سياسة

التفكير الافتراضي والتنظير عن بعد

وليد دبلوك

تلقيت عبر تطبيق الواتساب  رسالتين من مؤسسة تعليمية خاصة  تندرج تحتها او تتفرع  منها مدارس عدة تتنوع ما بين الرياض والاساس ولا ادري ان كانت لها ثانويات ام لا ، وتلقي شخصي لهاتين الرسالتين مرده لكوني ولي أمر أطفال  يدرسون في مراحل الاساس المختلفة بهذه المدارس ، إحدى الرسالتين عبارة عن جدول حصص اسبوعي عادي ، والاخرى عبارة عن بيان لضوابط تندرج تحت عنوان (لائحة عمل الفصول الافتراضية) ، والنقاط او الضوابط متنوعة واغلبها ينظم متطلبات شكلية من مظهر التلميذ والمعلم وتوجيه الكاميرا بوضعية معينة وما الى ذلك .

استحسنت الامر لكوننا انتقلنا الى عصر التعليم عن بعد، وتملكني شعور جميل بهذا التطور الكبير في مستوى العملية التعليمية، ولم أستطع تكملة قراءة باقي الرسالة الثانية لانطفاء هاتفي بسبب نفاذ طاقة البطارية، وهممت بشحن الهاتف عند دخولي للمنزل ولكن كان التيار الكهربائي مقطوعا. وللأمانة، الجزئية الاخيرة كانت من نسج الخيال فلا الهاتف انطفأ ولا التيار انقطع أيضا ولكن ماذا لو ..

وماذا لو تلك هي التي جالت في خاطري. وهو امر يحدث بشكل متكرر في كثير من الاماكن..

   إنها آفة العقلية الابتداعية والادارية لدينا التي تقوم على النسخ والتقليد والاستيراد الفكري والعملي والنظري البحت.. وهذه العقلية العقيمة هي من أسباب قعودنا وتخلفنا عن الركب من حولنا..

نبتدع ونضع الحلول دونما اي دراسة وبحث لكل جوانب الاحتمالات بملائمة الفكرة او الحل او النظرية المستنسخة او المستجلبة لواقع الحال لدينا ..

     أصدقاء لي واقرباء كثر في خارج السودان اتواصل معهم باستمرار الامر الذي اتاح لي الاطلاع على وضعهم المجتمعي الذي تغير كثيرا عن المعتاد بسبب القيود والضوابط والتوجيهات التي اتبعتها حكومات البلاد التي يعيشون فيها نتيجة جائحة الكورونا التي اجتاحت العالم بأسره فغيرته وغيرت نمط الحياة في كل الدول ولسنا بمعزل. اطلاعي على نمط حياة من كنت اهاتفهم اتاح لي إدراك ان ابناهم يدرسون في منازلهم بشكل دوري منتظم ، واحطت خبرا كبيرا عندما غصت اكثر مستفسرا عن كيفية هذه الدراسة وهل يعتد بها كدراسة يترتب عليها كل ما يترتب على الدراسة التقليدية من حضور وانصراف وامتحانات وما الى ذلك ، فعلمت انها لا تختلف في شئ مطلقا عن نمط الدراسة بشكلها المألوف إذ يصحو الطالب او التلميذ في الصباح وبعد الوجبة او الشاي او الحليب يتهندم بالزي المناسب ويجلس في غرفة ما او غرفته ايا كان حال الاسرة ويمسك بالهاتف الذكي او التاب او الحاسوب او اي جهاز من ذات الشاكلة في زمن معين يدخل باستخدام روابط محددة ويبدأ في قراءة وكتابة ما يشاهد ويتفاعل ايضا بالنقر على الازرار ويدون على اوراق بجانبه ، ويبقى هكذا لوقت ما ثم يأخذ قسط من الراحة للطعام او قضاء الحاجة ، ثم يعاود ذات المشهد الى زمن معين وهكذا دواليك على مدار الاسبوع الدراسي . وسالت مهاتفي عن امر الامتحانات كيف تكون إذن، فأتاني الرد بان الامتحانات على ذات النسق يجلس التلميذ امام ذات الحواسيب او الهواتف ويتلقى الامتحان ويجاوب مستخدما الازرار وما شابه ، فزادت حيرتي بسؤال جعلني نادما عليه ، بقولي هل يمتحن التلميذ عبر الشاشات المختلفة الاحجام في المنزل في وجود والديه او احدهما او اخوان اكبر ، اليس ذلك يتيح توفر مساعدة له من خارج إطاره الشخصي ، او يبحث عن الاجابات في دفات الكتب دونما يدري به احد ! فتلقيت جوابا لا اجد له وصف .. إن التلاميذ هنا مشبعون بالصدق والامانة ولا يخادعون ولا يغشون ولا نساعدهم نحن كأولياء امور مطلقا لان الاخلاق تدرس هنا قبل الاوراق …

لا يعرفون شيء اسمه انقطاع التيار الكهربائي إلا في حالات نادرة واغلبها تحدث عند وقوع أمر جلل كزلزال او شيء طارئ .. وعلمت ان المدارس توفر مجانا لكل تلميذ او طالب جهاز لوحي بتقنيات تواصلية حديثة من كاميرات ذات بيكسلات عالية وميكرفونات دقيقة الالتقاط وسماعات عالية الوضوح، مدعومة بروابط الدخول على جداول الحصص وغيره .. كل ذلك مجانا من المدرسة ..

وتساءلت كل هذا من المدرسة فماذا عن الدولة! ماذا تقدم!

إن الدولة تقدم كهرباء مستقرة مستمرة ميسرة .. وتقدم خدمة الانترنت مجانا لكل من يقدم طلب خدمة مجانية لان لدية ابن او ابنة يدرس عن طريق الانترنت، وبعض الدول تقدم تلك الخدمة مجانا بلا طلب  ..

  الفكرة رائدة وممتازة وتوفر للدولة الكثير إذا ما نظرن إليها بعين اخرى ودونما استصحاب فايروس كورونا كمسبب في اللجوء الى التعليم الافتراضي او التعليم عن بعد …

كل الميذ يدرس من منزله بواسطة جهاز لوحي، فقط يحتاج الى جهاز يصرف له مرة واحدة ونفترض انه بمقابل وليس مجانا كما هو الحال في دول متقدمة وتقديرا للوضع الاقتصادي لدينا يمكن تقسيط الجهاز على عدة أقساط تيسيرا للكل .. .. ثم يحتاج الى تيار كهربائي مستقر .. والى خدمة انترنت مجانية ولو لبضع ساعات في اليوم، وما ارخص الانترنت عالميا. في المقابل نجد اننا وفرنا الكثير من المتطلبات الاخرى مثل المواصلات ونفقات الافطار والتراحيل وغيرها من بنود صرف جانبية ..

انها معادلة تستحق الدراسة   ..

سيدي وزير التربية والتعليم ان ما قامت به تلك المؤسسة من ارسال رسائل لي لتخطرني بجدول الحصص لأطفالي مطالبة مني بتوفير الاجهزة الذكية على فرضية وجود تيار كهربائي مستقر ويغطي (كل) مكان يوجد به طالب او طالبة لان التعليم يشمل كل الدولة ويستهدف كل النشء ومستحقي التعليم لأنه فرض على الدولة .. قد استطيع انا على توفير ما طلب مني من اجهزة بيئة وما الى ذلك  .. ولكن هل يستطيع كل أولياء الامور ذلك!  هل الجميع متماثلين في الفرص والامكانيات كي يستجيبوا لهاتين الرسالتين !! هنا تبرز نقطة الخلاف وتطل الإشكاليات برأسها لتؤكد مجددا على فشل التجربة وتحرر شهادة عقم العقلية الإدارية الناجحة ..

سيدي وزير التربية والتعليم، لقد ضاع من أعمار اطفالنا عمرا كاملا ، فابحث عن جبر الضرر اولا قبل التفكير في محاكاة العالم الخارجي واستجلاب حلول تصلح هناك وتفشل هنا ، فهؤلاء قد سبقوك فكرا وتنظيما وإدارة وإمكانيات …

قلصوا العام الدراسي القادم بضعة شهور حتى نعوض انجالنا ما ضاع منهم من عمر ..

واعود واختم بما بدأت .. مشكلتنا وآفتنا في عقم فكرنا وتفكيرنا المبدع الخلاق، وفي رهننا لحالنا لتجارب غيرنا حتى ولو سبقونا فكرا وعقلا وعملا  ..وان اردت الحل عدنا اليك ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق