ثقافة وفن

قصة أغنية

قصة حب تحولت لأغنية

لو بهمسة … الشاعر أسماعيل حسن والموسيقار محمد وردي

(الخرطوم – السودان)

لم تكن فتحية كغيرها من صبايا حي السجانة بالخرطوم، فقد كانت فاتنة الجمال سحرت بحسنها قلب الشاعر المرهف اسماعيل حسن وملكته.. عندها صاح يا ناس انا ود الحلة عاشق وحياة الله فظل يحبها وتحبه حتى تزوجا. لكن حائط الجيران تحول بعد الزواج إلى مكان للخلاف بين الأسرتين، فحدث الانفصال، وفشلت كل محاولات التواصل. كبر حائط الجيران في نفس اسماعيل وتحول إلى جدار سميك من اليأس. فشدّ الترحال إلى مصر لعل البعاد ينسيه أو يجد في السفر ما يخفف من لوعته.

صعد اسماعيل إلى سطح الباخرة. كان الكل نياما والهدوء يغط في جوف الباخرة، وسطحها إلا من صوت محرك الباخرة ضوء القمر يمسح على سطح الماء بكفين ذهبيتين بدت لإسماعيل أشجار النخيل على الشاطئين بعيدة داكنة طويلة مثل رموش فتحية الحبيبة البعيدة التي يراها بعين خياله الشاعر بعد انقطاع حبل الوصال. وعندما شارفت الباخرة الخروج عن حدود الوطن، شعر أنه يخرج من جاذبية الأرض والسماء.. جاذبية الحبيبة.. فأحس أنه على وشك الخروج الأبدي عن حياة محبوبته، فاعتصر الأسى قلبه واضطرب كيانه فأخذ يمشي ويدور على سطح الباخرة وهو يناجي المحبوبة.. لو كنتِ وصلتني بأي شيء.. لو أنكِ قلتِ لي كلمة واحدة.. لو أرسلت لي مجرد تحية عابرة.. لو أنكِ فعلتِ ذلك يا حبيبتي … لو.. وأخذت القصيدة تتدفق من أقصى أعماقه الملتهبة:

لو بهمسة لو ببسمة

قول أحبك

لو بنظرة نظرة حتى عابرة..

قول أحبك..

لو بتحلم في منامك

قول أحبك..

لو ترسّل لي سلامك

قول أحبك..

انتزع ورقة وقلما من جيبه وبدأ يسجل أبيات القصيدة على ضوء القمر، يجلس على الكرسي، يمد ساقيه ويطويهما ثم ينهض ويدور ويناجي محبوبته في ديارها البعيدة ليعود ليجلس ويسجل بحبر من الشجن:

كل كلمه من شفايفك أحلى غنوه

كل نظره من عيونك فيها سلوى

كل نسمه من ديارك فيها نجوى

كل همسة يا حبيبي عندي حلوة

ويتذكر تلك السنوات الطويلة والعمر الذي نذره في عشق حبيبته منذ أن كان يراها وهي تحجل في الحي أو في طريقها إلى المدرسة أنيقة حلوة في زيها المدرسي حتى كبرا وتزوجا

يا حبيبي عمري كلّو

كلّو أهديتو لحبك..

يا حبيبي انت عارف

والغرام يشهدبو ربك..

ذكر اسماعيل أن البدر كاملا مكتملا لكنه لم يكن يرى غير الظلام وهو يقول يا بدوري في الظلام والظلام يحجب لي دربك.

نظر إلى الماء وقد مازجه ضوء القمر، وإلى الظلال البعيدة، ويرفع رأسه لينظر إلى القمر فيتذكر وجه محبوبته القمحي المحجوب عنه فتتأجج في صدره نار اللوعة، فيجلس على كرسيه ويدوّن:

يا بدوري في الظلام

والظلام يحجب لي دربك..

ناري بُعدك والحنان والجنة قربك

والزهور الحلوة تتفتح في قلبك

انت عارف أنا يا روحي بحبك

في تلك الليلة يستبد الشجن بإسماعيل فيقطع سطح الباخرة من أوله إلى آخره جيئة وذهابا سجين اللوعة وسجين هذا السطح، والباخرة أيضا سجينة مجرى النهر وهي تنأى به رويدا رويدا بعيدا وكأنه في رحلة الفراق الأخير. فتمنى في تلك اللحظة أن تغيّر الباخرة اتجاهها جنوبا وتعود به من حيث أتى.. فالبعاد ليس فيه شفاء ليس فيه نسيان، فيه المزيد من النار والأسى واللوعة والشجن.. لكن هيهات أن تعود الباخرة. ساعتها بلغ به اليأس منتهاه فأخذ يتحسر ويصرح بخوفه على مصير تلك الأيام الحلوة التي قضياها معا وجزعه على مصيره ومصيرها

خوفي منك

خوفي تنساني وتنساها الليالي

يا حبيبي أنا خايف

ياما بعدك أنسى حالي

أبقى تايه والغرام يصبح حكاية

والأماني الحلوة دي الكانت بداية

تبقى أشواك في طريقي في النهاية

عند ذلك المقطع يتوقف اسماعيل عن الكتابة ويندهش من الراحة التي بدأت تراود روحه.. لقد اكتمل ميلاد القصيدة. فوقف على سطح الباخرة واتجه ناحية الجنوب وأخذ يتلو قصيدة “لو بهمسه” ويرسلها عبر الأثير إلى تلك الحبيبة البعيدة في حي السجانة. ثم هبط درج الباخرة مسرعا إلى رفيق الرحلة الفنان محمد وردي. وفي تؤدة أخذ يتلو عليه القصيدة ويردد له مقاطعها حتى استوعبتها روح وردي الشفافة. في ذلك الزمن الأخضر كان محمد وردي شابا نحيلا طويل القامة وقد حباه الله بصوت رخيم قوي يضج بمفردات النيل والنخيل والشجن وسحر جمال الإنسان والطبيعة الخلاّبة في بلادي. وعندما بدأ وردي يستنبط موسيقى القصيدة ويدندن بعميق مشاعرها، نام اسماعيل كطفل. وفي اليوم الثاني كان محمد وردى قد انتهى من وضع الموسيقى فما أروعه من لحن وما اروعها من موسيقى. انتهت الرحلة وعاد اسماعيل وعادت المياه إلى مجاريها وعادت فتحية وعاد الحب قويا عاصفا كما كان كأن لم تمسّسه نار لوعة الفراق وأشجانه. الرحمة والمغفرة للراحلين ولكل مبدعي الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق