ثقافة وفنلوحات المدائن

بورتريه ذاتي

ڤان قوخ

د. محمد بدوي مصطفى

فينسنت ڤان قوخ، فنّان رأى مولده النور بهولندا بنهايات القرن التاسع عشر. نشأ منذ نعومة أظافره محبّا للفن، يستنشق ويستوحي من الطبيعة إلهامه الذي نما وترعرع وتفجر في فترة حراكه الفنيّ التي لم تكن بالطويلة ويقدر لها المؤرخون بعشر سنوات لا أكثر ولا أقل. اتسم فنّه بغزارته الموضوعيّة وابتكاره المتردد واستثنائيته في اختيار المكان والزمان المناسب للخلق والابداع. تنقل بين شتى الموضوعات الفنيّة: المناظر الطبيعيّة، البورتريه والحياة الساكنة وأبدع فيها جُلّها ومن يرى الأرقام الخرافيّة لأثمان لوحاته ربما يصاب بالجنون، إذ أنها تبلغ مئات الملايين. رحل من بلده قاصدا الحجّ إلى عاصمة الجنّ والملائكة (باريس) ككل الفنانين الذين تمركزوا حينئذ في حيّ مونتماخت الذي يعرف عنه أنه موطن الفن والابداع والجنون. ونجد في الأيام لطه حسين الكثير من اللوحات التاريخيّة التي رسمها بإتقان عن هذا المكان الساحر الذي يجتمع فيه الأدباء والكتّاب والفنانين ويقصدونه كأنه مكّة الأبداع والفنون بشتى أشكالها. وما أن حطّ الرسّام ڤان قوخ رجليه بهذا المكان إلا وشرع في رسم البورتريه؛ الجدير بالذكر أن فينسنت ڤان قوخ كان ممارسا مخلصا وباحثا مهموما لفن التصوير الذاتي، نجده رسم ما لا يقل عن ٣٦ صورة ذاتيّة، ذلك في عام ١٨٨٦، وكان يقيم حينها في ملجأ سان بول موزول بباريس. اتجه في هذا المكان المتواضع إلى رسم البورتريه وترك مجالات الموضوعات الأخرى، لا سيما الطبيعة إلى أجل غير مسم. يذكر أنه كان يعاني من أمراض نفسيّة عديدة على شاكلة الانهيار العصبي والصرع الذي ربما كان نتيجة لصراع نفسيّ حاد أجبره على التقاعد عن الفنّ لمدّة طالت الخمس سنوات. فكم من مرّة عزف عن الخروج إلى الطبيعة وحبس نفسه في استديو الرسم الخاص به وهو في وحدة ووحشة إلا من قراطيس وألوان. ويُقرّ المؤرخون في علم تاريخ الفنّ أن هذا البورتريه هو أول عمل جبّار أبدعته ريشه الفنّان في عام ١٨٨٩ بعد التعافي من صراعه المستميت مع المرض النفسي الحاد الذي لازمه كظله في كل فترات حياته. أرسل البورتريه الذاتي لأخيه ثيو كهدية في أوائل شهر سبتمبر من عام ١٨٨٩ وكان قد نفض أدران النفس وتهيأ للشروع في مسيرة فنيّة تبحث عن مثيل.

يفسر النقّاد أن من عجائب هذه اللوحة أنها خلقت في جلسة رسم واحدة دون أن تمسّها ريشة تصحيحيّة واحدة بعد الاتمام وقد قام ڤان قوخ بتصوير ذاته فيها يعكس ذاته وما يجوش بخاطره من هوس. نجدها تحمل في طياتها جودة وإتقان في التصوير، تزاوج الألوان في تمازج اللون الأزرق والبنفسجي للجراب مع أديم الأرض البهيّ ومن ثمّة يتداخل ألق البرتقاليّ الزاهي ليزين شعره ولحيته. من المدهش أن في خلق هذا العمل تباينا مذهلا في مزج اللون الأصفر والأخضر إذ تتبدى فيهما هشاشة مذهلة لوجه انبثقت معالمه شاحبة وهزيلة واضفت فرشاه الشيطانية لديناميكيّة التجسيم، طابعا فوريا واحساسا أو قل تعبيرا غير مألوفين في دقة التصوير والخلق. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق