ثقافة وفنلوحات المدائن

الطوفان

للفنان الفرنسي جوزيف ديزيريه

د. محمد بدوي مصطفى

هذا العمل هو من أرقى ما رسمت ريشة الفنان الفرنسي جوزيف ديزيريه ويقال إنها استقاها من سفر التكوين، الذي يبدأ في البدء خلق الله الأرض والسماوات (بالعبري: بيريشيت برى إلوهيم هأرض وشميّم). تعكس اللوحة صورة رجل أبيض الجسم ربعة القامة، قوي الجأش، مفتول العضلات ويتبدّى وجهه أسودا وقد اختفت خلف ذلكم السواد ملامحه تماما. نجده في غمرته هذه يجتهد لينقذ شيخا هرما ملتحيا يكاد كل جسمه يغرق في غياهب اليم وبينما هو في دأبه ذاك يعمهُ، ترك ابنه وزوجته لقضاء الرّب وقدره ولم يعرهما أي نظرة. يبدو هذا العمل من أول وهلة صادما، جارحا ومؤلما، بيد أنّه يعكس صورة تاريخية صادقة فاضحة ومزرية لحال أوروبا قبل عصر التنوير وفي غضون حقبة النهضة التي غيرت موازين الحياة بها رأسا على عقب. بينما يمثّل الرجل العجوز زمن الماضي واللحيّة التراث، يُملي اللون الأحمر ويرمز لمقام الشيخ وقدسيته بين رَبعِه ومِلَّتِهِ، حينما يرمز الطفل (الابن الصغير) ويمثّل المستقبل؛ والزوجة هي دون أدنى شك رمز للحياة وروح الخليقة ونفس المحبة والسلام. في هذا السياق نجد أن هذين الأخيرين هما أقرب في قسماتهما ومكانتهما باللوحة من الرّسام في المكان والزمان. لذلك فإنه من الأجدر فطيريا أن ينقذ الأخف وزنا والأجدر حياة – إن صح التعبير – فضلا عن صلة القرابة الوثيقة بينهم. لكن بطل اللوحة يظهر عزيمته القويّة وأن يفعل كل ما بوسعه – كما توحي اللوحة – لإنقاذ الشيخ الغريب وأن ينجي القدسية من الهلاك! ربما هناك رمزية في سمنطيقية اللوحة والتي توحي بأن الإنسان بفطرته عموما شديد التمسك بمعتقداته وما شبّ عليه من موروثات حتى ولو كانت غاشية، غثّة أو خاطئة. وهذا يقودنا إلى حال أمتنا التي تتشبث بماضيها أكثر من انشغالها بحاضرها فضلا عن مستقبلها. وهناك تساؤلات عديدة تطرح نفسها في إطار اللوحة مجازا: لماذا يمثل ديزيريه لرأس الرجل باللون الأسود، ألأنّه يدل على الجهل والتفكير الظلاميّ؟ أم لعلّة أخرى؟

على كل فنحن نرى قسمات الشيخ تتخللها علامات الهرم المتقدم وتوحي بأن أجله قاب قوسين أو أدنى من النهاية بينما تتبدّى حواء بجسدها البض نضرة تملؤها الحيوية ملأ، والطفل كذلك، خصب، رطب، والأثنان يتفتقا كورود يانعة في فصل الربيع.

نستخلص من اللوحة أن المقدسات سيطرت على حيواتنا ولا زالت وحتى لو كانت النتيجة هو الدمار أو الغرق التام وإن عواطف الأمّة واعتقادها السائد تتحكم فيه التقاليد حتى ولو كانت بالية مهترئة لا تسمن ولا تغني من جوع. فدعونا نشارك في المنظومة الإنسانية بفكرنا ووعينا وعملنا حتى نلحق بركب الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق