ثقافة وفنواحة الشعراء

أمير الشعراء

أحمد شوقي (١٨٦٨ – ١٩٣٢)

د. محمد بدوي مصطفى

هل يجتمع أهل العلم والأدب ليلقبوا في عام ١٩٢٧ أحدًا بأمير الشعراء دون أن يكون في الأمر إنَّ؟! هذا الرجل هو حقيقة يا سادتي من أعظم شعراء العربيّة على الإطلاق، كمًّا وكيفًا. أحمد شوقي كاتب وشاعر مصري يعد من أبرع وأمجد شعراء العربية في العصور الحديثة. كان رائدا من رواد النهضة الحديثة مع حفنة من الأدباء والشعراء والمفكرين الذين أثروا بحيواتهم الأدبية والثقافية سماء المعرفة في بلاد العالم بأسره. نفي الربع الأول من القرن العشرين بين عاميّ ١٩١٤ و١٩١٩ إلى إسبانيا وما أن عاد وأرسى أشرعته بمصر حتى امتلك الساحة طولا وعرضًا. امتازت قصائده برصانة الكلم وجزالة المعنى وحلاوة الألفاظ وكانت قصائده تتجلى في غزارة المفردات وكثافة المعاني ورصانة الاستلهام، حيت ترجع أصولها إلى الفصحى القديمة. فاستطاع دون لأي أن يستعيدها إلى ذاكرة اللاوعيّ الجمعيّ ويحيي ألقها ناثرًا إيّاه بين دفات قصائده المفعمة بالأحاسيس الصادقة. لم يكتفِ شوقي بكتابة الشعر فحسب فلجأ إلى ضروب الأدب الأخرى فكتب المسرحيات على شاكلة شعراء الغرب مثل راسين، شكسبير وكورنيّ.

مولده:

بزغت شمس أمير الشعراء على هامش الارستقراطية في سنة ١٨٦٩ بمدينة القاهرة وعلى اعتاب القصور. يضرب قلبه بدماء كثيرة مَوسَقت سيرته الذاتية وشكلت شخصيته العالميّة، فنجده يسبح في أصول عدّة: الكردية، والشركسية، والعربیة، واليونانية، والتركية، فجده من جهة الأب كردي الأصل، وجده لأمّه تركي الأصل، أمّا جدته لأمّه فكانت يونانية وتعمل وصيفة في بلاط الخديوي، وقد تولّت أمر رعايته في الطفولة لذلك نجده قد نشأ متنعما في ظلال الرفاهية الملكية نشأة ارستقراطية، مما مهّد له السبل العديدة في التفرغ لنظم الشعر والالمام بالأدب والثقافة العامة، فأخلص لفن العروض فلم يشغل باله شغل غيره، وكانت تحيطه في هذا وذاك أسرته بأكملها بحبها ومودتها، كوردة نديّة يخاف عليها الكل، مما أبداه في سنّ بضة من نبوغ ووله تجاه العلوم والآداب والفنون.

تعليمه:

تلقّى أمير الشعراء دروسه الأولى في كُتَاب الشيخ صالح وهو وقتذاك لا يزال طفلًا يافعا يرفل في سن الرابعة، وأكمل من بعد تعليمه الثانوي في سن مبكرة عام 1885م، ثمّ التحق بمدرسة الحقوق حيث درسها بجانب دراسته للأدب الفرنسيّ والترجمة منها وإليها، وأكمل تعليمه ذاك في عام 1889م، وأثناء تلك الفترة كان يتردد على أستاذة جهابذة يقتفى أثر الأدب والشعر والفلسفة، من بينهم حسين المرصفي، والشيخ حفني ناصف، والشيخ محمد البسيوني البيباني، وبعد تخرجه من مدرسة الحقوق أرسله الخديوي توفيق في بعثة علميّة إلى بلاد الجن والملائكة (فرنسا) لإتمام تعليمه الجامعي، حيث قضى في تلك البقعة أربع سنوات، بعضها بمدينة باريس والبعض الآخر بمونبلييه، ثمّ عاد إلى مصر عام 1892م.

عيون الثقافة عند أحمد شوقي:

كان أحمد شوقي شموليّ الثقافة متعددها، فقد انكب على قراءة دواوين الشعر وكتب الأدب العربي وثابر في استخراج كنوزها، فافتتن بفطاحلة الشعراء أمثال: المتنبئ، البحتري، أبي نواس، وأبي تمام، كما شُفِف بكتب كبار المفكرين والفلاسفة والأدباء كالجاحظ، أبي حيان التوحيديّ، إضافة إلى كتب اللغة، والفقه، والسيرة. فقد كان متقناً للغة للفرنسية بجانب ثقافته العربية، ذلك مهدّته له دراسته بفرنسا والفترة التي مارس فيها اللغة فيها، فاستطاع دون لأي أن يطلع على بطون الأدب الفرنسيّ وفطاحلته من الأدباء والشعراء والفلاسفة، فافتتن ببودلير وأزهار الشر، وعكف على دراسة فيكتور هيجو وشرقياته وبؤسائه، ونهل من حياة الفن والثقافة المترفعة المترعة بحارات مونتماخت والشانزليزيه.

وفوق هذا وذاك كان يتقن اللسان التركيّ بطلاقة الذي اكتسبه من قلب الأسرة، وفي فترة نفيه بإسبانيا تأثر الشاعر بلسانها وبما خلفه العرب وحضارة الإسلام من مآثر وكنوز معمارية وأدبية، تائها تارة في رياض ابن الخطيب، رانيا تارة أخرى في دواوين ابن خلدون وولادته بنت المستكفي، ذاكرا النأي والفراق، ثم قائلا على لسان ابن زيدون:

أضحى التنائي بديلا عن تدانيا / وناب عن طيب لقيانا تجافينا.

اللغة والإيقاع الموسيقيّ:

أمتلك أمير الشعراء نواصي العربية امتلاكا خارقا للعادة مما مكنه في تطويع اللغة والعزف على أوتار عودها كيف شاء. مكنّه اطلاعه ومثابرته في اختراق قديم الدواوين والمخطوطات المأثورة الخالدة من تكوين ثروة لغوية جبّارة لا يقارع أو يضارع فيها البتّة. اجتهد في إحياء التراث القديم، الجاهليّ، الأمويّ والعباسيّ واستلهم روح الشعراء القدامى منهم في قصائده فنظم على شاكلتهم مقلدا تارة ومجددا تارة أخرى بل أنه ذهب إلى أبعد من ذاك فطارحهم وقارعهم فيما ذهبوا إليه من موضوعات وصور، كما فعل تجاه البحتريّ (روي نفسي عن حديث خالد كلما غنّت به أثملها). كان يروض عواطفه ويضبط نفسه من أجل أن يصل إلى مراده في بلوغ المعنى والمقصد من القصيدة، فلم يكن القالب أهم له من المضمون لذلك فكان موفقا في قصائده في دوزنة الإثنين: الشكل والمضمون.

مرض ووفاة الشاعر:

أصاب أمير الشعراء وهو على أعتاب الستين مرض تصلب الشرايين، وفي عام 1930م كما ألمّ به مرض آخر فاجأه وسلب قواه وألزمه الفراش عدّة أشهر، ورغم هذه الأمراض والسقم المفاجئ استطاعت قريحته القويّة واصراره الخرافي في الكتابة من الانتصار، فازداد إنتاجه الشعري، وألّف في تلك الحقبة القصيرة: الست هدى، مجنون ليلى، علي بك الكبير، قميز، والبخيلة.

في ليلة 13 أكتوبر من عام 1932 أفلت شمس الشاعر الخالد أحمد شوقي، وسلّم الروح وسط ذهول الحاضرين، الذين حاولوا إنقاذه من نوبة السعال التي أصابته ساعتئذ. تلقى العرب في جميع الأقطار نبأ وفاة شوقي بالحزن الشديد والألم الوافر إذ أفل حينها نجم من نجوم شعر العربية لم تر له دنياها من مثيل. ألا رحم الله أمير الشعراء وجعل مثواه روضة من رياض الجنّة.

دمشق

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ

وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي

جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي

إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ

وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي

جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ

دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ

وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ

وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري

وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرْقُ

وَحَولي فِتيَةٌ غُرٌّ صِباحٌ

لَهُم في الفَضلِ غاياتٌ وَسَبقُ

عَلى لَهَواتِهِم شُعَراءُ لُسنٌ

وَفي أَعطافِهِم خُطَباءُ شُدقُ

رُواةُ قَصائِدي فَاعجَب لِشِعرٍ

بِكُلِّ مَحَلَّةٍ يَرويهِ خَلقُ

غَمَزتُ إِباءَهُمْ حَتّى تَلَظَّتْ

أُنوفُ الأُسدِ وَاضطَرَمَ المَدَقُّ

وَضَجَّ مِنَ الشَكيمَةِ كُلُّ حُرٍّ

أَبِيٍّ مِن أُمَيَّةَ فيهِ عِتقُ

لَحاها اللهُ أَنباءً تَوالَتْ

عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق