
سوق يافا
غوستاف باورنفيند 1848 – 1904
د . محمد بدوي مصطفى
قام الرسام الألماني غوستاف باورنفايند Gustav Bauernfeind بزيارة فلسطين بين عامي 1888-1889، حيث قام برسم عدة لوحات عن هذه البقاع العريقة. تعتبر هذه اللوحة هي إحدى أعماله الخالدة والتي تم بيعها بمزاد علني بمبلغ 3,728,900 جنيه أسترليني. لقد تحدثت في غير مقال عن هذا العبقري الألمانيّ الذي ولد في قرية سولتز على نهر النيكر ونشأ في مقاطعة بادن فورتنبيرج التي عاصمتها مدينة شتوتغارت وعمل بها كمهندس معماري وشهدت المدينة إذذاك بدايته المتفردة في الرسم وتطويع الألوان وفنون العمارة. لم يكن واثقا في بداية مشواره الفنيّ بالموهبة التي حباه إيّاه الخالق وكان يقارن نفسه بأقرانه من كبار الرسامين والمعلمين في هذا المجال. رغم ذلك فكان يعرض أعماله عليهم وكانوا يشيدون بها وبهذه العبقريّة الفذة وأن عليه أن يشرع في ممارستها عرضا وطولا.
إن لوحة “سوق يافا” تتحدث عن نفسها، مرسومة من زيت على قماش في سنة ١٨٨٧. تعكس صورة حقيقة لمدينة الساحل الساحرة يافا وملامح من سوقها إذذاك، وهي دون أدنى شك من ساحرات الشرق الحالمة كمدن أخرى كبيروت والقدس ودمشق والتي انطبع عبقها في مخيلة أدباء وفلاسفة أوروبا فضلا عن الفنانين التشكيلين. إن لوحة “سوق يافا” ما هي إلا مسرحيّة سريالية تبعث دفئها في قلب كل عاشق وهيمان وتبث نداها بطلّ ونداوة الأراضي المقدسة وأهلها الطيبين. إنها يا سادتي حقيقة صورة تذكاريّة ومشهد واقعيّ وتوثيق جبّار لتلك الحقبة، قلَّ إن نجده في سجلات التاريخ واستطاع أن يعكسها باورنفيند بصدق ودقة في التفاصيل تكاد تكون خارقة للعادة. نجد فيها دقة التصوير ورهف التدرج الانسيابي للضوء بين أركان السوق الذي اكتظ بأشكال وأصناف شتى من البشر: الرجال، النساء والأطفال وحتى الحيوانات لم يدع مجالا لأن تغيب عن هذه الوثيقة التاريخيّة.
لم تكن تلك هي اللوحة الأولى التي عبر فيها عن شغفه بالشرق وأهله وحضارته، وذلك كما ذكرت في غير مقام لم يأت بمحض الصدفة فقد شُغف الرجل بهذه الحضارة أيما شغف وترك كل ما أمامه ووراء ظهره من عمل والتزامات ومن محيط اجتماعي وهاجر لا يلوي على شيء إلا ويكتشف كنوز هذه البقعة المباركة وخبايا هذا الكنز الذي أرق ليله ونغص عليه نهاره؛ وقد بدأ هذا التشبث بالشرق في حياته تدريجيا وتطور رويدا رويدا حتى صار ولها وعشقا وغرام. درس الرّسَّام الهندسة وتأهل حتى صار معماريا محترفا وجاء حبّه للرسم وعرفه لأول مرّه عندما عمل في مكتب للهندسة بمدينة شتوغارت. لذلك نجد نظرته في رسم الأشياء تسندها دقته في تجسيدها باحترافية عالية ويعزى ذلك لعدة عوامل بجانب الموهبة الربانيّة ألا وهي دراسة الهندسة المعماريّة، الشغف والاحترافيّة وسرعة التعلم والتمرين الدؤوب والتطلع إلى الأفضل.
تم نشر أولى أعماله بتكليف من دار نشر أنجلهورن بمدينة شتوغارت في عام ١٨٨٠ إلى ١٨٨٢ وكانت تلك الأعمال تعبر عن موضوعات تعنى بمدن أوروبيّة نشأت خلال أسفاره العديدة في تلك المناطق. زار بعدها ببضع سنوات شقيقته بمدينة بيروت فأحبها ومن ثمّة شرع ينقب في حنايا الشرق، مدنه، أهله، ربوعه وثقافاته دون لأي.
عقد العزم بعد عودته من رحلته الأولى أن يقوم بزيارة ثانية للشرق وكانت هذه المرّة بين عام ١٨٨٤ إلى ١٨٨٧ حيث التقى عشيقته ورفيقة حياته بمدينة يافا وتزوجا في عام ١٨٨٩. أثرت هاتان الرحلتان حياته لدرجة أنه بدأ يزور الشرق مرارا وتكرارا رغم العناء المتصل بالأسفار وقتئذ، حتى اتخذ قرار حياته القاطع بالانتقال أخيرا إلى فلسطين في عام ١٨٩٦ بصحبة زوجته وابنه وفي عام 1898 راح يعيش ويعمل بمدينة القدس، ومن هناك بدأ رحلاته الاستكشافية حول المنطقة، فزار سوريا لبنان مرّة أخرى وبنى أبطال لوحاته وزخارفه ومضامينها من خلال حرفيته في الهندسة المعماريّة ومن دقة تصويره في استشفاف طبيعة الشرق الخلابة وشعوب المنطقة. غوستاف باروندفيند عبقرية فنيّة دون سابق أحب الشرق وأهله وأخلص في تصوير حيواتهم بصورة قلّ أن نجد مثيلها في سموات الفنون والأعمال التشكيليّة.