
عودة الابن الضال
رمبرانت ١٦٠٦ – ١٦٦٩
د . محمد بدوي مصطفى
تعتبر لوحة عودة الابن الضال هي واحدة من بين الإعمال الخالدة التي خلقتها ريشة الرّسام الهولنديّ رمبرانت ويرجح المؤرخون أنها أُبدعت قبل وفاة الرّسام بفترة وجيزة. هذه اللوحة تبعث في نفوسنا شيء من ذكريات الطفولة، وترحل بنا إلى علاقتنا من آبائنا، فمنّا من يهيم في ذكريات خالدة ثملة وبعض منّا تهيّج بدواخله أحاسيس مفعمة مضطرمة مثل الغضب المكتوم أو قل الكتمان الغاضب. من جهة أخرى فتح هذا الموضوع (الابن الجاثم في خشوع وغفران) للعديد من رساميّ العالم موضوعا جديدا، عن علاقة الابن بالأب والأم بالابن والتي تجد في سياق التربية الأبوية والأموميّة في كل مجالات علم الاجتماع وعلم النفس حيّزا ليس بالقليل.
يتبدى في اللوحة الابن صاغرا نادما أسفا على شيء فعله فيتوسل ويطلب العفو من القيادة الأبويّة التي تقف أمامه في شموخ وسكينة، ليست غاضبة، حازمة لكنها رؤوفة مؤنبة وفاضحة، ذلك لأن الابن رحل وسافر وأسرف وأغدق في البعد عن الأهل وحينما عاد كانت لحظة عجيبة أن وجد أمّه قد فارقت الحياة. وتظهر الأم في سرير الخزانة الأثريّ البديع والابن جاثم يطلب العفو والغفران تحت أرجل الأب باتجاه سرير الأم، لكن بعد فوات الأوان وبعد أن رحلت الروح عن الجسد وبعد أن ساد الصمت بالبيت وبنى به بيتا وخيمة.
ولد الرسام رمبرانت، وهو اسم الشهرة، والاسم الأصلي هارمِنْستسُون فان راين، في مدينة لايدن الشهيرة بالعلم وجامعاتها الشامخة وكان أبوه جريت هامنز الذي أطلق على نفسه فيما بعد اسم الشهرة فان راين ربما لأنه كان يسكن قرب نهر الراين، يمتهن صنعه طحن الدقيق ولم تعرف حياته غير الدعة والرخاء. كان رمبرانت يكنُّ لأبيه ودّا وحبّا لا يوصف ذلك يعكسه العدد الكبير (حوالي ١٢ لوحة) أبدعه فيها بشتى صوره وأشاكله. وكانت إحدى صوره عنه في عام ١٦٢٩ حيث رسمه على غير العادة الأنيقة في شكل رجل بدت عليه علامات الحياة وشيخوخة الزمن، مكتئبا مرهقا. ولم يستثني أمّه من هذا الابداع فقد رسمها تقريبا بنفس عدد المرّات وكانت أشهر لوحاته فيها لوحة “المرأة العجوز” التي تزين متحف مدينة فيننا بالنمسا؛ صورّها هاهنا وهي قلقة منهكة بيد أننا نجد لوحة أخرى لها في متحف أمستدردام وهي منكبة على الأناجيل المقدسة.
رمبرانت ملك الريشة، متقن الأوصاف، ملهم الموضوعات مؤسسة عملاقة في عالم الفن.