنويع منح تنويعا يتناسب والحالات المعبر عنها. ضف إلي ذلك اللغة الأمازيغية المناسبة للأم. كما تم توظيف غير اللغوي حيث تصمت اللغة وتفسح الباب للغة الجسد، أقصد لغة الحواس، وبخاصة لغة العيون المعبرة عن الرغبات، كما في نظرات كمال لسوار الدالة على شهوته وقد انبهر من جمالها وفتنته. كما تم توظيف تقنية تناسل التذكر. إذ هناك استرجاع ضمن استرجاع، وكمثال على ذلك استرجاع سوار لماضيها وهي في لحظة وضع، وضمنه تسترجع ولادة صالح خاصة في الفصل الذي تكون فيه حاملا بابنها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق