
التصوف بين الدروشة والتثوير
بقلم الدكتور جلال الدين الشيخ زيادة
مقدمة الطبعة الرابعة
القارئ لكتاب (التصوف بين الدروشة والتثوير) يجد نفسه منجذباً بشغف لمتابعة القراءة، بفضل سلاسة الأسلوب وسحر الكلمات التي تكشف عن كاتب عميق الثقافة، مُشبَّع بعوالم صوفية ساحرة، وربما يعود ذلك إلى نشأة هذا الكاتب، صاحب زاوية (خط الاستواء) بصحف الخرطوم، في منطقة (دنقلا العجوز) بكل عمقها التاريخي كأقدم عاصمة في وادي النيل، فقد ترعرع هناك، مستظلاً بقباب تلك المدينة القديمة، وبعبق أضرحة أولياءها الصالحين، وهم كبار القادة الروحيين للسلطنة الزرقاء.
يعد هذا الكتاب مرجعاً مهماً جداً في تفسير التاريخ الاجتماعي للمجتمع السوداني، فالكاتب يتصدى بعمق لتفسير وتحليل ونقد كتاب (طبقات ود ضيف الله) باعتباره المصدر الوطني الوحيد عن تاريخ سلطنة سنار، كما أنه يتجاوز ذلك بتتبع ظاهرة التصوف وتحولاتها، بين الدروشة والتثوير، منذ القرن السادس عشر الميلادي، الى بداية الألفية الثالثة، ليطرح أمام الأجيال الجديدة قضايا التحديث والتنمية وعلاقة الدين بالدولة.
نجح الكاتب عبدالله الشيخ في نقل القارئ إلى مناخات سحرية غارقة في الأسطرة وعوالَم الدروشة والكرامات، ذلك في محاولات تفكيكه لما هو مدوَّن عن أبطال تلك المرحلة، منهم الشيخ فرح ودتكتوك، حكيم السلطنة الزرقاء، والشيخ إسماعيل صاحب الربابة،، وهذا الأخير برعَ الكاتب في استنباط معانٍ تاريخية من (شطحاته) فكشف لنا بذلك عن مضامين فريدة لثقافة الحقبة السنارية، واستجلي الكاتب ملامح غامضة في الطقوس والغارات وغزل الشيوخ، كما استنيط من اللغة الدارجة للحكائين والمادحين والشعراء،، معانٍ تجعل القارئ يطل على تلك الحقبة ويتعرف على طبيعة الحياة الاجتماعية.
ينطلق الكاتب في دراسته للتصوف، من فرضية تقول ان التصوف هو (الوعاء التاريخي للسياسة السودانية، وأنه المنبع الذي نهلت منه قوى التطور الوطني رؤاها في تنظيم المجتمع وبناء الدولة). وهو بهذا يعلن انحيازه للتصوف، كونه أقوى المؤثرات الكامنة في الوعي العام، وفي تكوين الشخصية السودانية.
وبحكم إيمان الكاتب بالروحانيات وعالم الغيب، يتصدى لنقد المنهج المادي التاريخي في تحليل التاريخ، وفي نقد الظاهرة الصوفية ودورها في التطور الوطني، وينفي في هذا السياق وجود علاقات انتاج اقطاعية لملكية الأرض في العهد السناري، مؤكداً أن الأرض كانت أشبه بالمزارع الجماعية المملوكة على الشيوع في مجتمع (أُخوَّة الطريق).. مع ذلك فهو ينتقد منطق الدروشة – أي التصوف العفوي – الذي احاله التطور إلى تراث بعد أن كان أُفقاً اخضرا، ويقر بأن سيناريو الماضي لا يصلح للحاضر، إذ (لا يصلح العطّار ما أفسده الدهر) على حد تعبيره، ويضيف إلى ذلك قوله إن باب التطرُّق قد آذن بانغلاق، وألا طريق في الغد إلا طريق محمد.. هنا تستغرق الكاتب أطروحات التصوف العقلي المستنير، دون أن يسترسل في استغراقه ذاك.
يستخدم الباحث منهج النقد الثقافي لتفسير بعض الغرائبيات وخوارق العادات، باستكشاف دوافعها النفسية الاجتماعية، كما يستخدم المنهج العلمي التاريخي لتتبع الظاهرة الصوفية عبر الحِقب، من الدروشة في العهد السناري، إلى التثوير في العهد المهدوي، إلى التديُّن تحت كنف السلطة في العهد الثنائي، حتى انبثاق الأحزاب السياسية السودانية من الرحِم التقليدي.
يقدم الكاتب نقدا عميقا لكل مرحلة وصولاً لحقبة ما بعد استقلال السودان 1956 حتى مجيئ (الإنقاذ) التي حكمت البلاد باسم الدين مدعية أنها امتداد للدولة السنارية وللتجربة المهدوية.
ويمكن تلخيص أبرز الأفكار في كتاب التصوُّف للصحفي عبد الله الشيخ على النحو الآتي:
أولاً: أبرز الكاتب دور الحركة الصوفية السودانية في تحديث ونقل الدولة السودانية من القبلية إلى السلطنة، حيث شذّبت (أُخوَّة الطريق) غلواء العصبية القبلية وتخلّقت من مفاهيم التصوف قيم جديدة شكلت اضافة ايجابية للتماسك المجتمعي.
ثانياً: مازجت التجربة السودانية بين الفِكر الصوفي والمذهبية الفقهية.
ثالثاً: تراوحت العلاقة بين الدين والدولة في محيط الجمع بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية لبعض رموز دولة الفونج حتى المهدية، وبين السلطة الزمنية الوراثية المطلقة في أواخر العهد السناري حتى سقوط سنار بالغزو التركي في العالم 1821.
رابعاً: يرصد الكتاب عملية التلاقح والتمازج الثقافي خلال العهد السناري ليخلص إلى نتيجة تتمثل في بروز (الهوية السودانوية) كنتيجة للتفاعل الثقافي بين الوترين العربي الافريقي – النوبي.
خامساً: ينتقد تجربة المهدية في تثوير البيئة الصوفية بإلغائها المذاهب الفقهية وحُكم السودان بالمنشور المهدوي، ويقرر أن (ادمان المهدية لشرعيتها الثورية) أحال التجربة التي كانت تمني الناس بالعدل، إلى تناحر داخلي عسف بالناس وتورّط نافِذوه في تصفية الحسابات القبلية والشخصية، فتضعضع الإيمان لدى جيلها المهزوم بفعل الفشل المريع الذي حاق بالثورة في مرحلة الدولة، فعادت بانحدار عاصف لتنهل من المعين السلفي الذي بشرت بالتحرر منه عن طريق الاجتهاد. وفي هذا الصدد يطرق الكاتب على أن المهدي أعلن عن فتح باب الاجتهاد لذاته، ثم أوصده في وجوه الآخرين.
سادساً: يقرر الباحث الاستاذ عبد الله الشيخ، أن الشريعة الإسلامية بمصادرها المعروفة، لم تُطبَّق في السودان، لا في السلطنة الزرقاء، لا في المهدية، ولا في عهد سيطرة الاخوان المسلمون على السلطة لثلاث عقود، كاشفاً بالوثائق تناقضات نظام الإنقاذ الاخواني وايغاله في العنف ومتاجرته بالمفدَّس واستغلاله للعاطفة الدينية من أجل الاستحواذ على السلطة والمال.
وعطفاً على ما سبق، هناك ملاحظات لابد من إيرادها، لعل الكاتب يتجه في طبعة أخرى للكتاب إلى مزيد من التقصي وتحديد موقف بشأنها، إذ هناك مفارقة بين موقفين: فالكاتب يعبر عن عن انحياز واضح للدولة المدنية التي تحمي المعتقدات دون تسييس أو انحياز لدين بعينه، كما أنه يشكك في التزام قيادة حزب الامة بموقفها المعلن لصالح الدولة المدنية، حيث ينفي الحزب في وثائق مؤتمره السادس، ينفي وجود نموذج لحكم دولة دينية في الاسلام،، وكذا يقول الكاتب أن جميع الأحزاب السياسية السودانية، بما فيها الحزب الشيوعي لا تتبنى فكرة إقصاء الدين عن الحياة،، هنا ينهض سؤال يحتاج إجابة من الكاتب حول أهمية التمييز بين الدولة المدنية، والدولة المدنية الديمقراطية.
ملاحظة أخرى، ففي سياق دفاعه عن قناعاته الصوفية يطل الكاتب على اجتهادات الشهيد محمود محمد طه في تأويل النص ودعوته بالعودة إلى آيات الأُصول في القران الكريم، لتجاوز قصور الشريعة عن مواكبة مسار البشرية نحو الاشتراكية والديمقراطية والحرية الفردية المطلقة.. وهنا نتساءل: ما العاصم ألا تقود الفكرة الجمهورية إلي دولة دينية من نوع آخر، لأن الفكر الجمهوري في نهاية الأمر هو فكر ديني سياسي؟
ويتصدى عبد الله الشيخ في كتابه هذا لمفكرين علمانيين يقولون بأن الصوفية – وفق أسس المنهج المادي التاريخي – لم تعبر عن الوعي الاجتماعي في السودان، وأن اهتمام السودانيين بالتصوف اقتصرَ على الجوانب العملية دون النظرية، بالتالي لم تشهد البلاد مولِد نظريات أو فلسفة صوفية، والصحيح من وجهة نظره، أن فكر الأستاذ محمود تضمن بعدا نظريا وعملياً واجتهادا جديداً من داخل النص القرآني..
يتبدى تناقض آخر، عندما يعلن الكاتب قناعته بنهاية عهد التصوف العفوي – الدروشة – ليقدم بديلاً غيبياً آخر يتمثل في تجربة المخلِّص او الأصيل الوحيد – الأستاذ محمود – وهي تجربة انتهت باستشهاده وتشتت تلاميذه، مثلما انهارت فكرة الإمام الغائب والمهدي المنتظر بعد معركة كرري أمام صدمة الحداثة والفكر العلمي التجريبي… هنا يُلاحظ تخبط الكاتب بين المنهج العلمي الموضوعي والمثالي التجريدي، وهذا يتعارض مع اعلانه الإيمان بالدولة المدنية التي تفصل بين الدين والدولة وتتبنى الفكر التنويري القائم على العلم والحداثة…
كل هذا النقد لا يقلل من قيمة هذا السفر المهم جداً في التاريخ الاجتماعي والثقافي لشعب السودان، فهذا الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة السودانية ويُعَد مرجعا مهماً للباحثين في علم الانثربلوجي وجدلية الدين والدولة في السودان المعاصر. ولعل أول من تنبه لجرأة الكاتب في نقد دولة الإسلام السياسي هم الاخوان المسلمون، الذين منعوا طباعة ونشر هذا الكتاب خلال سنوات حكمهم الاخيرة، فخرجت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار (ضفاف) العراقية في العام 2013، ثم رُفعت الطبعة الثانية على متجر (أمازون ) بالولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتسنى طبع ونشر هذا النص داخل السودان، إلا بعد نجاح الثورة الشعبية في الإطاحة بنظام البشير.