
قصة قصيرة
“طاهــرة”
مجدي مكي المرضي
كانت “طاهرة” منذ صباها الباكر طفلة حلوة التقاسيم ينظر إليها الجميع بإعجاب بينما تغير منها أمهات رفيقاتها اللواتي حباهن الله بسعة رزقٍ وعيش وحظٍ من الجمال أقل. وعندما كبرت صارت فتاة فائقة الجمال، ممشوقة القوام، ذات طول بائن وعينين واسعتين تكادان تنطقان، ويتدلى شعرها الأسود الطويل ليصل أسفل ظهرها فيتمايل معها يمنة ويسرة في تناغم متناسق مع مشيتها الساحرة التي تخطف بها عقول سكان الحي، شيبهم وشبابهم، فيتسمرون في مكانهم ونظراتهم مصوبة نحو جسدها الممشوق عندما تمر بالشارع قاصدة دكان “عم أحمد” لشراء بعض حاجاتها والذي كثيراً ما يتعمد أن يبقيها تنتظر لفترة طويلة بحجة أن عامل السن قد أثر على حركته ونظره.
لم تعرف “طاهرة” والديها! تذكر أنها تربت في ملجأ للأيتام أو اللقطاء مجهولي الأبوين، وعندما كبرت تبنتها سيدة ميسورة الحال لم ينعم عليها الله بذرية ولكنها رحلت عن الدنيا بعد سنوات قليلة من تبنيها لطاهرة فلم يتقبل أهلها وجودها بينهم فعادت مرة أخرى إلى الملجأ وهي تلعن حظها التعيس الذي أعادها مرة أخرى إلى حياة البؤس والضيق التي كانت قد نسيتها مع هذه السيدة الطيبة التي كانت توفر لها دفء المأوى وكريم العيش وحلو الكلام.
لم تستطع “طاهرة” تعوُد حياة الملجأ وشظف العيش وبرودة المكان وضيق ذات اليد وهي التي كانت تحصل على ما تريد دون عناء. لا تعرف طاهرة من الحياة سوى جسدها الجميل وسحر مشيتها. كانت تملأ وقتها وهي تجتر عبارات الغزل وكلمات الإطراء التي تترامى إلى سمعها ممن حولها فتكبر فيها الرغبة في المحافظة على هذه الثروة وكان المال وسيلتها لذلك. فلم يكن أمامها بعد وفاة السيدة إلا أن تحصل عليه بأسهل الطرق المعروفة ولكنها تطبق فلسفة خاصة بها مع من تلتقيهم وتختارهم بعناية. فهي تأخذ منهم ما تريد، ولكنها لا تبالغ في ذلك فهي لا تريد الكثير، وبالمقابل تعطيهم قدراً مناسباً دون تفريط في ثمين!
كانت “طاهرة” تقطع الطريق إلي شارع النيل، بين حين وآخر، مروراً بصف من المباني العالية والمنازل الكبيرة التي تعكس الحالة الاقتصادية لساكنيها. وفي إحدى المرات، فتح باب أحد تلك المنازل لحظة مرورها فإذا برجل تعلو وجهه الهيبة والوقار وبضع شعرات بيض قد زينت شعره الأسود فأضفت عليه مسحة من وسامة تكاملها لحيته المشذبة بعناية. كان رجلاً خمسينياً يرتدي جلباباً ناصع البياض وعمامة مطرزة وشالاً يضعه بعناية على كتفيه. اصطدمت نظراتهما ببعضهما وفي ثوان معدودة خاطبت عينا الرجل الوقور جسد “طاهرة” ولكنه سرعان ما أشاح بوجهه عنها وحشر نفسه في السيارة الفارهة التي كانت تستعد للانطلاق به. أما هي فقد استقبل جسدها تلك النظرات فاهتز مضطرباً من وقعها عليه ولكنها انتفضت مستدركة أنها في الشارع، غير أنَّ شيئاً ما بقي في دواخلها واستقر!
مرت الأيام وطاهرة لا تعرف غير هذا الطريق والرجل الخمسيني يفتح باب منزله، مع سبق الإصرار، لحظة مرور ذلك المخلوق الأنثوي، فتلتقي نظراتهما وتضطرب دواخلهما ويبدأ اللهيب!
بدأت العلاقة بين الاثنين في هدوء تام واستمرت كذلك بعيداً عن شكوك أهل الحي التي تبددها سمعة الرجل ونفوذه الواسع وعلاقاته الممتدة، حتى جاء اليوم المشهود!
=بينما كان الاثنان في الغرفة العلوية، انطلق صوت إحدى الجارات يشق جدار الغرفة وهي تستغيث الجار وتناديه لإنقاذ ابنتها الصغيرة التي حبستها النيران التي اشتعلت في المطبخ. قام الرجل من رقدته مذعوراً ولم يجرؤ علي فتح النافذة حتى لا تراه الجارة وهو بهذا الحال. في هذه الأثناء، كانت “طاهرة” تنظر إليه وتنتظر أن يقوم مسرعاً لإنقاذ صغيرة جارته التي ازدادت صرخاتها ونداءات استغاثتها وعلا نحيبها وهي ترى فلذة كبدها وقد حاصرتها النيران من كل جانب. مرت الثواني بطيئة وهي ما زالت تحدق فيه باندهاش. لم يتحرك الرجل فقد كان يخشى الفضيحة وأن يكشف الناس سر الزائر الذي يتردد على منزله من حين لآخر. عندها أدركت “طاهرة” أن الرجل لن يحرك ساكناً بينما تتصاعد ألسنة اللهب من المنزل المجاور …. لم تنتظر كثيراً … تناولت عباءة الرجل من الكرسي المجاور للسرير ولفت بها جسدها العاري كما اختطفت عمامته وبحركة سريعة غطت بها شعرها الطويل وقفزت مسرعة نحو النافذة في رشاقة عجيبة لتعبر منها إلى السطح ثم إلى منزل جارة الرجل.
تجمع سكان الحي خارج المنزل وحال الباب الحديدي الضخم دون دخولهم إليه ولكنهم رأوا شبح رجل يقفز إلى منزل الجارة من منزل الشيخ الوقور وما هي إلا لحظات حتى كان شبح الرجل يدفع بالفتاة الصغيرة من النافذة فتجرى مسرعة نحو أمها التي نجحت في الدخول الى المنزل بعد كسر بابه فاحتضنتها وهي تجهش في بكاء عميق. وبينما الجميع في انتظار خروج المنقذ من بين ألسنة النيران، دوى انفجار ضخم وتصاعدت ألسنة اللهب بشدة من داخل المطبخ وهوى السقف على مَن بداخله.
احترقت “طاهرة” واحترق معها سر علاقتها بالشيخ الوقور…أما هو فقد اختفي عن الأنظار وترك الحي الذي ما زال سكانه يلاحقونه بالدعوات… إذ لولا ضيفه الشهم لماتت الصغيرة. أما جارة الرجل فكانت ترفع يديها للسماء في كل ليلة تدعو لمن أنقذ ابنتها الصغيرة بالرحمة والمغفرة وتحدث نفسها بأنه لا شك في جنات الخلد والنعيم مع الصديقين والشهداء!