ثقافة وفن

التواصل والسجلات الخطابية

في رواية "طابا نوار" للمغربي علي الداه

السعيد الخيز (كاتب وروائي مغربي)

تمهيد

يشكل البعد التواصلي مستوى عميقا من مستويات التحليل التداولي، التي تتدرج من المستوى اللساني والنصي إلى المستوى المقامي. وتنتمي لغة الرواية إلى هذا البعد الذي يضمن التواصل بين الباث والمتلقي. من هنا كان البحث في رواية “طابا نوار” لكاتبها علي الداه من حيث اعتمادها على سجلات متعددة من اللغة تتزع بين اللغة العامية الشعبية، واللغة الفصحى. وتحت هذه الألوان تندرج مستويات عدة فاللغة العامية تنحدر إلى مستوى اليومي المبتذل وترقى الفصحى أحيانا إلى مستوى أدبي يتوسل الصور الشعرية ويتعالى عن الاستعمال العادي.

العنوان: طابا نوار.

بدءا بالعنوان طابا نوار تطالعك لغة شعبية خاصة، وهي عامية تمتح من المعجم الفرنسي بنطق دارج، واعتمادها في العنوان دليل على أن المتلفظ يريد الزج بالقارئ في لغة واقعية من الشارع المغربي. فنكون إذن أمام سجلين:

– طابا نوار: كأدب شعبي ولغة عامية

– رواية: أدب رسمي بلغة فصيحة عالمة

وهذه الثنائية هي التي تتحكم في الرواية من بدايتها إل نهايتها.

صورة أولى:

نجد منذ الصفحات الأولى من الرواية مزجا بين الفصيح والعامي ” جلس “بن مسعود” القرفصاء وقد ضاعت منه علبة الكبريت بين حاجيات الغرفة العرين باحثا بهيستيريا عن صورة السبع الأصفر، تتعثر خطواته بالكيف- القنب الهندي وقارورات الروج بوالبادر

– تفو صباحاتو لله… حتى العافية كتهرب منا…

الغضفة أنثاه التي تقاسمه فقر المكان وقسوة الزمان لا تنبس ببنت شفة، عيناها تتحركان في جحريها كبوصلة تائهة” 

نلاحظ إذن أن الكاتب يستعمل سجلين مختلفين ويمايز بينهما بعلامات ترقيم، إما بالأقواس أو المزدوجتين، فما ليس لغة فصيحة يوضع بين مزدوجتين، وكأنه يتجنب الخلط بين السجلات. اللغة تمارس سلطة غير مباشرة على الباث والمتلقي، إن تحاشي اختلاط السجلات اللغوية نوع من التمييز بين لغة عامية تنفعل على لسان الشخصيات ولغة عالمة متعالية تأتي لتصف وتحلل أفعال وأقوال الشخصيات.

إن اللغة المستعملة من السجل الدارج أيضا تنتمي إلى مستوى أدنى من اللغة اليومية أو العائلية، إنها لغة الشارع إن صح التعبير التي تمتح من السباب والشتائم والكلام النابي. لذلك توضع بين قوسين تفاديا لإحراج سلطة اللغة العالمة. وتوازي هذه اللغة الدارجة لغة فصيحة تحتوي صورا تعبيرية، توضح وتفسر وتختزل وكأنها تعطي خلاصة الكلام لقارئ لا يفهم معنى بعض الكلمات: الكيف، الروج بوالبادر وأمثلة أخرى كثيرة داخل الرواية. هذه السجلات تقدم لنا مكونات الرواية من زمان ومكان وشخصيات في انسجام تام مع مستواها الاجتماعي والثقافي. إن صورة الأنثى التي تقاسمه فقر المكان وقسوة الزمان صورة روائية تبني شخصيتين رئيسيتين في الرواية بتركيز شديد وكثافة. إنها تزج بالقارئ مباشرة في عالم الهامش والفقر والمرض والموت.  صورة تلعب دورها في تشييد عالم خاص يؤكده استبدال كلمة محجري عينيها بجحري عينيها للإمعان في وصف مشهد القهر الذي يعيشه الزوجان. وكأنها لغة تقتحم الأسلوب الرسمي وتكسر التوقع الجمالي العادي لتنتج لنا دهشة الاختلاف.

صورة ثانية:

من : “إلا هاد البلاد يطيح فيها الفار يتزوى

إلى:ما نقلب على حد”

إن هذا المقطع الذي اخترناه كصورة للتدليل على فرضيتنا السابقة حول لغة وخطاب الرواية والذي يبدو للوهلة الأولى عاميا في كليته، وحوارا عاديا بين شخصيتين أميتين إن تعمقنا فيه نجده حابلا بالأمثال الشعبية والحكم والاستعارات والصور البليغة، إنه قصيدة جزلية بامتياز، فيه موسيقى داخلية تطبعه بطابع الشعر: كروش الحرام وكحو البيار، فحروف الكاف والحاء والراء والوزن الفعال: لحرام البيار… أعطاه موسيقى خاصة تخرج به من دائرة الحوار اليومي لتضعه في ميزان الجزل ولنا أمثلة كثيرة:

– العسل حاضيه النحل

– والنحل إلى جاع يطيح جمل

– قيس قبل ما تغيس

– إنه مونولوج زجلي مسرحي يمتح من المثل الشعبي،

إن هذا السجل الذي بدأ يستعمله بنمسعود في حواراته دليل على أن الشخصية المهمشة ليست بالضرورة شخصية غير مثقفة وأن الثقافة الشعبية التي ينتصر لها السجل لها مكانتها في الفكر والتأمل. وهي تختلف عن لغة اليومي من قبيل: “نوضو غسلو يديكم الطويجين موجود” نحن إذن أمام مستويات عدة من اللغة التي تعيش داخل نفس الشخصية والتي تختلف حسب مزاجها: ففي حالة التأمل والهدوء يستعمل معجما زجليا رفيعا وفي حالة الغضب يستعمل معجم السباب والشتائم والعنف اللفظي واللعنات والفضائح التي تنتشر في الشارع.

صورة ثالثة:

“تعب كلها الحاية، تسكن فينا وتعاندنا، نلهث وراءها كسراب كاذب، تمنحنا بريق أمل ثم سرعان ما تسحبه تاركة أنفاسنا حبيسة الوهم” فبعد أن انهار بن مسعود بين ذراعي هدهد قال: عييت عييت”   في هذا المقطع نجد أن السارد قد تدخل بلغة فصيحة وشاعرية حالمة ليصور لنا نفسية ين مسعود. تعب كلها الحياة عبارة شعرية لأبي العلاء المعري تستحضر لنا سجل اللغة العربية القديم وما يحمله اسم المعري من تفلسف ورؤية للعالم والحياة. تخلى السارد عن لغة شخصياته ليوضح لقارئ آخر يفترض أنه لن يفهم لغة بن مسعود، يفترض أنه قارئ يتمتع بثقافة عالية يحتاج إلى من يوصل له معاناة المقهورين الذي لا يتقنون سوى لغة الشارع. كلما تحدث بن مسعود يأتي السارد وراءه لعيد ما قاله بلغة فصيحة، كأنه يزين الألم والقهر الذي تحس به الشخصيات، وقد يعلق السارد بلغة عادية أو فلسفية، وهذه البنية التي تعتمد على التعليقات هي بنية تستضمر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنبني على التعليق والتعليق على التعليق. وهذا الأدب الرقمي طعم الرواية بسجل آخر يمتح من الواقع الافتراضي.

نعود إلى الصورة التي التقطناها من الرواية، والتي تصور وهم الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في ذهن بن مسعود، الميريكان، التي هي ضباب و أرض موعودة وحلم وسراب كما جاء في الرواية. وهذا يوضح صدمة بن مسعود في مخفر الشرطة حين سخر منه الشرطي ومن حلمه. لأن رغبته في الهجرة تعود إلى تعلقه بأفلام الويسترن، السينما الأمريكية.

صورة رابعة:

من : “تكون أحلامنا…

إلى: المستحل” 

إنه مستوى آخر من التصوير داخل الرواية، لا نقول أعلى كي لا نسقط داخل التراتبية في الخطابات، لكنه خطاب تأملي يمتح من الفلسفة أو علة الأقل يستعير موضوعاتها: العقل، الموت، المستحيل… إنها لغة ترقى إلى الكوني وتترفع عن المحلي” تكون أحلامنا في أوقات كثيرة أكبر من قدراتنا ومع ذلك نحلم.” هذا الوضع الوجودي للذات الساردة فرض لغة فلسفة تفكك وجهةةنظر الحالمين وغير الحالمين الذين لا قدرة لهم حتى على الحلم، إنه تفكير في الشرط الإنساني، أحلام الفقراء مرهونة بإمكانياتهم المادية، وممفصلة على مقاس وضعهم الاجتماعي، ولا يمكن أن يفهم الفقراء غير فقراء مثلهم، وهم يتفادون الحلم كي لا يموتوا حسرة. إنه تأمل عميق في الحياة والموت والوضع البشري. أعطى للرواية عمقا فلسفيا ممتدا، يمزج بين داخل الإنسان وخارجه.

خلاصة:

إن التنظير الروائي عند باختين يركز على عنصري الأسلبة وتعدد الأصوات ورواية “طابا نورا” تنتصر للمبدأ الحواري. فتعدد الأساليب واللغات أو السجلات الخطابية داخلها بين العامي ومستوياته العادية واليومية والزجلية والمثل الشعبي والألغاز والفصيح والفلسفي التأملي لم يفسد الانسجام الداخلي للرواية. فالانتقال بسلاسة بين كافة هذه الخطابات سواء على لسان الشخصيات المقهورة والمهمشة أو السارد الذي يحاول أن يكون صلة وصل بينها وبين القراء جعل المستوى التواصلي يتحقق بشكل فعال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق