
قصة وفاء وإنسانيّة منقطة النظير
جريزلدا … زوجة عبد الله الطيب
تعرفت على عبدالله عام 1946 بجامعة لندن، حيث كنت أدرس بها ولكن فى معهد التربية قسم الفنون، وكان عبدالله يدرس بقسم الدراسات الأفريقية والآسيوية وتعرفت إليه بواسطة إثنين من زملائي السودانيين بكليتي وهما عبدالرازق عبدالغفار وجمال مبارك وتزوجنا فى أكتوبر 1948
كان عبدالله أول سوداني يعمل بجامعة لندن، فقد نال الدكتوراه عام 1950 وهو فى التاسعة والعشرين من عمره وقدم رسالته عن “المعري شاعرا” ونجح بجدارة، وطلب منه مدير قسم الدراسات الأفريقية بجامعة لندن العمل بها، في نفس الوقت طلب منه العودة الى السودان والعمل كمساعد تدريس بجامعة الخرطوم، ولكنه عبدالله رفض أن يكون حاملا لشهادة دكتوراة ويعمل مساعدا لأستاذ يحمل درجة علمية أقل منه بسبب أنه إنجليزي الجنسية، فقد كانت الحكومة البريطانية بالسودان آنئذ تعطي الأجانب إمتيازات أكثر فمكثنا بلندن، وفى تلك الفترة ترجم عبدالله سيرة الرسول (ص) لإبن هشام لمدير قسم الدراسات.
وبلندن كان عبدالله الطيب يحب مشاهدة الأفلام السينمائية فيذهب الى دور السينما وحده، وأذكر أنه عندما سافرنا الى السودان وبعد سنوات طويلة كانت تعرض تلك الأفلام على سينما النيلين فى الستينات، فيقول لى لقد شاهدت هذا الفيلم من قبل بلندن، وسألته بدهشة متى كان ذلك؟ وعرفت أنه كان يذهب وحده من الجامعة مباشرة الى السينما دون أن يخبرني!.
العودة الى السودان
وتستلطرد جريزلدا قائلة “بعد زواجنا بلندن واجهتنا صعوبة السكن، حيث كانت آثار الحرب العالمية الثانية مازالت تؤثر على البلاد، الغلاء فظيع والشقق غير متوفرة بسبب الدمار الهائل الذى لحق بمدينة لندن، ولإيجار مكلف جدا، علاوة على أن الشقق صغيرة للغاية، وإضطررنا الى التنقل ثلاث مرات فى عام واحد، وشعرنا بعدم الإستقرار، ولذا كانت فرصة لنا أن وجهت الحكومة السودانية دعوة الى عبدالله لأن يصبح رئيس قسم اللغة العربية بمعهد بخت الرضا بالدويم، وكان رئيس المعهد إنجليزيا يدعي روبرن هوكينج، وجئنا الى السودان فى العام 1951 ، كان بيتنا صغيرا من الجالوص يقع ضمن مجموعة من بيوت الأساتذة فى منطقة بعيدة منعزلة عن المدينة، ويختلف عن بيت النائب البريطاني الكبير ذي الطابقين، ولكن البيت أعجبني كثيرا شعرت لأول مرة بالإستقرار فى حياتي الزوجية”.
بخت الرضا
بخت الرضا أتاحت لنا جوا هادئا، وفراغا كبيرا، وكان عبدالله يحب القراءة جدا، ولم تكن هناك كهرباء وكان يبدأ قبل المغرب بتنظيف وإشعال لمبات الجاز أو الفوانيس المنتشرة بالبيت، والتى كنت أكرهها وأفضل عليها الأباجورات ذات الضوء الخافت الهادي، والتى كان عبدالله لا يحبها ويري أن لا فائدة منها، فالغرض كما يقول لى دائما هو النور القوي فحسب للقراءة، وكان يمازحني كثيرا بشأن الأباجورات، أذكر أنه بينما كنا فى المغرب وجد عدة أباجورات بمنزلنا الجديد هناك فسأل المضيف المغربي “ماذا تسمون الأباجورة هنا؟” فأجابه المضيف “طفاية”، فإلتفت إلىّ مازحا وقال “أرأيت؟ يسمونها طفاية، يعني بتطفئ النور!..
ونعود الى بخت الرضا التى أحببتها، كانت بيوت العاملين منفصلة كما ذكرت لك، والعائلات فى ترابط عجيب، لا تشغلنا المجاملات الإجتماعية أو ما يشغل عادة أبناء العاصمة،
وأذكر أنه لم تكن هناك سيارات خاصة بل حتى مدير المعهد لا يمتلك سيارة، وكنا نتنقل بالعجلات، كما كانت لكل أسرة مركب شراعية تننقل بها فى نزهات نيلية، وكان عبدالله يجيد قيادة المراكب الشراعية، فعبدالله إذا ما ركز تفكيره على أى شئ أو أى عمل أجاده للغاية، كما كان هناك حوض للسباحة فى جزء من النيل محاط بسياج مكون من جوالات معبأة بمواد كيماوية خوف البلهارسيا، وكنا ننتقل الى مدينة الدويم كل جمعة لشراء الحاجيات المنزلية من محل خواجا كوستا هناك.
أول كتاب لعبدالله الطيب
كان عبدالله يقرأ كثيرا، وشعرت أن لديه الكثير من الأفكار فى رأسه وقلت له “قضيت سنوات طويلة تلتهم الكتب وتعبئ رأسك منها، حان الآن دورك لتنتج كتبك أنت”، فكان أن بدأ كتابة كتابه الضخم المكوّن من عدة أجزاء وهو “المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها” عام 1952 وإنتهي منه العام 1953، وبعد ذلك سألنى “ها أنا فرغت من كتابته، ولكن لا أعرف ما هى الخطوة التالية”، فسألته “من هو أكبر كاتب أو أديب فى الوطن العربي؟” أجابني قائلا “طه حسين”، قلت له حسنا، خذ نسخة من هذا المخطوط وأذهب بها إليه ودعه يقرأها ويقل لك رأيه بشأنها”، فقررنا السفر بعدها الى مصر بالباخرة فى الإجازة السنوية وأذكر أن الرحلة كلفت 9 جنيهات!، وإلتقينا فى القاهرة بطه حسين والذى كان يعيش عيشة باشوات، منزل ضخم بأثاث فاخر وسكرتير خاص يقرأ له النصوص وزوجة فرنسية، وكان فخورا بنفسه، واثقا من قدراته ومعرفته وعلمه، وبعد أن تناول منا نسخة من كتاب المرشد طلب من عبدالله أن ينتظر لعدة أيام كي يقرأها ثم يوافيه بتعليقه عليها، فمكث عبدالله بالقاهرة منتظرا رد طه حسين، وسافرت أنا بالباخرة من بورسعيد عائدة الى لندن عام 1953 حيث كنت أرغب حضور حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية ملكة لبريطانيا، وبعد وصولي الى لندن بأسبوع، تلقيت رسالة من القاهرة من عبدالله وأخبرني فيها أنه سعيد جدا حيث لقي كتابه إعجابا كبيرا من طه حسين، وقال لى أيضا أن طه حسين جمع عددا كبيرا من الأدباء والكتّاب بمكتبه ومنهم سهير القلماوى ومحمود شاكر وبنت الشاطئ، وقال لهم “أنظروا هذا الشاب السوداني نجح فى إنجاز عمل لم يستطع أحدا منكم أن يقوم به”..وكان أن كتب طه حسين مقدمة لكتاب “المرشد الى فهم أشعار العرب” وأوصي عبدالله أن يطبعها بدار الحلبي للطباعة والنشر وكانت دار مشهورة فى ذلك الوقت، وطلب طه حسين ضم عبدالله الى مجمّع اللغة العربية بالقاهرة وكان أصغر الأعضاء سنا حينها.
مصر فى ذلك الزمان كانت قلعة الثقافة ومنارة العلم للدول العربية، الكل يريد أن يدرس بجامعاتها أو لتحضير الدكتوراة فيها أو لشراء الكتب أو لطباعتها ونشرها..
وبمصر إلتقي عبدالله الطيب أيضا بمحمود شاكر، المفكر والأديب المعروف والذى كان يدعو الى صالونه ببيته صفوة المثقفين والأدباء، وكان عبدالله الطيب من ضمنهم، وبعد أن سجنه عبدالناصر لعدة سنوات كان عبدالله الطيب يزور أسرة محمود شاكر سنويا ويحمل لهم الهدايا من السودان، وكان صديقا للعقاد وطه حسين، رغم أن الإثنين كانت بينهما مجادلات عديدة.
المهم أنه بعد نشر كتاب المرشد جرت دراسات عديدة عنه فى الصحف والمجلات بمختلف الأقطار العربية وتناوله الأدباء المختلفين بالدراسة والنقد .وبعدها إنتقلنا من بخت الرضا الى الخرطوم فى السكن الجامعي بحى المطار عام 1954، حيث عمل عبدالله أستاذا بجامعة الخرطوم بكلية الآداب.
كان السفر الى نيجيريا؟
إنتقلنا الى نيجيريا عام 64-1966 إثر دعوة وجهت لعبدالله الطيب لتأسيس معهد عبدالله بييرو أمير ولاية كانو، للغة العربية والدراسات الإسلامية، وكان عبدالله قبلها فى مكة لأداء فريضة الحج ومنها توجه الى نيجيريا، وإلتقي بالجامعة بعدد من النيجيريين ممن أدّوا معه فريضة الحج، ووجدنا فى نيجيريا وضعا مريحا جدا ووفروا لنا منزلا جميلا وسيارة خاصة وسائق، وكان الموقف طريفا عندما وجدنا أن المنزل مكتوب عليه من الخارج “منزل البروفيسور الحاج عبدالله الطيب”!، ونجح عبدالله فى تأسيس المعهد بداية من المنهج وطرق التدريس وحتى الأبنية والأساتذة والعاملين، كما أسس قسمين بالمعهد واحد للغة الفرنسية وآخر للغة الإنجليزية، والمعهد تحوّل الى جامعة فيما بعد وأعتقد أنه كان موفقا تماما، فقد كان هناك نزاع دائم بين شمال نيجيريا المسلم وبين جنوبه المسيحي، فالشمال يفخر بأنه مازال محافظا على دينه الإسلامي وثقافته وإرثه العربي الأفريقي، بينما الجنوبيون يفخرون بلغتهم الإنجليزية وبثقافتهم الغربية التى إكتسبوها من المستعمرين الذين دخلوا نيجيريا عبر البحر من جهة الجنوب، وكانت المنافسة مستعرة بين القسمين، ولذا جاءت فكرة تأسيس ذلك المعهد العربي الإسلامي لمنافسة جامعات الجنوب..
فى نيجيريا فى الستينات إلتقينا بالدكتور زكي بدوي، المفكر المصري المعروف وكان يعمل هناك، وبدا غيورا من منصب عبدالله وإدّعي أنه وجهت إليه الدعوة أولا لتأسيس المعهد ولكنه رفض!، كما كان متزوجا هو أيضا من سيدة إنجليزية مسلمة، وكان الطلاب النيجيريون يأتون الى عبدالله الطيب ويسألونه لما زوجتك ما زالت مسيحية ولم تسلم كزوجة عبدالرحمن بدوي؟!..فعرفنا أن زكي بدوي كان يحرّض الطلاب ضد عبدالله الطيب، ولكن رغم ذلك النيجيريون يقدّرون عبدالله الطيب جدا وهناك شارع يحمل إسمه فى شمال نيجيريا!، وفى العام 1997 وجهت اليه الدعوة لنيل درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة بييرو بكانو وهناك أعلنت انا إسلامي لشدة إعجابي بتمسك النيجيريين الشماليين بدينهم الإسلامي القويم فى كل معاملاتهم، أذكر أنه شهد على إسلامي بروفيسور مدثر عبدالرحيم المدير السابق لجامعة أمدرمان الإسلامية، ومجذوب سالم البر العميد السابق بكلية الآداب جامعة الخرطوم. وطلب القاضي من عبدالله الطيب إختيار إسم عربي إلىّ يبدأ بحرف الجيم حتى يسهل لى التوقيع على الأوراق والمعاملات وغيره وكان أن إختار عبدالله لى على الفور إسم جوهرة..
عند وفاة عبدالله الطيب أرسل مدير الجامعة وفدا يتكون من أربع من طلاب عبدالله النيجيريين لتقديم التعزية، النيجيريون شعب وفي، ومن طلابه محمد زهر الدين وهو وزير التعليم حاليا بشمال نيجيريا، وتندلتي عبدالقادر مدير الجامعة حاليا وآخرين شغلوا مناصب أكاديمية هامة.
إعفاءه من جامعة الخرطوم
وتستطرد جريزلدا الحديث عن تولى د.عبدالله الطيب منصب رئيس جامعة الخرطوم وتقول: تم تعيين عبدالله الطيب رئيسا لجامعة الخرطوم فى العام 1974، إلا أنه فى عام 1975، أقيل من منصبه وهو فى الخامسة والخمسين من عمره وفى قمة عطاءه الفكري والعملى، ففي خلال الأربعة عشر شهرا التى كان فيها رئيسا للجامعة قام بعدة إنجازات، ومنها تحويل مستشفي سوبا الى مستشفي تعليمي تابع لجامعة الخرطوم وضم إليها مساحة 300 فدان، كما ضم كلية التربية بكرري الى جامعة الخرطوم وكانت آنئذ تتبع للأمم المتحدة، ووضع نظام المعاش لأساتذة الجامعة لأول مرة، وتم توسيع جامعة الخرطوم بضم إصطبلات كانت تتبع لوزارة الثروة الحيوانية، وتم إقصاءه رغم تلك الإنجازات بسبب أنه كان يجب أن يكون رئيس الجامعة من الحزب الإشتراكي الحاكم، وعبدالله الطيب لم تكن عنده أى ميول حزبية، فذهب الى نميري محتجا على قرار الإقصاء، إلا أن النميري أجابه” ماذا فى إستطاعتي أن أفعل لك؟” ثم إقترح نميري عليه أن يكون مديرا لجامعة الجزيرة، وكانت حينها ما زالت مشروعا حبرا على ورق، فرفض عبدالله، ثم إقترح عليه تعيينه سفيرا بالخارجية فرفض عبدالله الطيب ورأى فى ذلك عملية إقصاء تدريجية له فالسفارات هى مأوى الضباط المفصولين!، ثم إقترح عليه ليكون مديرا لجامعة جوبا فوافق عبدالله الطيب إلا أنه أحيل الى المعاش فى العام التالى!.
أى دراسات قمت بها فى جامعة الخرطوم؟لقد نلت درجة الشرف فى علم الأنثروبولوجي عام 1969، ودرجة الماجستير فى الفنون تحت إشراف د. حامد حريز عام 1975… أذكر أني قمت برسم لوحة صغيرة للجامعة بمناسبة تولى عبدالله منصب مدير الجامعة ونويت طباعتها على شكل بطاقات، ولكن للأسف تمت إقالته من منصبه قبل ذلك
المغرب المحطة التالية
وبعد إنهاء عمله بجامعة جوبا سافر عبدالله الطيب للسعودية للبحث عن عمل فى الجامعات هناك، ولكن تمت تقديم دعوة له من المغرب للعمل بها فى جامعة الملك محمد الخامس، وكان عبدالله الطيب حينها فى جنيف مشاركا فى مؤتمر لحوار الأديان ومن هناك أخبرني أنه سيتوجه الى المغرب، ورحبت أنا بالفكرة فقد فضلت العمل بالمغرب على السعودية لأنه قريب فى طقسه من أوروبا، وبالمغرب إندهش المغاربة لسعة إطلاعه ودروسه القيّمة فوجهت له الدعوة لإلقاء عدد من المحاضرات فى الدروس الحسنية السنوية التى يقيمها عاهل المغرب الراحل آنذاك الملك الحسن فى شهر رمضان يوميا فى الفترة بين العصر والمغرب، ومكثنا بالمغرب حوالى تسع سنوات كانت فترة ثرية للغاية، وعملت خلالها أستاذة للغة الإنجليزية، وكان الملك معجبا جدا بعبدالله، وحتى بعد عودتنا الى السودان نهائيا عام 1986كانت توجه له الدعوات سنويا لمواصلة إلقاء تلك الدروس.
وأذكر أنه عندما كنا بالمغرب وجدنا كتاب المرشد فى المكتبات هناك دون علمنا به، ومكتوب عليه طبع ببيروت، إستغربنا كثيرا وسألنا صاحب المكتبة الذى أجابنا بأنه لا يعلم مصدرها فقط إشتراها، وكانت بيروت حينها تعيش فى فترة الحرب الأهلية وما ينجم عنها من فوضي وغيره وعلمنا أن الكثير من دور النشر تقوم بطباعة الكتب دون علم أصحابها.
ما زلت تشرفين على طباعة كتبه؟
نعم، فى مهرجان الخرطوم عاصمة للثقافة العربية، تمت طباعة عدد من كتبه، وأبديت ملاحظاتي الخاصة حول تصميم الغلاف والشكل الخارجي للكتب وآسف إذا قلت لك إنني لم أستطع الحصول على نسخة واحدة مما طبع رغم طلبي وإلحاحي على وزير الثقافة وكان يجيبني أن كل ما طبع قد نفد.