ثقافة وفن

حوار مع الروائي المغربي الدكتور عبد الإله بن عرفة (3)

أجرى الحوار: د. عبد السلام طويل *

> على أهمية هذا العمل التأسيسي في جانب الترجمة وما له من أهمية أنثروبولوجية أساسية، إلا أنني أقصد ترجمة الأعمال التي تسعفنا في معالجة إشكالية التأخر التاريخي…

< أنا فهمتك أستاذ، طبعا هذا لا يغني عن أن يكون هناك مشروع وطني في كل دولة من العالم الإسلامي خاص بالترجمة، مشروع وطني للترجمة. لأن هناك أولويات، والعالم الإسلامي، أنت تعرف. هناك تنوع ثقافي، وهذا التنوع لا يجب تنميطه، ولهذا هناك أولويات في الترجمة، بالنسبة لكل منطقة، أولويات حضارية أو ثقافية أو… نحن تحدثنا الآن في المجال الديني مثلا، نحن عندنا أولويات، وعندنا مرجعيات خاصة ليست هي نفس المرجعيات في رقعة أخرى. أنت طبعا تتحدث عن الكتب وعن العلوم المؤسسة..

وهذا أمر استراتيجي ينبغي أن يترافق مع ما ذكرناه، فالعملية متكاملة… لكن لا تنس أن مشاريع الإرهاب تنشأ من انعدام المرجعية الثقافيةوالدينية الوسطية، والمغرب، ولله الحمد له حضور في إفريقيا وتأثير، وسياسته الإنمائية لها هذا البعد الديني الأساسي، فيجب تطوير هذه المشروع من أجل تنمية إفريقيا دون خلفيات الاستعمار الاستغلالية.

> العلوم المؤسسة كالطب، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والعلوم الاجتماعية. ولكل دولة أن تترجم الأمور التي ترتبط بهويتها وبخصوصيتها، لكن المشترك! مثلا في علم الاجتماع؛ في الفلسفة، في الطب، في الهندسة، في الرياضيات، في التكنولوجيا.. ليس هناك اختلاف، كي توحد الجهود.

< هذا مفهوم سيدي الأستاذ الفاضل، فهمت سؤالك، لا شك في ذلك، ونحن نحتاج إلى هذا الجهد، هو طبعا يحتاج إلى أموال وإمكانيات جد ضخمة.

> ولكن الإمكانات المالية موجودة. خاصة وأن توظيف الأموال في البحث العلمي يعد استثماراً لا يقدر عائده الاقتصادي والحضاري بثمن.

< هناك مشاريع الآن، هناك مشاريع بدأت وهناك كذلك مشاريع رديفة للجامعات المفتوحة، للجامعة الافتراضية المفتوحة. هناك دروس، مثلا الآن، لكبار العلماء عبر العالم وتترجم، وموجودة حتى بالعربية، موجودة، مثلا أنت ليست لديك إمكانية كي تحضر درسا لأستاذ فائز بجائزة نوبل، أستاذ في الفيزياء النووية أو غير ذلك، فهناك اتفاق مع الجامعات العالمية، وتمت ترجمت بعض هذه الدروس إلى اللغة العربية، فهي متاحة إلكترونيا، فيمكن لأي طالب في أقصى نقطة أن يستفيد من هذه الدروس، وهذا شيء إيجابي في تكافؤ الفرص، وهذه المبادرات النوعية مهمة، مهمة للغاية ويجب التعريف بها والإخبار بها حتى يستفيد منها أكبر عدد.

لكن نحن متفقون في الجملة على ما تفضلت به من أن هذا المشروع هو مشروع كبير، ويجب أن تتضافر جميع الجهود، جهود الأمة ومقدراتها لخدمة هذا المشروع، ولإتاحة كل المعارف والعلوم، ليس فقط باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، وإنما بالصينية والهندية… لأن العلم يتطور ولا يقف، والعلم يدور، والدوائر العلمية تدور من منطقة إلى منطقة، فهذه التراكمات نحتاج إليها بقدر ما نركز على تعلم اللغة العربية والتمكين لها بقدر ما ندعو إلى تعلم هذه اللغات والانفتاح عليها وعدم الانحصار في لغة بعينها.

> السي عبد الإله سوف أنتقل بكم مباشرة إلى تجربتكم الروائية وهي تجربة متألقة. فمع أنه لم تتح لي الفرصة لقراءة المتن الروائي كله، إلا أن هذا يمثل طموحا وتطلعا سوف أسعى لتحقيقه، إن شاء الله تعالى، لكن قرأت بعض النصوص، طبعا أسستم ما اصطلحتم عليه “الأدب الجديد”، في أكثر من سياق، وقد تتبعت نشاطكم، انطلاقا من مشروعكم السردي العرفاني ذي المرجعية القرآنية، بناء على مفهوم مختلف للأداب، دائما فكرة الاختلاف، أساسية في خطابكم، وهذا بعد أساسي؛ فليس هناك إبداع بدون اختلاف، بدون تميز وبدون فرادة، تتجلى مقاصده المعرفية في إنتاج أدب معرفي، لا يكتفي بتحقيق تحول في وجدان القارئ، على غرار المفهوم المتعارف عليه؛ المتعة، التوازن النفسي، الإشباع، وإنما يطمح للتأثير في معرفته وسلوكه، نتحدث هنا، إذا أردنا أن نستحضر التفسير الماركسي عن الانتقال من الفهم والتفسير إلى التغيير.

< نعم العلم والعمل.

> نعم، كما دعوتم إلى تأسيس مشروع روائي حضاري انطلاقا من تراثنا وذاكرتنا وحضارتنا. طبعا أنا لن أعود بكم إلى إشكالية علاقة الأدب بالإيديولوجيا، أبدا، فقد استوعبت بشكل واضح ما تقصدون إليه، ولكن أود أن تبسطوا القول، ولو قليلا، حول هذه المسألة؛ مسألة الأدب الجديد، عنصر الجدة، لأن هذه تهم المتابع لإنتاجكم الروائي، عنصر الجدة من خلال تجربتكم الإبداعية الخاصة، ثم مفهومكم للعرفان، لأنني لمست أن هناك بصمة خاصة في تأويلكم وقراءتكم للعرفان، وتمييزها عن التصوف على وجه الإجمال. ثم في المستوى الثالث، هذا المشروع الروائي الحضاري. ما هي أهم أبعاده ودلالاته إلى غير ذلك؟

< أولا شكرا على هذا السؤال المركب الذي يحتاج إلى بعض البسط.

أولا هذا المشروع الذي أسسته أصبحت له الآن هوية؛ له اسم وله عنوان، والناس تعرفه طبعا.

> وأجريت حوله قراءات..

< والناس تشتغل عليه، هناك أطاريح في الشرق وفي الغرب، المهم أن الناس تشتغل عليه الأهم أنه جدد في الحياة الأدبية وفي المتن السردي العربي هناك اهتمام كبير به في الجامعات، بل إن بعض الجامعات قد تخصصت في رواية معينة، وأصبح كثير من الطلبة ينجزون حولها أبحاثهم ورسائلهم الجامعية، لأن الناس متعطشة إلى المشاريع، الأدب اليوم، صورة الأدب كما نراها، هو أنها جزر عائمة ومتشظية وأرخبيل لا علاقة لهذه الجزر مع بعضها، لأن المشاريع غير موجودة هذه الجزر الأدبية لن تصنع لن يصنعوا الأدب والتراكم الأدبي المطلوب إذا لم تتجمع ويتم البناء عليها، ومن مظاهر الجدة أن نبني مشاريع أدبية لتكوين رصيد أدبي ورأسمال ثقافي أدبي.

منبثق عن رؤية.

رؤية ناظمة، أنا حينما أكتب رواية لا أكتب رواية منفصلة عن باقي الروايات، يمكن أن تُقرأ كرواية منفصلة عن باقي الروايات، لا شك في ذلك، لكن هي تنتظم كلبنة من لبنات بناء هذا المشروع، وبالتالي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى، والدليل على ذلك وهو دليل، ربما قد لا يكون مهما بالنسبة للمجال الفكري، ولكنه مؤشر؛ أصحاب المكتبات يقولون لي في كل مكان، بأن أي قارئ لهذه الأعمال حينما يقرأ أول عمل يعود، بعد ذلك، ليأخذ السلسلة، فهم يبيعون السلسلة ولا يبيعون روايات منفردة..

> استوعبوا المقصد استوعبوا أنها تشكل بنية.

< نعم فهموا المقصد، وأن الروايات مرتبطة مع بعضها، وأنها متكاملة مع بعضها، وأن هذه تشكل مشروعا، عادة لدينا الثلاثيات، كأقصى ما يمكن إنجازه في أي رواية موجودة الآن. أما أن يكون هناك مشروع يتضمن أكثر من أربعة عشرة رواية، فهذا، وهذا شيء غير مسبوق وطنيا، أو عربيا أو دوليا، هذا شيء مهم جدا.

> ما علاقة هذا بالتاريخ العربي الإسلامي؟

العلاقة سألخصها لك بشكل موجز: أنا تأملت في هذه الحروف المقطعة..

< تقصدون فواتح السور القرآنية.

نعم، فواتح نورانية، فوجدتها بإزالة المكرر أربعة عشر حرفا، ورأيت لما عاينت هذا التاريخ العربي الإسلامي أنه ممتد لأربعة عشر قرنا، فلمعت في ذهني مباشرة أن هذه القرون يمكن أن تقرأ بهذه الفواتح، وأن كل فاتحة هي مدخل لقرن من القرون، وعنوان عليه، ثم استخلصت من هذا القرن مظهرا من مظاهر النبوغ والذكاء والمعرفة والفكر والروحانية، جعلته عنوانا لهذه الفاتحة، لا لأنه استوعبها بالعكس؛ القول أسبق من اللسان؛ (الرحمان. علَّمَ القُرآن) (الرحمان: 1-2). فالكلمة القرآنية هي الأساس، والوجود الإنساني تابع، وهو تجلي ومظهر من مظاهر هذه الكلمة القرآنية عبر هذه الفاتحة النورانية، فبالتالي أصبح لدينا هذا المشروع، والشخصية، مفهوم الشخصية الروائية، أنت تعرف بأن مسألة الشخصية وهذا نقاش كبير، أيهما أسبق؟ حينما تريد أن تكتب رواية، هل تبدأ بالحبكة وتضع تصميما أم تبدأ باختيار الشخصية؟ هذا نقاش لن ندخل فيه الآن، فهذا خلاف تقني، لكن أنا تصوري للشخصية مختلف تماما عن التصور المدرسي، لأنني لا أعتبر بأنني حينما أكتب عن الجنيد أو عن ابن حزم أو عن ابن الخطيب بأن الشخصية الرئيسة هو ابن حزم وهو ابن الخطيب، بل الشخصية الرئيسة غير ظاهرة في الأساس، وهي الفاتحة النورانية، ولهذا أسميها الشخصية العرفانية، أما ابن الخطيب وابن حزم.. ما هو إلا تجل أو مظهر لهذه الشخصية.

> فهو علامة عليها..

< فهو الذي يظهر لك على الواجهة، هو اسم علم، مثل اسمك، مثلا، السيد عبد السلام اسم دال على شخصية السيد عبد السلام.

> وهذا يدل على مدى الحضور الوظيفي لتخصصكم الأكاديمي.

< نعم هي هذه العلاقة بين الدال والمدلول، فهذا المشروع له عنوان، أنا اخترت له عنوانا، عنوان موجز ولكنه يعطي فكرة، أنت حرف جاء لمعنى؟ أنت حرف لكن لا تقف عند: أنت حرف وتسكت، هذا الارتباط بين الحرفية والمعنوية، ما هي أصول الحرفية في الإنسان؟ وما هي الأصول المعنوية فيه؟ وما هي العلاقة الجامعة بينهما؟

في هذه الأسئلة يكمن لباب هذا المشروع وحقيقته وفلسفته، فهي قراءة لهذا التاريخ.

> وكثافته الرمزية.

< نعم؛ بل قد أقول لطافته النورانية، فهو مكثف في قول، ولكنه لطيف في تَجنيحاته وفي زوغانه.

> في سبحه.

فالكتابة فيه كتابة متعددة المراتب، دائما هناك ارتباط بين القول السردي والقول الشعري في هذه الأعمال، كل هذه الأعمال تبتدئ بقصيدة.

>جميل وفي هذا تجاوز لقيد التجنيس.

< مسألة مهمة جدا، لماذا؟ ما هو الأصل والمصدر في كل هذا الإلهام؟ فهذا المشروع يتحدث عن تجربة روحية، والتجربة الروحية من الصعب الإمساك بها، ومن الصعب أن تقال، وأن تنقال، لهذا يتحدثون دائما عن الشطحات ويقولون العبارة دون كذا، والعبارة للعامة والإشارة للخاصة، هذه الأقوال أنا وظفتها في الاشتغال النقدي على هذا المشروع، فهنا أميز ما بين الرواية الصوفية والرواية العرفانية؛ ما نجده في السوق في الغالب هو رواية صوفية، إما أن نستلهم شخصية من الشخصيات الصوفية، أو نستلهم اللغة الصوفية أو غير ذلك، لكن الرواية العرفانية، كما أفهمها، هي أن تستطيع أن تنتج وتنشئ خطابا حول هذه التجربة العرفانية، وهذا ليس متاحا للجميع، التجربة الصوفية لا تستطيع أن تقول نفسها، تعجز عن قول نفسها، وتعجز عن إنشاء خطاب حول ذاتها، خطابا انعكاسيا، لكن الرواية العرفانية بما أنها انعكاس معرفي لما يحصل في الذات، فهي تستطيع أن تخبر عن تجربتها وتنقلها لغيرها عبر هذا الإبداع العرفاني الأدبي.

> وجمالي أصالة.

< نعم وجمالي كذلك، فهي تستطيع أن تنتج هذا الخطاب حول هذه المعرفة، هذا التناظر المعرفي. ولهذا فالعرفان هنا لا علاقة له بالعرفان في الغنوص الشيعي ولا غيره، إطلاقا، وإنما هي سفر في المعرفة، الرواية العرفانية هي سفر في المعرفة، في إشراقات الروح، في الانعتاق من وثوقيات النفس..

> تأمل.

< نعم، في خداع الحواس، في إشكالات النفس، في تردد العقل، بين الروحاني، بين اليقيني والشك، كل هذه الأشياء هي هذه الرحلة المعرفية التي تعطي هذه الرواية العرفانية، هو الفناء عن هذه الثنائيات بين العارف والمعروف، أن تفني هذه الثنائية بحيث يتوحد العارف مع المعروف، وهذا التوحد هو الذي ينتج العرفان، ويعطي ثمرة المعرفة فتنشأ هذه الرواية، ولكن هي في الواقع هي أدب للسفر، وأدب للمعرفة، فيمكن أن نقول هذا الأدب هو أدب للسفر، وأدب للحضور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق