
“المدائن بوست”
تحت مجهر الزعيم الفاضلابي
الزعيم محمد عثمان الفاضلابي
صدر العدد الحادي عشر من إصدارة المدائن، علي أبدع مايكون من ناحيتي الشكل والمضمون، وهي تصدر عن دار بدوي للنشر(المانيا)، لناشرها ورئيس تحريرها البروف محمد بدوي مصطفي، أستاذ اللسانيات في جامعة كونستانس جنوب ألمانيا، والنائب عن حزب الخضر بمجلس مدينة كونستانس. المدائن فتح جديد في الإصدارات العربية ليس على مستوى المانيا فحسب، بل على مستوى الصحافة العربية عامة، فهي تنتهج خط وسطي بين النهج العلمي الرصين، والخطاب الإعلامي العام، وبهذه الوسطية تشعل نار المعرفة والثقافة والأدب والعلم، في ظروف تراجع معظم الإصدارات الصحفية العربية وتماهيها مع الصحافة الصفراء التي تبحث عن الانتشار على حسب تجويد المادة من ناحيتي الشكل والموضوع.
على صعيد آخر تتجاوز المدائن الحدود السياسية والقومية وتجد قواسم مشتركة للكتاب والنقاد من مختلف بلدان العالم في وحدة إنسانية ولأجل التضامن بين الشعوب، خاصة أن الناشر إنساني متطوع في مواقع الكوارث ومساعدة الأيتام، كذلك أديب وموسيقي، متعدد المواهب، فهو كما وصف محمود درويش حاله، (أنتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كل الأزقة ينشدون صامدون وصامدون).
والكاتب محمد بدوي الذي ينتمي لمدرسة الحداثة في الفكر والأدب، تجد في نصوصه سحر صلاح أحمد إبراهيم وتصوف الفيتوري، مقدم بموازين سيبويه وعبد الله الطيب.
ومقالات الأديب محمد بدوي بسلاسة وشعرية اسلوب الطيب صالح وجمال الغيطاني ويوسف زيدان في الأدب ورصانة محمد أركون ونصر حامد أبوزيد في الفكر.
وعلي سبيل المثال نختار بعض من درر الكاتب الذي يعود بنا الي العشرينات من القرن الماضي ويصور لنا حياة الطفل بدوي مصطفي: (رحلة هذا الطفل (بدوي) الذي عانى مراره الليال الطوال خلل اليأس والدموع. كان ينتمي لأسرة متواضعة راسخة رسوخ النخل في ولائها للإسلام. ولد من أب امتهن حرفة الزراعة وشبّ في معية أسرة وهبت جلّ حياتها للعلم والإصلاح ونشر المعرفة بين الناس. كم كنت أروم ما يرويه عليَ عن حياة الناس في العشرينيات).
(أسدل الصمت والرهبة استارهما على قاعة الفصل وعمّ الارتباك الكل، دون أن ينبس أو يتفوه أحد بنفس. خرجت مزايلا حزني وألمي بقلب جريح على مرأى ومسمع من زملائي) ويوصل الرحلة مع والده بدوي التاجر وهو في رحلته من ميدوغري الى السودان واصفا مدينة الجنينة كالآتي:
(“كان الخريف قد طرق أبواب السماء مناجيا رانيا، فبدت أياديه المعطاءة تمتد إلى أرض الجنينة وعليها لتلبسها من الخير حلية سندسيّة خضراء مستبرقة. وكان الطلّ قد إزدان يلألأ وجه المراعي المنبسطة كزرابي مبثوثة على مدّ البصر. واستوى الندى شفافا فوق أهداب العشب المخضرة ليغطيها بلؤلؤه البراق”)
ويواصل الكاتب ويقدم تلك الفتاة الساحرة الجمال والتي أوتمن التاجر بدوي مصطفي عليها (كانت خديجة في سن يافعة وفي ريعان ربيعها الثامن عشر. تبدت في ادبها وحشمتها ممشوقة القوام في فستان سنجابي بديع. تفحصها حضرة الضايط وقد ارسلت شعرها الاسود المخضب بالحناء حني مست اهدابه ظاهر الساقين، رائقة عذبة وضيئة ينبعث من اردانها عرف ساحر. كان منظرها وهي تخطر امام نقطة الشرطة بخطوات متئدة مما يلفت الانظار حقا. كانت في عمر الازهار، مكحولة العينين، متوسطة القامة فارعة القوام وكأنها “الفرع انشلخ”، تلك الاسطورة التي سلبت عقول حبوباتنا بجمالها، أو غصن بانة في روضة غناء او راقصة في معبد قدسي، انيقة الملبس الي حد الكمال، تنتسب ببشرتها الوردية الي قبائل الشام فهي تشع بهاء ونور وتنم حركاتها عن دلال من لا يخفي جماله. عندما اتت في رفقتي خاطبني في اجلال واكبار قائلا: والله انت يا بدوي محل ثقة لكي يعطوك اياها لتصحبها معك، هذه الفاتنة ذات السحر الإلهي.
فالتفت محدثا خديجة اخفف عنها وطأة الذكرى واعيد ثقتها بنفسها مازحا؟
الا تتزوجين هذا الضابط يا خديجة؟ انظري اليه كيف حباه الله حظا مترفا من الوجاهة ووسامة التقاسيم.
ضحكت حتى افترت شفتاها عن اسنان كالدر المنظوم قائلة
… يا عم بدوي ما تحكي هل حكي! ثم صمتت في ابتسام وخجل)
ستكون المدائن منبر له دوره في إشعال نار المعرفة في حاضرنا الراهن، كما فعلت من قبل عروة الأفغاني ومحمد عبده وصالون الأميرة نازلي فاضل في مصر ورابطة الإبروفيين والغابة والصحراء ومدرسة الخرطوم.