سلايدرسياسة

ثورة بيلاروسيا تتحدى آخر دكتاتوريات أوروبا

أ. د.  عبد الله عثمان التوم

في منتصف أغسطس الحالي، ٢٠٢٠، اندلعت المظاهرات في مدينة منسك، عاصمة بلاروسيا وعمت كل بقاع القطر. اشتعلت الثورة عقب اعلان نتيجة الانتخابات الزائفة والتي منحت الدكتاتور الإكزاندر لوكاشنكو ٨٠٪ من الأصوات في مقابل ٢٠٪ لمنافسته سفتلانا تيكانوفسكايا. لقد بقي لوكاشنكو في الحكم ٢٦عاما وهو آخر دكتاتور واطول حكماً في القارة الأوروبية. 

يبلغ سكان جمهورية بلاروسيا قرابة العشرة مليون نسمة وهي محاطة بخمس دول وهي روسيا، بولندا، ليثوينيا، أوكرانيا ولاتفيا. تتمتع بلاروسيا بعلاقات مميزة مع جارتها الكبيرة روسيا ولم تبدي الرغبة في الانتساب للاتحاد الأوروبي كما فعلت رصيفاتها من دول شرق أوروبا. 

لقد بدأت احتجاجات شعب بيلاروسيا بقوة هذت عرش الدكتاتور وأوهمت المحللين ببزوغ دولة ديموقراطية جديدة في أوروبا. ولكن ثورة بيلاروسيا لم تصمد أمام حنكة لوكاشنكو، أب الأمة كما يحلو للدكتاتور أن يلقب نفسه. صحيح أن الثورة عملية قد تطول وليست حدثاً تكتمل بعد هنيهة من اندلاعها وما زالت المظاهرات المتفرقة مستمرة حتى لحظة كتابة هذا المقال، أي دون انقطاع لمدة أسبوعين كاملين. والذي لا شك فيه، ان شرارة الانطلاقة قد خمدت ومن الصعب استعادة جذوتها. لقد اجمع عدد غفير من المحللين ان مناخ الثورة قد ينعت وان النظام الحكم قد فارق شرعية وجوده فلماذا فشل المعارضون في تحقيق أهدافهم وسوف أحاول الإجابة على هذا السؤال في الفقرات القادمة.

صحيح ان لوكاشنكو قد فقد سنده الداخلي والخارجي في آن واحد.  أقام اقتصاد بلاده على النسق الاقتصادي القديم وخسر رهان التنافس ولم يبق له في جعبة الصادرات غير المقطورات الزراعية التي تذهب إلى روسيا. وتعقب ذلك مرض الكورونا وعصف بكل محاولات اصلاح اقتصاد بيلاروسيا وسياسة شراء الانصار. وانكشفت عورة لوكاشنكو وانعدام حصافته عندما نصح شعبه بشرب الفودكا كوقاية ضد وباء الكورونا الذي انتشر في البلاد.

اما الجبهة الخارجية، فلم تكن أفضل حالاً إذ ان الدبلوماسية ليست من طباع الطغاة. استعدي لوكاشنكو الاتحاد الأوروبي الذي ينتقد حكومة بيلاروسيا لعدم احترامها لحقوق الانسان والحريات العامة. أما روسيا، فقد ظلت تمد حبل الصدر لكي تبقي بيلاروسيا بعيدة عن حلف دول الاتحاد الأوروبي وليس أكثر من ذلك. ظهر هذا جلياً في قرار الحكومة الروسية انها مستعدة للتدخل وحماية بيلاروسيا ضد التدخل الأجنبي وليس لوقايتها من المتظاهرين. هذا ونضيف هنا حادثة تسلل عصابة مسلحة من روسيا الي بيلاروسيا تم اعتقالها بزعم ان افرادها اتو لزعزعة النظام وتخريب الانتخابات الأخيرة. تقول بعض القراءات ان لا علاقة للمسلحين بالحكومة الروسية وانهم مرتزقة في طريقهم الي دولة افريقية لم يتم تحديدها. على أي، فقد سممت هذه الحادثة العلاقة بين البلدين.   

لعل أكبر عائق لثورة بيلاروسيا هو عدم وجود أحزاب ومنظمات سياسية تهتدي بها المعارضة. وليس هناك إرث في مجال منظمات المجتمع المدني ايضاً. ففي طوال تاريخ بيلاروسيا الحديث، لم يسمح النظام إلا بالتنظيمات التي تكونت تحت كنف الحزب الحاكم وقد أدى فقدان الإرث التنظيمي لعجز المعارضة في بلورة بدائل للنظام الحاكم والاكتفاء بشعار التحول الديموقراطي دون أية تفاصيل. هذا يعني ان الثورة تقادمت في انعدام حاضنة سياسية ذات رؤي واضحة تحدد كيفية التحول وأهدافه.

استطاع لوكاشنكو البقاء في السلطة لربع قرن من الزمان عبر استراتيجية امنية تمنع نمو كوادر سياسية معادية للحكومة. بهذا المنحى، نجح الدكتاتور في التخلص من كل ذي ملكة قيادية بالسجن او الاغتيال او النفي خارج القطر. هذه حقيقة اكدتها الخيارات التي أتيحت للناخبين في الانتخابات الأخيرة حيث تنافست ثلاث نساء ضد لوكاشنكو وليس لأي منهن خبرة سياسية تذكر وقد ظن الدكتاتور، خاطئاً، ان مجتمعه غارق في الذكورية ولن يسمح لامرأة ان تفوز عليه. يجمع المحللون ان المنافسة تيكانوفسكايا هي الفائزة وربما بأكثر من ٨٠٪ من الأصوات. جاء هذا التقدير عبر أروع ابتكارات الثورة البيلاروسية حيث قام الناخبون بتصوير بطاقات الانتخاب قبل إيداعها في صندوق الاقتراع، ثم قاموا بإرسالها الى إحدى مواقعهم الالكترونية. تنبه النظام لهذه الخطة الذكية وسارعت بسحب التغطية الاثيرية ولكن بعد ان تسلم الموقع أكثر من ١.٢ مليون بطاقة من جملة ستة مليوناً ونيف وقد كان ذلك كافياً للوصول الى تقديرات موثوقة عن النتيجة الحقيقية للاقتراع.

تعكس لنا سيرة تيكانوفسكايا، والفائزة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن افتقار بيلاروسيا للقادة المؤهلين لمنصب رئاسة بلادهم. تيكانوفسكايا هي معلمة متقاعدة تصف نفسها كربة منزل ولا علاقة لها بالسياسة. ترشح زوجها لرئاسة الجمهورية ولكن تم ابعاده من المنافسة عقب ادانته وايداعه السجن في قضية يقال انها محبوكة من قبل النظام المهيمن على السلطة والذي لم يعترض على ترشيح تيكانوفسكايا في مكان زوجها الذي شغر بعد سجنه. ولم تمض على اعلان النتيجة الزائفة للانتخابات يوم واحد عندما غادرت تيكانوفسكايا بيلاروسيا الى ليثوينيا بحجة حماية اطفالها.  لقد عقب كثير من المحللين على قلة خبرتها في عالم السياسة عقب تصريحاتها في المهجر فقد قالت انها لا تود ان تحكم وانما تهدف الى اجراء انتخابات حرة ونزيهة. وفي مجال الاقتصاد، اعترفت انها لا تفهم الكثير فيه ولكنها تود الحفاظ على العلاقات التجارية من روسيا وان ثورة بلادها جاءت من اجل التحول الديموقراطي ودون عداء لروسيا او الاتحاد الأوروبي.

لقد شكل رحيل تيكانوفسكايا معضلة كبرى لثورة بيلاروسيا وكان الاجدى بها البقاء كبؤرة يلتف حولها الثوار. والاغرب من ذلك انها سارعت بتكوين جهاز تحت مسمى لجنة تنسيق المعارضة. نمت هذه اللجنة وجذبت أكثر من ١٠٠٠ عضواً ولكنها بحكم حجمها فسوف تظل عاجزه عن رسم خارطة طريق التحول الديموقراطي وهذا يعكس سوء تأهيل تيكانوفسكايا لقيادة الثورة.

من الصعب تحديد تأثير الوضع الاقتصادي على حراك وتطور ثورة بيلاروسيا. تقول النظريات ان الثورات تأتي عقب تدنى النمو الاقتصاد المضطرد وقد لا تنطبق هذه القراءة على بيلاروسيا والتي تفادت الازمات التي ضربت دول المنطقة

التي حررت اقتصادها في فترة وجيزة. لا شك ان التغيير الشامل هو من اهداف الثورة ولكن التركيبة الاقتصادية أصبحت عقبة امام التحول. احتفظت بيلاروسيا بالنظام الاشتراكي الذي ساد اقتصاد روسيا قبل تفكيك وحدتها ونتج عن ذلك سيطرة الحكومة شبه الكاملة على البلاد حيث ان ٨٠٪ من القوى العاملة تعتمد في معاشها على الشركات الحكومية. لهذا، فقد أصبحت الاضرابات العامة عديمة الجدوى في الثورة فهي لا تجذب أكثر من عشرات الآلاف في اليوم وليس هذا كافياً لإسقاط الحكومة.

تلعب مشاركة المعارضة في دول المهجر دوراً مهماً في نجاح الثورات الحديثة. لم تستطع ثورة بيلاروسيا استنفار بطانة المهجر بالفعالية المطلوبة. ظهر هذا جلياً في تمويل المتظاهرين لكي يبقوا في الميادين العامة والذي لم يتعدى توفير المياه الغازية. وظهر عجز مشاركة المهجر في ضعف وقلة المظاهرات المساندة للثورة في الدول الأخرى ايضاً.  ففي عام ١٩٨٩، انتظمت سلسلة بشرية في أوروبا الشرقية تنادي بتحريرها من روسيا وقد شارك في الحراك أكثر من مليون نسمة في ليثوينيا ولاتفيا واستونيا.  اما حصيلة بيلاروسيا، فلم تزد عن ٥٠،٠٠٠ وهي القوة التي اصطفت بين فيلنيوس، عاصمة ليثوينيا ومدينة ميدينينكا الواقعة على الحدود البيلاروسية. ونشير هنا ان ثوار بيلاروسيا يعتمدون على مواقع اسفيرية في دول المهجر، من ضمنها موقع “تلغراف” والذي اشتهر بتنظيم الاعتصامات وفضح أكاذيب جهاز اعلام النظام.

دعني اختم هذا المقال بعدم التعجل في وأد الثورة البيلاروسية فهي ما زالت نابضة وقد تستعر جذوتها في الأسابيع القادمة.  أردنا فقط ان نعكس للقارئ التحديات التي تواجه الثورة والظروف المحيطة باندلاعها. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق