
أماندا لاي ليتشتنشتاين – ترجمة: أحمد شافعي
لم تدرّ النجوما كثيرا من المال، ومع ذلك استمر حاجي جورا في التأليف والعزف جنبا إلى جنب عمله حمالا بميناء ماليندي في ستون تاون. وفي أواخر الخمسينيات دُعي إلى الانضمام إلى نادي ميتشنزاني الاجتماعي ونادي إخوان الصفا الاجتماعي وهما أقدم فرق الطرب الزنجبارية وقد تأسستا في عام 1905. والطرب هو موسيقى عاطفية ـ وكلمة الطرب نفسها عربية الأصل معناها “التأثر” أو “الاستثارة”. في مزيج من أساليب الشرق الأوسط والأساليب الأفريقية، وصل الطرب إلى زنجبار أول ما وصل في سبعينيات القرن التاسع عشر بفضل السلطان العماني برغش Barghash الذي أوفد الموسيقار محمد ابراهيم إلى مصر لدراسة الموسيقى المصرية وتعلم العزف على القانون، فلما رجع محمد ابراهيم إلى زنجبار أسس أول فرقة طرب زنجبارية، واستولت تلك الموسيقى الهادئة على أهل زنجبار وبمرور الوقت أصبح الطرب مرادفا للجزر.
كتب حاجي جورا مئات الأغنيات الطربية التي تجتمع فيها العاطفة الرومنتيكية بالتزاماته الراسخة بالسياسة والفلسفة. كتب أغلب تلك الأغنيات في مقطوعات مقفاة ثلاثية الأبيات، ولحنت فعزفتها كبرى الفرق في القاعات الموسيقية في شتى أرجاء الجزيرة. وبينما استمر حاجي جورا في العمل في الميناء، بقي الطرب حجر زاوية في إبداعه.
وابتداء من ستينات القرن العشرين، باتت أغنياته تذاع في الإذاعة الزنجبارية ويغنيها أشهر المطربين في الجزيرة. وتعد أغنية “دنيا ولها وجهان” أول أغنية رسمية في حياة حاجي جورا، وقد كتبها سنة 1959، ليغنيها المطرب خميس عبيد من بلدة زنجبار في عام 1964
دنيا ولها وجهان
دنيا ولها وجهان
تبادرك بالخير
لكن ليس لها أمان.
تلعق العسل
ويسعدك الناس
وتمتلئ حياتك
وأتذكر ذلك جيدا
أتذكر أن الشر يأتي
وتنقلب عليك دنياك
صن كرامتك
واجعل كل ما تقوله بلسانك
تصدقه أفعالك.
برغم أن كثيرا من أغنيات حاجي جورا الطربية أغنيات غرامية في مديح الحب، فقد كانت حياته العاطفية عنيفة. إذ يروي علي صالح أن حاجي جورا أصيب بحزن شديد من جراء حب من طرف واحد حتى أوشك أن ينهي حياته. فسبح إلى ما وراء الحاجز المرجاني متوغلا في المياه العميقة، و”تصادف أن رآه بعض البحارة فنادوه وسألوه عما يفعله هناك، ولمَّا لم يجبهم إجابة شافية، أنقذوا حياته”. ويتضح فتور حاجي جورا تجاه الحب في أغنيته “يا حبيبتي، يا حبيبة قلبي” التي كتبها في وقت ما من الستينات:
يا حبيبتي، يا حبيبة قلبي
سلاما يا حبيبة قلبي
ليس بوسعي أن أبتسم
وهكذا هو حال نفسي:
بلا حدود
يعتمل القلق في نفسي
روحي بين يديك
يعاقبني الحب
نحلت حتى صرت كالخيط
أجهز الحزن عليّ
سلاما لك يا حبيبة قلبي
يا بعيدة فلا أراك
أنا الغارق في الحب
أبكي وداعك
ولا أعرف ما العمل
ساعديني على الإيمان.
ففي حب شخص مثلك
لا يتوقف مثلي عن التفكير
واللوذ بحلمه.
يقول علي هلال “إننا نرى عبر حاجي جورا أن الفن هو الشعور وأن الشعور أساس الشعر. ما يحرك حاجي جورا هو الإحساس. ما يحركه هو بيئته. ذلك ما تقوم عليه حياته: الإنسانية: أفعالنا، طبيعتنا، عوالمنا”.
ومع تنامي شهرته بين محبي الطرب، اكتسب حاجي جورا كذلك شهرة بوصفه من أشد المصارعين بالكلمة في قالب شعري فريد معروف على طول الساحل السواحيلي هو قالب المشاعري يا مالومبانو، أو شعر المواجهة. في هذه المعارك الكلامية الأسبوعية ـ الشبيهة بالدزائن Dozens وهي مباريات في الشتائم شائعة بين المجتمعات الأفروأمريكية ـ يتبارى الشعراء في تحد، قد يكون لغزا أو تحريضا شعريا من خلال الجرائد المحلية أو عبر الإذاعة. ومن يرى من الشعراء اسمه مطبوعا أو يسمعه مذاعا يرد في الأسبوع التالي بشيء من شعره. ويستمر التراشق الأسبوعي “إلى أن يخفت التحدي” بحسب ما يقول علي صالح. هذه الأشعار تلقى إلقاء دراماتيكيا بوصفها أغنيات تلتزم إيقاعاتها بقواعد صارمة تحددها الفينا (أي القوافي) والميزاني (أي عدد التفعيلات) والبحري (أي البحور الشعرية).
يشيع هذا القالب في شرق أفريقيا منذ قرون كوسيلة للمديح والتعلم والمجادلة، وفوق ذلك كله، للعب بالكلمات. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان أداة جوهرية، ومجرَّمة اجتماعيا، للكتابة في مواضيع من قبيل الآيدز والعنف الأسري والبطالة وغيرها من التابوهات الكتابية. من أشهر مؤلفات جادي جورا “لا تضرب زوجتك بعصا”، وفيها يناصر حقوق المرأة في موقف يعارض بجرأة العادات في زنجبار. ازدادت شهرة حاجي جورا في ردوده على المتحدين بسخريات حاذقة وقراءات بارعة. في بعض أكثر أعماله استثنائية، وقد أذيعت في الإذاعة سنة 1998، تجادل هو والشاعر جوما ماتشانو حول وجود الـ تشونوسي، وهي في الفولكلور السواحيلي كائنات بحرية خفية قابعة تحت الماء ويعتقد أنها تغرق العائمين.
يسأل ماتشانو:
بسم الرب أبدأ
هذه ليست المرة الأولى
وسؤالي
أي نوع من الكائات هو التشونوسي
باسم أتقى تعامل مع كائن كهذا
أرجوكم جميعا أن تحتملوني
وأخبروني أين يعيش؟
يرد حاجي جورا:
يأ أيها المحرض
ها أنا جئت إلى إذاعة زنجبار
وسألتني أنت عن التشونسي
فاسمع بغير انتظار
فورا ودون احتقار
للمعلم الذي أبدو إياه
في إجابتي التبيان
التشونسي من الجان.
في مطلع تسعينات القرن الماضي، شرع حاجي جورا في جمع شعره المدون ـ وأغلبه من أغنيات الطرب ـ في مخطوطة عنوانها كيمبونجا. وبتشجيع من بعض أساتذة جامعة زنجبار، أطلع على أعماله غير المنشورة علي مواليمو راشد وكان في ذلك الوقت رئيس قسم الدراسات والنشر في الجامعة. يقول علي مواليمو راشد “علمت حينما اطلعت على المخطوطة أن حاجي لديه من الموهبة والإبداع أكثر مما لدى أي شخص صادفته”. وارتبط حاجي جورا في نهاية المطاف بمطبعة جامعة دار السلام التي نشرت كيمونجا سنة 1994. وبذلك بدأ الفصل الثاني في حياة رجل يعتبره الكثيرون منذ عهد بعيد أعظم شاعر سواحيلي على قيد الحياة.
______________
في 2015، حينما كان حاجي جورا في مطلع الثمانينات، صدمته سيارة وهو يقوم بجولاته المعتادة في سوق داراجاني المزدحم في ستون تاون. كسرت ساقه وانتقل على مضض من المدينة ليقيم في قرية مجاورة ليتسنى لأهله الاعتناء به. كانت المتاهة الاجتماعية في المدينة تغذي الإبداع دائما لدى حاجي جورا لكن أسرته أصرت على أنه بحاجة إلى إشراف حثيث خلال فترة تعافيه.
ومع شفاء ساق حاجي جورا، بدأ عقله يخف. أودعته أسرته غرفة بسيطة بلا مذياع أو هاتف محمول، وهما الحبلان السريان في حياته، خوفا من أن يضل إن خرج من البيت وحده. وأخفوا عنه كراساته وأقلامه. إذ تعتقد أسرته أنه لم يعد قادرا على الكتابة بالطريقة التي درج عليها وأن عليه أن يريح عقله. وبعد ستة أشهر من الانتقال إلى القرية بدأ حاجي جورا يكلم بشرا وكائنات خفية. يقول لي علي وهو يهز كتفيه في أسف إن “بعض كراساته [التي تحتوي أعمالا غير مكتملة] ضاعت في أثناء التنقلات أو أتلفها الأطفال”. ويحتفظ أشقاؤه بما بقي من كراسات أبيهم آمنة في بيت العائلة. حينما زرته في نوفمبر 2017، انتظر حاجي جورا إلى أن غادر أبناؤه الغرفة ثم اعترف أنه يتوق إلى الكتابة مرة أخرى. وفي لحظة نادرة صفا فيه ذهنه طلب مني أن آتيه بقلم جيد.
تقول نتالي آرنولد كوينينجز الباحثة والمترجمة التي التقت بحاجي جورا وهي في الرابعة والعشرين من العمر عندما كانت تدرس الأدب السواحيلي في زنجبار “إنني أخشى أن يكون شاعرا بعض الشيء بالوحدة. وأريد أن أقول لأصدقائه: المعلم لم يزل بينكم! فاستغلوا الوقت وزوروه، وأطلعوه على الأخبار. خذوه إلى سوقه المفضل في المدينة، دعوه يثرثر ودعوه ينهل من الأنشطة البشرية التي تمثل لشعره قلبه وروحه. دعونا نشكره، ونراعيه، ونمنحه الحب ما دمنا قادرين على ذلك. لقد أعطاكم الكثير ولا يجب أن تنسوه”.
كانت كيمبونجو، وهي من أشهر قصائد حاجي جورا، موضع اختبارات عديدة لطلبة المستوى الرفيع في تنزانيا، ولم يحصل حاجي جورا على عائدات من مطبعة جامعة دار السلام غير مرة واحدة، وليس إلا بعد مطالبات حثيثة من أقرب أصدقائه ريدر سامسوم. وهو ما يفاجئ علي مواليمو راشد من جامعة زنجبار إذ يقول لي: إن الكتاب بيع لآلاف الطلبة في شتى أرجاء تنزانيا وأعيد طبعه مرات كثيرة. سافر حاجي الأصغر إلى دار السلام في السنة الماضية ليتأكد من مستحقات أبيه، ولكنه لم يكن يمتلك آنذاك السلطة القانونية فحيل بينه وبين المعلومات. ولما رجع مرة أخرى ومعه الأوراق التي تثبت حقه القانوني في تمثيل أبيه، وعدت الجامعة بإرسال خطاب رسمي يحتوي المزيد من التفاصيل. وبعد أسابيع تلقى حاجي جورا خطابا من الجامعة يدعو الأسرة إلى التقدم بشكوى إلى الحكومة.
غير أنه حينما يحصل حاجي جورا على أجر، فإن الأدب لا يدر من المال ما يفي بتلبية الاحتياجات. يعاد طباعة كتابيه المؤلفين للأطفال سنويا في ما بين 300 و700 نسخة حسبما تقول فاطمة شانجازي المديرة المحلية لمطبعة جامعة أكسفورد في دار السلام. “ونحن ندفع للكتّاب عائداتهم مرتين في السنة، في ديسمبر ويونيو. يحصل حاجي جورا على عشرة في المائة من صافي الأرباح، وتباع كتبه بـ 3300 شلن [ما يعادل 1.50 دولار أمريكي]. ووفقا لحساباتنا فإن حاجي حصل على 256000.10 [أي 116 دولار أمريكي] اعتبارا من ديسمبر 2017”.
تلك المبالغ الزهيدة لا تتسق مع المكانة الرفعية التي يحتلها حاجي جورا في الجزر. فهو ـ كما تقول كوينينجز ـ “المقياس الذي أقيس عليه قدراتي ككاتبة. وأرجو بحق أن يقوم محبوه ـ ونحن الذين نحبه كثيرون جدا في زنجبار وشرق أفريقيا وفي العالم كله ـ بالتكتل جميعا، والتنسيق فيما بيننا بطريقة أو بأخرى، لنضمن المحافظة على إرثه ونعلمه أيضا بقوة وبحق كم يعني بالنسبة لنا”.
في زنجبار كثيرا ما أقابل عليا في موقف الحافلات الفوضوي في سوق داراجاني على طرف مدينة ستون تاون. وبدونه أضل الطريق وسط المسارات الرملية المتلوية باتجاه بيت العائلة المختفي وراء الطريق الرئيسي وسط كثير من البنايات الأسمنتية المزدحمة والمزارع الصغيرة والمساجد الضئيلة المكتوب على صفائح ملصقة إليها بخط اليد تسبيحات لله.
في الدلدلة المزدحمة (والدلدلة daladala هي شاحنة الركاب الصغيرة في زنجبار) ينطلق علي مغنيا أغنية شعرية في ما بين الأحاديث عن إرث أبيه. يهز رأسه مبديا تخوفه من أن حياته سوف تضيع مثلما ضاعت حياة أبيه: غنية بالكلام فقيرة إلى النقود. حينما كان علي في العشرين من العمر، ألقى قصائده في برنامجي “مؤلفات جيدة” و”شعراؤنا” في الإذاعة المحلية، ولكن ذلك استوجب دفع ألفي شلن [قرابة 85 سنتا للقصيدة الواحدة.
يقول علي إن “الإذاعة تجعل الشعراء يدفعون زاعمين أنهم يسوِّقوننا بعرض أعمالنا. هذا لا يضيف شيئا إليّ”. وهو يعتمد على الإنترنت وشبكة دولية كبيرة من الأصدقاء لمساعدته على التحقق ككاتب. وأسرته كذلك تفكر في اللجوء إلى الإنترنت لترويج وبيع أعمال حاجي جورا، ولكن استعمال الإنترنت مكلف للغاية في زنجبار، ونادر أيضا. ففي 2016 لم يكن الاتصال بالإنترنت متاحا إلا لـ 13% من أبناء زنجبار.
لا نكاد نصل إلى البيت حتى نحيي حاجي جورا بالسلام التقليدي المخصص للكبار الموقرين “شيكامو” فيرد علينا “مرحبا”. يجلس منتصبا في السرير، مرتديا كانزو [جلبابا] رماديا داكنا ولفاحا كلاسيكيا أصفر مزخرفا باليد مائلا بعض الشيء إلى اليمين. يغادرنا علي لوهلة ويرجع ملوحا في فخر بـ موانا مكيوا، وهي مخطوطته الشعرية الأولى وتحتوي خمسا وخمسين قصيدة عن شابة تصارع عار الآيدز. يصف مخطوطته الثانية بأنها من “الشعر السياسي” المكتوب لفضح “الذئاب الشريرة في غابة” الحكومة الزنجبارية.
“أبي قرأ المجموعة الأولى وصحَّحها، ولكنني لم أطبع الثانية بعد، وأبي على أي حال يفتقر إلى السلامة العقلية اللازمة لإبداء رأيه الآن”.
خلال زيارتنا، يكثر حاجي جورا من ذكر حي إمباير القريب ويصر على أنه لا يزال يمتلك فيه بيتا. والحقيقة أن البيت الذي عاش فيه اختفى منذ أمد بعيد، شأن كثير من الناس الذين عرفهم وكبر بينهم. تختلط في عقله ذكريات الماضي العميق، بما قد يوحي باختلال عقلي، وإن لم يتم تشخيص ذلك. لا يزال يتعرف على الزوار، ومنهم مسؤولون حكوميون يأتون لتحيته، ولكن جوقة من الموتى لا تكف عن تشتيته.
أبدي الرغبة في الاطلاع على مخطوطة علي وطرح أسئلة عن كتابته، فلا نكاد نبدأ في الكلام حتى يجفل حاجي جورا ويترك السرير مخاطبا أشباحه متشبثا في الباب.
يقول علي “لنتركه”.
يقف حاجي جورا بجوار الباب، هائما مرة أخرى في ستون تاون، ولو في ذهنه. يكثر من الكلام عن لقاءات وهمية مع باحثين وناشرين. يبدو أنه راغب في الرجوع إلى عالم الشعر، حب حياته العظيم، لكن العتبة القائمة في طريقه لا تتزحزح، ليبقى الرجل بين عالمين.
• ترجمة “كومبونجا” إلى الإنجليزية بقلم ريانون ستيفنز وريدر سامسوم. وبقية النصوص ترجمتها الكاتبة بنفسها إلى الإنجليزية.
نشرت هذه المادة في موقع مجلة شعر الأمريكية.