ثقافة وفن

نقد الدّين بديلًا عن نقد السّلطة (2)

في انتهازيّة المثقّف وضرورة المُفكّر المُمَارس

بهذه المقاربات، يمكن فهم ظاهرة «المثقّفين» في سياق الثقافة العربيّة المُعاصرة بشكلٍ أعمق، ويمكن فهم استنكافهم -إجمالًا- عن نقد السّلطة، وتركّز جهودهم -في أغلبها- على نقد الدّين، مرتكزين -عمومًا- على فهم ثقافويّ جوهرانيّ استشراقيّ لاسياسيّ للظاهرة الدينيّة، مُشتقّين من ذلك حلولًا ومقاربات تحمل نفس الطابع: ثقافويّة، جوهرانيّة، دينيّة (كمفاهيم «التّنوير» و«العلمانيّة»)،[9] والأهمّ: أنّها محايدة تجاه السّلطة، بل تحتاجها (أو تتوسّلها) لتحقيق هذه المقاربات المُغترِبة (كما هو المثقّف مُغترب) عن المجتمع الذي تريد أن تُطَبَّق وتُفرَض عليه (بدلًا من أن تنبثق عنه). أما أدوات تنفيذ هذه المقاربات فتكون عادةً: القانون والتّعليم، وكلاهما يقعان في مجال السّيطرة الكاملة للسُّلطة، مما يجعلان من مشاريع المثقّف أسيرة أدوات السّلطة، ورضاها عنه وعنها.

اشتقاق المنزلة من الدِّين والاستعمار: المثقّف باعتباره مُخلّصًا حداثيًّا

تتطابق الفرديّة التي بُنيت عليها فكرة المثقّف مع الآمال الكبيرة التي حُمِّلت عليه (أو ألحقها بنفسه)، ومع هالة القداسة الحداثيّة الخلاصيّة التي بُنيت حوله (أو بناها حول نفسه)، والتي تبدو في حقيقتها امتدادًا لفكرة دينيّة: فكرة المُخلِّص الغائب، المهدي الذي يجب أن يعود ليدلّ الجموع التّائهة، الجاهلة، البلهاء، المُنتظِرة دومًا وأبدًا، إلى الطريق الصّحيح المؤديّ لفردوس «الحداثة» ونعيم «التقدّم»، وهي فكرة شبه دينيّة أخرى تفيد الديمومة والأبديّة، دفعت بفرانسيس فوكوياما إلى إعلان «نهاية التاريخ»[10] بتحقّق الاستقرار النهائيّ (بصيغة الرأسماليّة المُعولمة) إثر انهيار الاتحاد السوفييتيّ. وهي امتدادٌ أيضًا لمقام «الشّيخ»، مرجع المريدين، والمجتمع الأوسع، في جميع الشؤون، إذ يختزل في شخصه، ويُسبغ على نفسه، المعرفة الكليّة، هذا المقام الذي بحثه فيصل درّاج بتوسّع وعمق،[11] ووضعه في موقع التّعارض مع مقام «المثقّف الحديث»، وإن كنت أرى أن الصّفات التي يُسبغها الشيخ على نفسه (باعتباره «سلطة» و«مرجعيّة» شاملة)، تشبه -إلى حدّ بعيد- السّلطة والمرجعيّة التي يدّعيها المثقّف لنفسه، بعد أن يحلّ «التخصّص» مكان «الشّموليّة»، ويوتوبيا الغرب/المستقبل مكان يوتوبيا الإسلام/الماضي.

فهذا المُخلّص الحداثيّ المُختزَل في فكرة «المُثقّف»، يتضمّن داخله صفات العارف، المُتمكّن، القادر، العالم، الذي يملك «الهدف» ويعرف إلى أين يسير، وتختلط فيه سمات النبوّة بصفات الألوهة، وهو أمرٌ يستدعي فكرة أخرى شبيهة: «المثقّف» في السياق العربيّ هو أيضًا اشتقاقٌ من المستعمِر المتحضّر الفرد في مقابل الجموع المستعمَرة المتوحّشة، وامتدادٌ لمهمّة نبيلة مُتخيّلة قدّمها المستعمِر عن نفسه،[12] وصدّقتها نخبة المُستعمَرين مع تعديل بسيط: أزاحت المستعمِر الأبيض من عليائه، ووضعت نفسها مكانه، مع الانتباه إلى أن جلّ هذه النّخبة المثقّفة كانت قد تلقّت تعليمها في جامعات ومعاهد مدن المستعمِر ذاته، وتنظر إلى المستعمِر وإنجازاته السياسية والاقتصاديّة والعلميّة كنماذج ينبغي للمستعمَرين أن يسيروا على خُطاها.

يُعقّد كلّ هذا أنّ المثقّف-المخلّص هو فكرة خاصّة إلى حدّ كبير بالمستعمَرات السّابقة، لا نجد صنوًا لها في «الغرب»، لأنّ موضوع المثقّف-المخلّص هو الالتحاق الفوريّ بالحداثة، والحداثة في شمال العالم تمّت ابتداءً، ومن خلال صيرورة تاريخيّة، لا قفزة نوعيّة-خلاصيّة، لذا يأخذ المثقّف هناك شكلًا اصطلاحيًّا آخر: Intellectual، المشتغل بالتّفكير الذهنيّ، أو المُفكّر، وهي كلمة لها علاقة بالصيرورة والتحوّل والتغيّر، في النظر والتأمّل والبحث، داخل صيرورة تاريخيّة هي التي أنتجت التّغيير، بعكس كلمة «المثّقف» المتعلّقة أكثر بالتّحصيل، أو إيداع المعلومات والأفكار، والقادمة من «الثّقافة» باعتبارها مساحة عامّة شموليّة ترتبط بالوضع السّائد، والهويّة القائمة، والعناصر المحدّدة الثابتة المستقرّة التي تشكّل النسق الثقافيّ (كأن نقول: الثقافة العربيّة، الثقافة الإسلاميّة، الثقافة العربيّة الإسلاميّة، الثقاقة المصريّة، إلخ)؛ مساحة تخترعها السّلطة في أحيان كثيرة، وتخترع لها أنساقًا تاريخيّة تثبت بها أحقيّتها المُعاصرة.

لا يوجد مثقّف-مُخلّص في شمال العالم. بل يأخذ الـIntellectual في التصوّر الذاتيّ أو التصوّر العامّ هناك أشكالًا أخرى، فهو إمّا الدّارس المختصّ غير المعني كثيرًا بالتحوّلات الاجتماعيّة (وغالبًا ما يكون هذا أكاديميًّا معروفًا، ويطلق عليه إدوارد سعيد وصف «المثقّف المحترف»،[13] أي الذي يعتاش من إنتاجه الذهنيّ)، أو المتعالي النخبويّ المنظور إليه عمومًا بسلبيّة (بحسب رايموند ويليامز)،[14] أو المشارك في النّقاش العامّ والمُساهم في إثارة الجدل والنّقاش والمُعلّق على الأحداث السياسيّة (Public intellectual)، أو الممارس المُنخرط لأفكاره ضمن المجموع الأوسع في حزب أو نقابة أو حركة، أو المعبّر عن طبقة ما ومصالحها (المثقّف العضوي بحسب جرامشي).

من اقتراح التّغيير إلى الالتحاق بالسّلطة: إشكاليّات التصوّر الذاتيّ، الفرديّ، الخلاصيّ، للمثقّف

يولّد هذا التصوّر الذاتيّ، الفرديّ، الخلاصيّ، للـ«مثقّف» عدّة إشكاليّات أساسيّة:

أوّلها أنه يجعل من المثقّفين شريحة متوهّمة و«مستقلّة» بذاتها في «عالم الأفكار»، تُعرّف نفسها ذاتيًّا من خلال دور تدّعيه لنفسها يضعها فوق المجتمع، وبالتّالي فوق التّاريخ، مُلغيًا التّعارضات البينيّة التي تنشأ بين المصالح التي يمثّلها كلّ مثقّف، ويسلخها ماديًّا عن أيّة إمكانيّات حقيقيّة للتّغيير إذ يُصبح التّغيير مُتخيّلًا، مُتمنّيًا، مُقترحًا من خلال الأفكار الذاتيّة، دون الأخذ بعين الاعتبار القوى الاجتماعيّة التي يُفترض فيها تحقيق التصوّرات المطروحة، أو السّلطة التي تُعيقها أو تمنعها.

ثانيها أن المثقّفين، بتشكيلهم الشرائحيّ المُتوهَّم، وأفكارهم المثاليّة اللاتاريخيّة الواجبة التّطبيق، يشكّلون بديلًا عن الطبقات الفعليّة، المُضطهَدة، المُفقرة؛ وتتحوّل صراعاتهم الفكريّة، النظريّة، التي يخوضونها عادةً ضد تجريدات ذهنيّة (مثل «التخلّف»، أو «الدِّين»، أو «الإرهاب»)، إلى بديلٍ كاملٍ عن الصّراع الطبقيّ، فالخلاص الذهنيّ نظريّ، ويستكمل نفسه في عالم الأفكار، ولا يتشكّل في خضمّ الصّراع الماديّ، الفعليّ، داخل التّاريخ.

ثالثها أنّ هذه الشريحة المتوهّمة، بتصوّراتها الذاتيّة التي طرحناها سابقًا، تكرّس من نفسها «سلطة» معنويّة، فكريّة، استعلائيّة، مُغتربة، لكن دون أن يتمكّن أفرادها من التشكّل الماديّ إلا إن اعترفت بهم السّلطة الفعليّة: المجموعات الحاكمة وكياناتها الوظيفيّة. لذلك فهم يقضون جلّ وقتهم متمسّحين بالسّلطة، دائرين حولها، عارضين أفكارهم عليها، مخترعين لأنفسهم وظيفة ما داخلها، آملين أن تتبنّى السّلطة بعض صياغاتهم النظريّة الخلاصيّة لتطبيقها بقوّة الإكراه (من أعلى) لإحداث التّغيير المنشود.

“لا يمكن فهم الحيّز الثقافيّ العربيّ المُعاصر، حيّز المثقّفين، إلا باعتباره مساحةً إقصائيّة معنويّة تملكها شريحة المثقّفين، تميّز نفسها عن الحيّز العام”.

في سبيل هذا التّغيير، يتجاهل هؤلاء أربعة أمور؛ أن السّلطة غير معنيّة بالتّغيير، بل بالثّبات وإعادة إنتاج نفسها ووظيفيّتها داخليًّا وخارجيًّا، وهي تنتقي ممّا يعرضه المثقّف ما يناسب ذلك؛ أن السّلطة قويّة، تمتلك إمكانيّات السّيطرة وأُطرها، وبالتالي فهي القادرة على توظيف المثقّفين واشتقاق الشرعيّة لنفسها من خلالهم لا العكس؛ أن التّغيير المُتخيّل، الذهنيّ، غير المشتقّ من الواقع الماديّ وتناقضاته، لن يؤدّي إلّا إلى المزيد من التشوّهات المجتمعيّة، وحرف اتّجاه النّظر عن مكامن الخلل الفعليّة وآليّات التّغيير الفعّالة، فتستفيد بذلك السّلطة وحدها؛ وأخيرًا: أنّ المثقّف فرد، ضعيف، هشّ، ومتى ما وضع نفسه تحت تصرّف السّلطة (لأنّها الجهة الوحيدة القادرة على «تطبيق الأفكار») فسيسهل ابتزازه، وإن أراد المكانة (القادرة هي وحدها على إسباغها عليه) فسيضطر إلى إعادة إنتاج خطابه ليصير متوائمًا معها، فتنغلق الدّائرة التي بدأت باقتراح التّغيير النظريّ على السّلطة، إلى نقطة البداية الصّفريّة التي لم يحدث فيها أيّ تغيير، مُضافًا إليها طبقة تضليليّة جديدة، هي الشرعيّة التي أسبغها المثقّف على السلطة، بعد أن تخلّى بدوره عن أفكاره الأوليّة، بعد ثبوت عبثيّتها أو عبثيّة الطريق المُتخيّل للوصول إليها، وصار جزءًا من آليات السيطرة الاجتماعيّة للسلطة.

ولا تنجو أفضل وظائف مثل هذا النوع من المثقّف، من الوقوع في فخ الفردانيّة، والمثاليّة، والتوجّه للسّلطة، باعتبارها الإطار الوحيد القادر على التّغيير؛ فلندقّق فيما يقوله إدوارد سعيد كنموذج على هذا النوع من السّقوط في الفخّ: «وفي رأيي، إذن، أن الواجب الفكريّ الأساسيّ هو البحث عن تحرّر نسبيّ من هذه الضغوط [ضغوط المجتمع، والمؤسسات بمختلف أنواعها، والدولة]. ومن هنا كان تصويري للمثقّف كمنفيّ، وهامشيّ، وهاوٍ، وخالق لغة تحاول قول الحقّ للسّلطة.»[15] المثقّف هنا يريد أن يتحرّر من، لا أن يشتبك مع، المجتمع والمؤسسّات والسّلطة؛ أن ينفي نفسه خارج حركة التاريخ؛ ومن ذلك الموقع الخارجيّ، يخاطب السّلطة بالحقّ لعلّها تسمع كلامه.

هكذا، ستقود النّماذج الخلاصيّة المثاليّة صاحبها إلى الانتهازيّة: التقرّب من السّلطة بانتظار فرصة سانحة لتتبّناه وتتبنّى أفكاره (كما يظنّ) تكون نتيجتها الفعليّة (بسبب أنّ القوّة الفعليّة بيد السّلطة، لا بيده) هي الاحتواء والتّوظيف.

مثاليّة المثقّف وماديّة الدّاعية: في الفرق بين الرّهان على السّلطة والرّهان على الجُموع

ربّما كان الجيل الأوّل من «التنويريّين» في ما يُسمّى بـ«عصر النّهضة» خير دليل على ذلك التوجّه، فكثير منهم (كطه حسين، العلامة الأبرز والأهمّ لذلك الجيل، و«أكثر العقول جذريّة» بينهم، بحسب فيصل درّاج)[16] وضع رهانه على تغيير تقوده السُّلطة (سواء بالتّعليم، أو التّصنيع، أو التّحديث)، وكانوا جزءًا منها عبر تولّيهم مواقع قياديّة أو وزاريّة فيها، (تولّى طه حسين وزارة المعارف على سبيل المثال)،[17] وكانت بعضٌ من نتاجاتهم الفكريّة تتوجّه للسّلطة على شكل نصائح، أو إرشادات، أو تمنّيات، أو كتبًا تقدّم نفسها باعتبارها دليل استرشاد للوصول إلى نتيجة مرجوّة (كتاب طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر)؛[18] أمّا نتيجة ذلك فواضحة فيما نحن فيه اليوم.

يحيلنا هذا الرّهان إلى الفرق (والشّبه) بين المثقّف والدّاعية: فبينما يشتقّ المثقّف نفسه ودوره من الحداثة (التي لم تتحقّق)، والمستعمِر (الذي ظلّ، حتى بعد التحرّر الشكليّ منه، متفوّقًا، ونموذجًا مكرّسًا للّحاق به وبركب حضارته)، والذاتيّ، ومستقبلٍ مُتخيَّل، يشتقّ الداعيّة نفسه من الرّاسخ الثقافيّ، والمحليّ، والموضوعيّ، وواقعٍ فعليّ؛ وبينما يتوجّه المثقّف أساسًا إلى السّلطة ويتوسّلها، دافعًا نفسه إلى دورٍ وظيفيّ، يتوجّه الدّاعية إلى الناس، دافعًا نفسه إلى دور شعبيّ، عُضويّ؛ وبينما يتوجّه المثقّف عادةً إلى السّلطة بغرض توظيفه إذ يحتاجها هو، تتحرّك السّلطة عادةً باتّجاه الدّاعية لنفس الغرض إذ تحتاجه هي، فيملك بذلك قوّة أكبر في مفاوضتها وتوسيع مساحة حركته باستقلاليّة عنها.

نقطة الشّبه الوحيدة أنّ كليهما يُحيلان «التّغيير» إلى تجريدٍ ذهنيّ فردوسيّ مستقبليّ، يفترقان فيه وفي آليّات تحقيقه مرّة أخرى: فالمثقّف نبيّ، فرد، وحيد، ينتظر جماعة مؤمنين تلتحق به وتناضل من أجل أفكاره، أو سلطة تُنفِّذ له رؤاه، أما الدّاعية فجزء من بُنية حركيّة مُتحرّكة مُتفاعلة وفاعلة، هي الجماعة، أو الحزب، تتفاعل مع المجتمع عن طريق التماسّ المباشر بمبادرةٍ منه، ويدفع معها لتحقيق رؤاه التي هي رؤى المجموعة التي ينتمي إليها.

كلّ هذا يجعل من مفهوم «المثقّف»، والجدل الكبير الذي دار ويدور حوله في السياق العربيّ، عقيمًا، وبلا معنى، طالما ظلّ عالم أفكاره ذاتيًّا، ومساحة فعله الذّهن المنفصل عن الاشتباك بالواقع، مُنتجًا في خضمّ ذلك عوالم بدائليّة (إحلال واقعٍ بديل مُتخيّل بدلًا من الواقع الحاليّ، على شكل انقلابٍ حُلُميّ ننام فيه على حال، ونستيقظ على حالٍ آخر) بدلًا من العمل على الاشتغالات الجدليّة (تغيير الواقع الحاليّ من خلال الاشتباك معه موضوعيًّا وبأدوات مُشتقّة منه)، وطالما ظلّت مساحة تحقّق أفكاره المَأمولة (المتوهّمة) قائمةٌ على السّلطة باستبدالٍ تحتيّ (من أعلى، يُطيح بأسفل «متخلّف» أو «رجعيّ») بدلًا من تغيير فوقيّ (من أسفل، يُطيح بأعلى فاسد وقمعي وإقصائيّ ووظيفيّ وتابع).

المُثقّف المتسوّل من السُّلطة، والمُفكّر المُمارس السّاعي إلى تقويضها

كلّ هذا يجعلنى أرى  تعارضًا بين الدلالات التي تحتويها كلمة «المثقّف»، وبين ما سأسميّه: المُفكّر المُمارس، على ذات النّسق الذي قدّمته الماركسيّة لإزالة الاغتراب والذاتيّة عن عالم الأفكار، عبر دفعها للاقتران بالممارسة، في اشتباك لا غنى لأحدهما عن الآخر.

فالأفكار دون الممارسة تتكلّس عبر تحوّلها إلى مقولات لذاتها، تجترّ ذاتها لتثبت نفسها بنفسها، أو تتضخّم لتبني أوهامًا نظريّة إضافيّة فوق مقولاتها الذاتيّة المثاليّة (اللّاماديّة)، أو تختزل نفسها في شعارات للاستهلاك العامّ السّريع. أمّا الممارسة دون الأفكار فتصبح مُتاحةً للحَرف والاستغلال والتّوظيف، تصبح غير منتجةٍ لنفسها وممكنة الإنتاج لغيرها (أو حتّى لنقائضها)، والمثال الأوضح على ذلك هو الجولة الأولى من الانتفاضات العربيّة (2010- 2013) ومآلاتها.

بحسب هنري لوفيڤر، لا يمكن الفصل بين التفكير الثوريّ والممارسة الثوريّة، فهما ينبثقان عن بعضهما في «جدليّة المُعاش والمُدرَك». صحيحٌ «أن التفكير والفعل ليسا مُتماثلين»، يقول لوفيڤر، «إلا أن عليهما دومًا العودة لبعضهما لتجديد نفسيهما». هذا فضلًا عن أن «نظريّة أيّ حركة، يجب أن تنبثق عن الحركة نفسها، لأن الحركة هي التي كشفت، وأطلقت، وحرّرت، الإمكانيّات النظريّة».[19] علاقة المفكّر المُمارس مع العالم، إذًا، هي علاقة نقد واستنطاق وتحليل، لا تكتمل إلّا من خلال اشتباكه المباشر، الفعليّ، العمليّ، الماديّ، مع الموضوع المُفكَّر فيه، ليتم اختبار هذه الأفكار وتطويرها (وتغييرها) في خضمّ هذا الاشتباك.

والمفكّر الممارس هو شخصٌ يتعلّم ويستمرّ في التعلّم بشكل دائم، لا يُقدّم المقولات بل المقترحات المعرفيّة، متفاعلًا مع محيطه ومجتمعه، ومُستفيدًا من التطوّرات المُتسارعة في حقول العلوم في قراءة هذا المُحيط، وهو نقديّ في مواجهة السّلطة وبُناها وأُطرها المختلفة، فالسّلطة جمود والتّفكير حركة، السّلطة قمع والتفكير حريّة، السّلطة تكبيل والتّفكير إطلاق، السّلطة رتابة والتّفكير تخييل، وهو معادٍ للدوغمائيّة والأفكار الرّاسخة كمقولات جامعة مانعة لاتاريخيّة، فهو نقديّ أيضًا فيما يخصّ التواضعات الاجتماعيّة والسياسيّة والبديهيّات، وهو مشتبكٌ مع اليوميّ وفيه، متّسق مع ذاته دون انفصام بين عالم الأفكار وعالم تطبيقاتها. لا يبحث المفكّر الممارس عن مريدين، بل يبحث عن مُتفاعلين، مُناقشين، وهو لا «يقود الجموع» بل يُساهم في تمليك الفئات المضطهَدة الوعي بذاتها، واقتراح الأدوات عليها، من واقع حركتها، لتقود هي التّغيير بنفسها، فهي صاحبة المصلحة الأولى بالتّغيير، لا هو.

ثمّة لمحاتٌ عن مثل هذه المقاربة قد تتوفّر في مهدي عامل، غالب هلسا، غسان كنفاني ومنيف الرزاز، لكنّها لا تشكّل كلًّا شموليًّا في أحدهم.

(نقلا عن موقع قنطرة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق