ثقافة وفن

في الحاجة إلى «إعلام إيكولوجي» ضمن منظومة التنمية المستدامة العربية تحقيقاً لأمن بيئي شمولي ودائم

عبد العالي الطاهري

من منطلق كونه أصبح يشكل موضوعاً بل ضرورةً قصوى ذات راهنية كبرى، لا يمكن في الوقت الحالي واستشرافا وتطلعاً للمستقبل، لا يمكن القفز عن  إلزامية وجود « إعلام إيكولوجي » عربي، أولاً من باب الاختصاص المهني الإعلامي وثانياً تحقيقاً لعنصر المواكبة المرتبطة بالشأن الإيكولوجي كما هو الشأن بالنسبة لباقي بلدان العالم، و نخصُّ بالذكر الرائدة منها في القضايا البيئية و منظومتي « الاقتصاد الأخضر » و « الطاقات المتجددة ».

تُطرح من حين لآخر نقاشات حول « الإعلام البيئي » العربي والمقصود طبعاً « الإعلام الإيكولوجي »، وسنأتي على التفصيل في المفهومين لاحقاً، وهل من موقع له في الخريطة الإعلامية ؟ و من هو المسؤول عن تدهور البيئة و المشاكل البيئية في الدول العربية ؟ و ماذا عن التوعية البيئية ؟ و من هو المسؤول عن إعداد ونشر برامج ومشاريع تُعنى بالثقافة البيئية في المجتمعات العربية ؟ ما هي المشاكل البيئية الرئيسية التي تعاني منها الدول العربية ؟ و هل من رؤية و استراتيجية واضحة التوجهات والأهداف للإعلام « البيئي » في العالم العربي؟ و هل تتوفر الدول العربية على الرأسمال البشري الإعلامي القادر فعلياً وإجرائياً على التأسيس لإعلام إيكولوجي مهني علمي متخصص، في أُفق رفع التحدي و مواجهة المشاكل البيئية العديدة التي تتفاقم وتنتشر يوما بعد يوم، بدءاً من ندرة المياه و محدودية الأرض وتدهورها وزيادة الرقعة الحفرية وتدهور المناطق البحرية والساحلية و الرطبة، ناهيك عن البقع النفطية و تلوث الشواطئ والتصحر والتلوث الإشعاعي والتلوث المغناطيسي الكهربائي والاحتباس الحراري…إلخ .

إلى ذلك، يتساءل الدكتور محمد قيراط، الأستاذ الجامعي الجزائري المتخصص في « الاتصال الجماهيري »، صاحب أطروحة الدكتوراه في موضوع « رجال الإعلام الجزائريون..دراسة خلفياتهم وتوجهاتهم المهنية وظروف عملهم »، يتساءل : هل هناك دورات تدريبية وورش عمل دورية للصحافيين في مختلف وسائل الإعلام، للنهوض بالإعلام البيئي في الوطن العربي ؟ وهل هناك تعاون بين المؤسسات الإعلامية والهيئات والمنظمات التي تُعنَى بالقضايا البيئية في المجتمع ؟ ماذا عن المجتمع المدني ودوره في التعاون مع وسائل الإعلام لنشر ثقافة بيئية في المجتمع من شأنها أن تجعل كل مواطن مسؤول عن تصرفاته إزاء البيئة، ومن شأنها أن تجعله مسؤولا مسؤولية كاملة عن المحيط الذي يعيش فيه ؟. ماذا عن الأسرة والمدرسة والمسجد والنادي والثانوية والجامعة، ودورها كمؤسسات مجتمعية، على مستوى غرس وترسيخ قيم الاعتناء والمحافظة على البيئة،ومن ثَمَّة المساهمة أجرأةً في مسلسل التنمية المستدامة داخل مختلف الأقطار العربية، في بعديها السوسيواقتصادي و المجتمعي الشمولي ؟.

هذه الأسئلة التي تأخذ لبوساً سوسيولوجياً و آخر يرتبط بعلم النفس السلوكي، جعلنا الدكتور محمد قيراط نقف من خلالها، كإعلاميين أولاً و كبشر ثانياً، أمام مسؤولياتنا الأخلاقية والمهنية و الإنسانية، فيما يخص الحفاظ على المنظومة الإيكولوجية، التي لا تعني بالقطع الشأن أو المجال البيئي، لأن هذا الأخير ما هو إلاَّ الجزء اليسير من « البنية والمنظومة الإيكولوجية » الشاملة، التي تحتوي من ضمن ما تحتويه : مفاهيم « التنمية المستدامة » و « الحكامة الإيكولوجية » و« الطاقات المتجددة » و« الجانب العمراني » في علاقته باحترام المعايير البيئية، علاوةً على « القطاع الفلاحي » كعامل مؤثِّر ومتأثِّر بكل ما هو بيئي.

و بالتالي فمسؤولية خلق وعي إيكولوجي في بعده الشمولي الكوني، لا تقع قطعاً على عاتق المنظومة الإعلامية في المجتمع فقط، وإنما هي مسؤولية الجميع، حكومةً وهيئات مجتمع مدني وفاعلين في قطاعات « تدبير النفايات والتثمين الطاقي » و « الطاقات المتجددة » و مجالس منتخبة، من أجل تكاثف جهود الجميع لتحقيق الأهداف المنشودة.

الحديث عن « الإعلام الإيكولوجي » يقودنا لطرح المشاكل التي يواجهها هذا النوع من الإعلام في وطننا العربي، ومن أهمها عدم توفر المعلومات للجمهور ولوسائل الإعلام، و في هذه الحالة فإن تنوير الرأي العام يصبح أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وبالتالي لا نستطيع الحديث عن التوعية البيئية والإعلام الإيكولوجي والتثقيف البيئي، في غياب بنك معلومات و آليات لتخزين و توفير وتداول المعلومة في هذا المجال. ونحن في العصر الرقمي و عصر الإنترنت، فالأمر يتعلق في المقام الأول بتقديم البيانات والمعلومات والمعطيات إذا أردنا أن نؤثر في الرأي العام و نؤثر في الإدراك و السلوك في الوقت الراهن و في المستقبل.

من المشاكل التي يعاني منها الإعلام العربي في علاقته بالشأن الإيكولوجي كذلك، اعتماده على الوسائل التقليدية و عدم تكيُّفه مع وسائط الاتصال العصرية الحديثة، التي تتناغم و تتناسق مع العصر الرقمي لمواكبة التطور المعلوماتي والمعرفي. فما زلنا في الوطن العربي نضع العربة أمام الحصان و نتحدث عن الإعلام الإيكولوجي، و نحن نفتقد للرأسمال الإعلامي المتخصص و المتمرس والمؤهل في هذا النوع من آليات التواصل المجتمعية الهامة والمفصلية في الحياة اليومية. وهنا يحق لنا في بلدنا المغرب، أن نفخر ونفتخر بالمبادرة التي أطلقتها « الجمعية المغربية لمهنيي الجمع وكنس النفايات » بتنسيق مع « المركز الوطني للإعلام وحقوق الإنسان »، والمتمثلة في البرنامج العام المتضمن لمجموعة من الأنشطة التكوينية والندوات والملتقيات وكذا الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية، وهو البرنامج الذي أُطلق عليه « الإعلام الإيكولوجي Eco Média »، حيث تمَّ في ذات السياق تنظيم دورة تكوينية في الصحافة الإيكولوجية لفائدة الصحافيات والصحافيين المغاربة، تحت عنوان « دور الإعلام في ترسيخ حكامة إيكولوجية مُؤَسِّسة وداعمة لمفاهيم التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر»، وذلك يومي 15 و 16 دجنبر 2020 بعاصمة المملكة المغربية الرباط .

و هنا تجدر الإشارة إلى أن أكبر عنصر مشترك بين مختلف أقسام و كليات الإعلام في العالم العربي هو عدم استجابتها لمتطلبات واحتياجات السوق، وعدم التنسيق الكافي بين المؤسسات الإعلامية من جهة والمؤسسات الأكاديمية من جهة أخرى .

الإعلام الإيكولوجي كتخصص و كمجال إعلامي إستراتيجي، ما زال في مرحلته الجنينية، يعاني من غياب استراتيجية إعلامية برؤية ومفاهيم علمية وتقنية ذات ارتباط وثيق مفاهيمياً ومؤسساتياً بالشأن الإيكولوجي، وبالتالي فإننا لا نزال أمام إعلام مناسبات يبرز عند ظهور المشاكل و الأزمات البيئية وخلال المناسبات الوطنية والعالمية كالاحتفال باليوم الوطني أو اليوم العالمي للبيئة، ثم يختفي لأجل غير مسمى. و في ظل هذا الزخم والتراكم من المشاكل، نلاحظ كذلك عدم تحديد أولويات مجالات الوظيفة الإعلامية في بعدها البيئي، كالتركيز على المستوطنات البشرية والتصحر والبيئة البحرية والصناعة العشوائية ومصادر الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الملائمة وصيانة الطبيعة وندرة المياه. والسبب في هذا الخلل يعود بالدرجة الأولى إلى وجود فجوة كبيرة بين الإعلاميين و القائمين بالاتصال من جهة والمؤسسات والهيئات التي تُعنى بالبيئة من جهة أخرى.

انطلاقاً من السالف عرضه، يتضح وبجلاء أن الإعلام الإيكولوجي يعاني كذلك من نقص في الميزانية المخصصة له، وضعف الإمكانيات والوسائل المادية والبشرية على حد سواء، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى غياب الوعي البيئي في المجتمع العربي، ابتداءاً من رجل الشارع إلى صانع القرار.  و من المشاكل الراهنة التي يعاني منها هذا النوع من الإعلام، غياب منهج إعلامي واضح للتعامل مع القضايا البيئية و تفشي ظاهرة اللامبالاة و عدم الاهتمام بالقضايا البيئية في المجتمع، سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو المؤسساتي أو ما يتعلق بالمجتمع المدني أو المجتمع السياسي أو ما يتعلق بالمدرسة أو الأسرة أو المسجد. و كثيرون هم أولئك الذين يظنون أن القضايا البيئية هي من اختصاص وسائل الإعلام و المؤسسة الحكومية التي تشرف على قضايا البيئة فقط، والحال أن البيئة هي مسؤولية الجميع. وهنا يجب الاهتمام بالمجموعات المؤثرة في المجتمع لخدمة القضايا البيئية كالجمعيات الأهلية، والجمعيات المهنية، وجمعيات العمال وأرباب العمل واتحادات التجارة والصناعة، وجمعيات الشباب والنساء، وجمعيات حماية المستهلك والنوادي والاتحادات الرياضية، وجمعيات النفع العام والجمعيات العلمية وجمعيات حماية البيئة والتنمية، والجمعيات الثقافية والتربوية…

تتحدد مهمة الإعلام الإيكولوجي بالدرجة الأولى في نشر التوعية والثقافة البيئية بأسلوب و بلغة و بتقنيات تكون سلسة بسيطة ومفهومة و جذابة للمتلقي، بعيدة عن المصطلحات الفنية و اللغة العلمية التي تنّفر القارئ وتجعله يهرب من كل شيء له علاقة بالبيئة. ومن مهام الإعلام الإيكولوجي كذلك، الاهتمام بقضايا البيئة وحمايتها بصفة دورية ومستمرة وعلى مدار السنة، أي ليس بطريقة موسمية أو ظرفية أو حسب المناسبات. فالهدف هو ترشيد السلوك البيئي عن طريق الوعي والثقافة والإدراك البيئي. وهذا لا يتحقق بطبيعة الحال إلا عن طريق توفير المعلومات والبيانات والمعطيات والإحصائيات المتعلقة بالبيئة خاصة والشأن الإيكولوجي عامة. فالبيئة جزء من الإنسان لأنها هي المحيط الذي يحتضن الكائن البشري بأبعاده المادية والفكرية والمعنوية والروحية، والأمن البيئي لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي و عن الأمن الإستراتيجي. ومن هنا تتحدد مهام الإعلام الإيكولوجي في تشجيع السلوك البيئي الإيجابي عند الأفراد والجماعات و المؤسسات و كذلك العمل على تبني ووضع وتطوير برامج تعليمية و تربوية على مستوى المؤسسات التعليمية، لحماية البيئة و نشر الثقافة البيئية والسلوك البيئي الناضج والواعي. فإذا تربى النشء منذ نعومة أظافره على معرفة البيئة وأصولها وأهميتها فإنه من دون شك سينمو و يترعرع و يكبر على احترام البيئة و حبها والعمل على المحافظة عليها وصيانتها، وهذا هو السلوك الحضاري الذي تتمناه أية أمة و تعمل على تحقيقه. فإذا دخلت أجندة البيئة المناهج التربوية والأسرة والجمعية والمؤسسة ومختلف مكونات ومؤسسات المجتمع، فإنها بذلك تدخل إدراك الفرد في المجتمع و سلوكه، فالمسؤولية هي مسؤولية الجميع وليست مسؤولية الإعلام فقط أو الجهات المسؤولة حكوميا عن قطاع البيئة .

الإعلام الإيكولوجي له دور كذلك على مستوى التشريع والقوانين، سواء محليا أو دوليا في إطار المنظمات المختصة لمعالجة القضايا البيئية التي تتطلب مسؤولية ومهمة السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية و كذلك مهمة و مسؤولية المنظومة الدولية، إذ أنَّ المعضلات البيئية الكبيرة و الخطيرة في أيامنا هذه تأتي من الدول المتقدمة و الدول الصناعية بالخصوص، وفي مقدمتها عمالقة الاقتصاد العالمي الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، التي ضربت و تضرب عرض الحائط الأعراف والقوانين الدولية في مجال البيئة، من خلال سلوكيات غير مقبولة حقوقياً ولا أخلاقياً، كدفن النفايات النووية و القيام بالتجارب النووية وكذلك الأخطار والمشاكل التي ترتبت على غرق حاملات البترول العملاقة وتفجير آبار البترول، علاوة على حادثة تشرنوبيل الكارثية الشهيرة وحادثة بوبال، و غيرها من الكوارث التي كانت انعكاساتها وخيمة ليس فقط على الدول التي وقعت فيها وإنما على البشرية جمعاء.

وبالعودة لجوهر موضوعنا والمتعلق ب « الإعلام الإيكولوجي » العربي، فإن هذا الأخير يواجه تحديات كبيرة و أمامه مهام جسام، فهو بحاجة في البداية إلى قاعدة معلومات بيئية مركزية تكون تحت تصرف الأجهزة والمؤسسات الإعلامية والبيئية، كما أنه بحاجة إلى رأسمال بشري إعلامي متخصص ومتمرس، من خلال أوراش عمل ودورات تدريبية بصفة دورية ومستمرة، حتى يكون في مستوى المسؤولية كإعلام متخصص وملم بثقافة البيئة وخصوصياتها.

الإعلام الإيكولوجي كذلك بحاجة إلى طرح علمي منطقي سلس مفهوم وواضح، ومعالجة علمية ومنهجية للقضايا البيئية، تقوم على المنطق والبرهان والأدلة الدامغة والمعطيات المقنعة والتعمق في الشرح والتفسير للمشاكل البيئية التي يطرحها ويناقشها، و يجب أن لا يقتصر على السرد والوصف و الإثارة و التغطية السطحية المبسطة. الإعلام الإيكولوجي العربي بحاجة كذلك إلى التنسيق مع مختلف المؤسسات المعنية بالبيئة و العمل على تكامل الأنشطة و المهام من أجل توعية بيئية فعالة. ليبقى التحدي كبير والمسؤولية أكبر، تتطلب الجد والاجتهاد والعمل والتنسيق على مرجعية البحث العلمي المنهجي بروح القرن الحادي والعشرين و منطق العصر الرقمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق