
متلازمة العروبة والإسلام عند ميشيل عفلق وحزب البعث (4)
محمد عابد الجابري
ويعود الأستاذ ميشال الى شرح موقف البعث العربي من العلمانية بتفصيل فيميز بين «اتجاهات قومية تقول بالعلمانية وتعتبر أن القومي العربي هو الذي يتجرد من معتقداته الدينية ويلتقي مع أخيه العربي على صعيد القومية العربية الحقوقية والرابطة الوطنية» وهو اتجاه يقول عنه فيلسوف البعث العربي انه من تأثير المستعمر الأجنبي ان لم يكن هو الدافع له: «ان المستعمر الأجنبي الغربي الذي كان يحتل اقطارنا لم يكن يخفي ارتياحه لهذه العلمانية، بل كان يشجعها لأن ذلك كان يؤدي الى إفقار قوميتها من دمها ومن نسغ الحياة فيها، من أصالتها، من روحها» ان العلمانية بهذا المعنى تعزل القومية العربية عن تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وتفرقها من الإسلام الذي «هو تاريخنا وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا الى الكون والى اشياء كثيرة يصعب حصرها وتعدادها»، وبالتالي تضع القومية العربية في خصام مع هويتها، ومع حاضرنا و«واقعنا الحي» الذي هو «العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام».
واذا كان الأمر كذلك فما هو مضمون العلمانية التي يقول بها «البعث»؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً: «العلمانية بمعنى ان الدستور والقوانين لا تميز مذهباً عن آخر في القبول للوظائف او في كذا وكذا، هذه أمور بسيطة ونسلم بها، ونحن نمشي في هذا العصر ولا نجادل في ذلك، اذا كانت المسألة مسألة نصوص دستورية وقانونية. لكن البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية». ثم يضيف: «بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا اذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجرداً من الأهواء ومتجرداً من المصالح الذاتية». ويؤكد المعنى نفسه حينما يقول: «العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي».
واذا كان الأمر كذلك فما هو مضمون العلمانية التي يقول بها «البعث»؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً: «العلمانية بمعنى ان الدستور والقوانين لا تميز مذهباً عن آخر في القبول للوظائف او في كذا وكذا، هذه أمور بسيطة ونسلم بها، ونحن نمشي في هذا العصر ولا نجادل في ذلك، اذا كانت المسألة مسألة نصوص دستورية وقانونية. لكن البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية». ثم يضيف: «بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا اذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجرداً من الأهواء ومتجرداً من المصالح الذاتية». ويؤكد المعنى نفسه حينما يقول: «العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي».
هذا الربط بين العلمانية والقومية من جهة وبين القومية والإسلام من جهة أخرى يسد الباب أمام التصور العلماني للوطنية وأمام اي تصور وطني ضيق للعلمانية التصور الذي يؤدي في كلتا الحالين الى «تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني» من ناحيتين: فمن ناحية أولى: إن هذا التصور «بحجة التقاء جميع فئات وطوائف الشعب على صعيد الوطنية يطلب من الأكثرية الساحقة من الجماهير العربية – وهي مسلمة – ان تنسى او تغفل التراث القومي او على الأقل ان لا يكون لقاؤها به لقاء صريحاً مطلوباً وحاراً وانما لقاء له طابع الشيء الخاص، الفئوي، المتهم بالتعصب بدلاً من ان يكون الغذاء الروحي والفكري والنضالي للأمة كلها». ومن ناحية أخرى يؤدي هذا التصور العلماني للوطنية الى «حرمان الطوائف الأخرى من غير المسلمين من التراث العربي الذي هو تراثها بالتالي إبعادها عن تحقيق شخصيتها الكاملة وتركها فريسة للأيدي والتوجهات الأجنبية ولشتى التيارات التي تسلب جزءاً من شخصيتها وتترك الفجوة بينها وبين القسم الآخر والأكبر من بني قومها وشعبها لتتسع مع الزمن، لتصل أحياناً الى التناقض» وهذا المفهوم المشوه للعلمانية الذي يعزل الأمة من تراثها وتاريخها كان يروج له الاستعماريون وأدواتهم «ويريدون من ورائه ليس لقاء الجميع على صعيد الوطنية، كما كان الادعاء، بل نسيان الأمة لتراثها، يقابل هذا النسيان ترويج وتعميم للثقافة الغربية والحضارة الغربية، أي انه كان هناك عمل ية احتيال».
رفض التعصب والرجعية
هذا الفهم القومي للعلمانية والإسلامي للقومية ينجم عنه بطبيعة الحال رفض كل من التعصب الطائفي والرجعية الدينية. والأستاذ ميشال صريح في هذه المسألة صراحته في المسائل السابقة. انه يرفض موقف «العناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي – التي – تكافح الفكرة القومية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الإسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة». هذه الحجة واهية كاذبة بل هي مغرضة، ويجب «اكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة من رجال الدين او زعماء بعض الاقليات العنصرية او من إقطاعيين والاستعمار وراء الجميع». والجواب الذي يقدمه فيلسوف البعث العربي لهذه المسألة، مسألة الاقليات، هو «ان البعث حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام، ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية وتعتبر هذه الناحية وثيقة الصلة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم… فالإسلام من حيث هو دين صرف مساوٍ لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والإسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها. إلا ان هذه المكانة لا تفرض فرضاً، بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية، تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد من المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي».
وكما يرفض فيلسوف البعث العربي النزعة الطائفية ويرى في الإسلام حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب… يرفض بالمقابل الرجعية الدينية التي جعلت التدين يفقد «كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة إحياء وتجديد وبناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل». كما يرفض وللسبب نفسه «الدولة الدينية»:
«فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيراً من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريباً في أوقات متقاربة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية». غير أن الدولة التي يسعى البعث لإقامتها لا تعادي الدين، بل بالعكس هي تعادي، الإلحاد، كما رأينا: «الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام» كما ترى في الإسلام بالذات روح العروبة «العميقة الأصلية التي هي شرط من شروط بعث الأمة».
واذاً «فالبعث العربي الذي هو حركة روحية إيجابية لا يمكن ان تفترق عن الدين او تصطدم معه، ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق» انه يفهم علاقة الدين بالدولة على انها «علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها كما انها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل».
وهكذا: «فالماضي الذي تحن إليه الأمة وتجد فيه ثورة لها وقوة هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس إلا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية ان تتحقق من جديد، ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب ان يكون رجوعاً وهبوطاً، اي إيغالاً في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب ان يكون سيراً حراً صاعداً… فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها».
تلك كانت جولة سريعة في فكر الأستاذ الراحل ميشال عفلق ركزنا فيها القول على مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام وما يرتبط بها من قضايا. ومن هذا العرض يتبين بجلاء ان الأستاذ لم يكن ينظر الى القضية نظرة مجردة، بل لقد نظر إليها في علاقاتها المتعددة الأبعاد مع الواقع العربي الراهن بكل تعقيداته وتلويناته. لقد نظر اليها بفكره الشمولي الذي أبرزنا دعائمه وأبعاده عند مستهل هذا العرض والفكر الشمولي فكر جامع موحد، وقضية الأستاذ ميشال عفلق هي جمع شمل العرب وتوحيدهم، ولذلك نجده يتعامل مع العلاقة بين العروبة والإسلام، لا كمشكلة يجب ان يلتمس لها الحل، بل لقد رأى فيها بالعكس من ذلك علاقة إيجابية، جامعة موحدة: فالإسلام يجمع العرب مع ماضيهم ويعود بهم الى ما يشكل صميم هويتهم، وفي الوقت نفسه يجمعهم مع الشعوب الأخرى المسلمة، غير العربية، تماماً مثلما ان العروبة تجمع العرب، جميع العرب، مع ذاتهم وتعود بهم الى روح قوميتهم. ومن هنا يمكن القول ان القومية العربية، في فكر الأستاذ هي إطار مكاني سكاني ذو روح عالمية إنسانية هي روح الإسلام، إسلام البعث والثورة والتحرر والتحرير وليس إسلام الانغلاق والانحطاط والجمود. ومن هنا كانت وحدة العرب وقوتهم شرطاً اولياً لانبعاث الإسلام وقوته ولوحدة الشعوب المؤمنة به.
وبعد، فلقد كان رجال الإسلام يصنفون قديماً الى صنفين: اهل الشريعة وأصحاب الحقيقة. الصنف الأول هم الفقهاء اما الصنف الثاني فهم المتصوفة. واذا كان لا بد من وضع فيلسوف البعث العربي في مكان ما في هذا التصنيف فإنه يمكن القول من دون تردد انه يمثل نوعاً جديداً من «التصوف»: لقد احب الأستاذ الراحل العروبة واحب الإسلام، احبهما حب المتصوف، ولكن لا المتصوف من اجل خلاصه الشخصي، من اجل «نجاة» نفسه من آلام الدنيا ومعاناتها، بل المتصوف المتقمص لآلام أمته ومعاناتها، الداعي الى نهضتها وتقدمها. ولما كان الإسلام قد شكل عقد ميلاد هذه الأمة عند ظهوره وانطلاق بعثه، فإن استئناف نهضتها لن يكون، في نظر الأستاذ، إلا باستعادة تجربة الميلاد تلك، تجربة البعث المحمدي. ومن هنا كانت العلاقة بين العروبة والإسلام عنده من تلك العلاقات التي لا تقبل العزل ولا التحليل، انها من نوع علاقة الخبر بالمبتدأ، اللذين بدونهما معاً لن تتكون جملة مفيدة.