
محمد المنتصر حديد السراج
بمناسبة حمى التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، نقرأ هذه المناظرة التاريخية التي دارت بين (ياكوف هرتزوج) سفير إسرائيل في كندا والأستاذ الفيلسوف (أرنولد توينبى)، في موضوع العلاقات العربية الإسرائيلية، وذلك في قاعة هيلل بمونتريال في كندا، يوم الثلاثاء 31 يناير 1961، وقد نشرتها مترجمة مطبعة أطلس في مصر في ذات العام.
ومن المعروف أن الفيلسوف أرنولد توينبي هو صاحب نظرية (التحدي والاستجابة) في التاريخ والفعل الحضاري.
تفاصيل المناظرة تقول…وقد بدأها رئيس الجلسة…:
سيدي الحاخام المبجل، حضرات الزوار الكرام، سيداتي وسادتي: في يوم الأربعاء الماضي، كان من حظنا أن نرحب بالبروفسور أرنولد توينبي في مؤسسة البئناى بئريث في جامعة ماكجيل، بصفته محاضرا زائرا، وأن نستمع لمناقشة صريحة ودية قامت على أساس أسئلة تقدم بها اليه الطلبة. وقد أكدنا في إعرابنا عن تقديرنا للدكتور توينبى عما تجلى في تلك المناسبة من ود وحماس وما اتسمت به البيانات التي ذكرت من إثارة الاهتمام. وقد كان لتلك المناسبة صدى خارج حدود هذه القاعات وأثار أنواعا من التحدي بلغت ذروتها إذ جمعنا بين سفير إسرائيل مستر ياكوف هرتزوج ودكتور أرنولد توينبى المؤرخ والفيلسوف اللامع على نفس المنبر وأمام نفس الجمهور السابق وذلك بمناقشة هذه الأمور.
* هرتزوج:
أحب أولا أن أوضح أنى هنا بصفتي الشخصية لا بصفتي الرسمية، والواقع أنى طوال الثمان والأربعين ساعة الماضية منذ أن وافق بروفسور توينبى على هذه المناظرة وأنا بعيد عن مشاغلي الرسمية مرتادا آمادا من الزمان وأبعادا من المكان عبر بضعة آلاف من سني التاريخ، محاولا الاستنباط من المدنيات والحفريات.
في هذه القاعة في الأسبوع الماضي، ذكرت مشابهة وعملت مقارنة، واستعملت وأثيرت كلمة تحوي مفهوما، تلك هي كلمة (أخلاق)، كلمة ذات مغزى كبير، يمس مصير الأفراد والأمم الأعضاء بالمجتمع الدولي، وقد استخدم هذه الكلمة البروفسور توينبى في نطاق أوسع مدى هو نطاق التاريخ وحسب ما بالتاريخ من ترابط وما له من هدف روحي.
إني أتفق تماما مع البروفسور توينبى في عبارة ذكرها ونقلتها عنه الصحف منذ حوالي أسبوع فيما أظن وذلك فيما يتعلق بطبيعة الأزمة العالمية في الوقت الراهن، فالجميع يوافقون اليوم على أن هذه الأزمة تفتقر الى تعريف واف. والرجل العادي، شأنه في ذلك شأن الرجل السياسي يدرك أن البشرية تمسك بيدها أساسا إما أن تقضى على نفسها أو تنقذها، وإما أن يكون لها إدراك جديد لما يهدف إليه التاريخ وإما أن تنساه، كما يدرك الجميع أن مواجهة هذه الورطة البشرية لا تكون إلا بقفزة الى الأمام يقفزها الوعي الروحي لبنى الإنسان.
وفي محاولة الوصول الى ما نرجوه من مدنية في عصرنا هذا– أنا أستخدم نفس العبارة التي استخدمها الأستاذ توينبى–في محاولة الوصول الى ما نرجوه من قدسية أن تكون هذه القفزة الى الأمام نتيجة وجود شعور أعمق بما هى (الأخلاق). وقد قارن الأستاذ في الأسبوع الماضي أمام هذا الجمع، حسب ما جاء في صحف مونتريال، بين موقف إسرائيل من العرب في عامي 1947 و1948، من الناحية الأخلاقية، وبين قتل النازيين لستة مليون يهودي. ولى كلمة أقولها عن هذه المقارنة.
يجب أن أقول أولا أن الأستاذ قد أوضح أنه لا يقارن بين الواقعتين من الناحية الإحصائية ولكنه أكد، كما جاء في بعض الصحف، أن المقارنة بينهما جائزة. وقد ذكر توينبى ثانيا حسب ما جاء بالصحف أنه ليس لليهود حق تاريخي في إسرائيل.
والآن فيما يختص بناحية من نواحي هذه المقارنة أحب أن أقول إن محكمة نورنمبيرج الدولية تبينت أنه في صيف 1941 أعدت مخططا للحل النهائي للمسألة اليهودية. وهذا الحل النهائي كما نعلم ذلك أكثر من مليون طفل في ظروف لا مثيل لقسوتها. إنها جريمة لا تزال مخيلة البشرية عاجزة عن الإحاطة بها. وفي عبارة التوراة: (إن الأرض لا تستطيع أن تغطى الدم الذي غمرها). لقد كانت هناك خطط مبيتة ومتعمدة، وكانت هناك مسؤولية حكومية، وكان هناك إعدام بلغ ضحاياه ستة ملايين، نتج عن ذلك إبادة ثلث الشعب اليهودي والقضاء على المراكز الكبرى لدينه وفكره وثقافته وحركته الوطنية. وقد ندد البروفسور توينبى نفسه بهذه الجريمة في عبارات قوية. والحق أن بنى البشر سوف يتأملون أبد الآبدين مغزى هذا المشهد الذي لم يسبق له مثيل. مشهد قسوة الإنسان على الإنسان. أما بالنسبة لقومي، فإن حدادنا لا نهاية له فهو حداد سيبقى مدى الدهر.
دعونا الآن نتناول الناحية الأخرى من المقارنة ففي 1947 اتخذ أكثر من ثلثي أعضاء الأمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين الى دولتين منفصلتين إحداهما يهودية والأخرى عربية. وأعلن ممثلو العرب وقتذاك أنهم سيقاومون القرار. وخلال أيام بدأ هجوم مسلح على الجالية اليهودية في فلسطين. وقد كتب (تريجفي لي) الذي كان اذاك سكرتيرا عاما للأمم المتحدة عن هذه الفترة في كتابه (قضية السلام) بصفحة 163 يقول: منذ الأسبوع الأول من ديسمبر 1947 بدأ الاضطراب في فلسطين يتزايد. وأكد العرب مرارا أنهم سيقاومون التقسيم بالقوة. وبدا أنهم قد حزموا أمرهم على تحقيق هذا بشن هجمات على الجالية اليهودية في فلسطين… وفي 21 يناير 1948 أبلغ مندوب بريطانيا في الأمم المتحدة، سير ألكسندر كادوجان، مجلس الأمن أنه بالنسبة لعرب فلسطين. أصبح القتل الآن فوق كل اعتبار آخر…وفي 16 فبراير 1948 أبلغت لجنة الأمم المتحدة لفلسطين مجلس الأمن أن…مصالح عربية قوية، داخل فلسطين وخارجها، تتحدى قرار الجمعية العامة وتبذل جهدا متعمدا لتغيير التسوية المرتقبة بطريق القوة…وفي أبريل 1948 أشارت اللجنة مرة أخرى الى التهديدات وأعمال العنف المستمرة، وبانتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو قامت الجيوش العربية بالغزو وأبلغت الأمم المتحدة أن تدخلها في فلسطين يستهدف إقامة الحق والنظام مكان الفوضى والاضطراب. وسرعان ما حدد الأمين العام للجامعة العربية، عبد الرحمن عزام باشا، معنى هذا الحق والنظام فقال طبقا لإذاعة محطة لندن في 15 مايو 1948 ما نصه (سيشهد العالم الآن حرب إبادة ومذابح مريعة سيتحدث عنها التاريخ كما تحدث عن مذابح المغول والصليبيين).
كانت هناك حرب قاسى منها الطرفان وقتل فيها عسكريون ومدنيون. وعن طريق هذه الحرب اجتثت أعداد وفيرة من عرب فلسطين. كما اجتثت جاليات يهودية كبيرة في سائر أرجاء الشرق الأوسط، وتحمل الطرفان آلاما جمة. وغادرت البلاد أعداد كبيرة من العرب بقصد العودة اليها في أعقاب القوات المظفرة. ولك تقم هيئة دولية بتحديد المسؤولية في مشكلة اللاجئين. أما نحن فنقول مستندين الى مصادر عربية وغير عربية بما في ذلك المصادر البريطانية. أن مشكلة اللاجئين كانت نتيجة الحرب التي أعلنها العرب ونتيجة نداء وجهه زعماء العرب الى قومهم بمغادرة البلاد على أن يعودوا اليها. وقد جاء في صحيفة عربية تصدر في الأردن ما نصه:( لقد قالوا لنا اخرجوا حتى نستطيع الدخول. فخرجنا ولم يدخلوا).
(يتبع)