سياسة

العصيان المدني سلاح الأحرار … متى ظهر مصطلح العصيان المدني لأول مرة في السودان

محمود محمد طه يدعو للعصيان المدني في وجه الحكومة الباطلة والمفسدة

د.  عبد الله الفكي البشير

“في موقف الثورة، إن كنت تخضع للقانون الفاشل الظالم، فأنت لا تغيّر. فالثورة انتقاض على كل ظلم، مهما كان الظلم مسلحاً ومحمياً”.

محمود محمد طه

“الاستقلال وقضايا الشعب”، (محاضرة)، دار الحزب الجمهوري، 31 ديسمبر 1968

لا تزال شعوب العالم وقادته يتابعون بشغف رسم الشعب السوداني للوحته الثورية: لوحة الحرية والسلام والعدالة، بدماء الشرفاء والأحرار، منذ ديسمبر 2018 وحتى اليوم. فلقد ابتكرت العبقرية الثورية في السودان آلياتها وأدبياتها وفنونها وشعاراتها الخاصة والموغلة في المحلية، حتى أصبحت الثورة معلماً كوكبياً، وموضعاً للاحتفاء والدعم والمساندة من أحرار العالم وشرفائه. وقد تكشَّف للمراقبين والمتابعين بأن الشعب السوداني في ثورته الظافرة، لم يكن مواجهاً للطغيان المحلي فحسب، وإنما كان في مواجهة واسعة قوامها، إلى جانب الطغيان المحلي، قوى إقليمية، أتضح بأن بعضها قليل الخبرة والمعرفة بطبائع وسمات وإرث شعوب بيئات التعدد الثقافي، كحال الشعب السوداني العملاق، كما تبين بأن بعضها الآخر يفكر بعقلية الأمس في التعاطي مع الراهن والجديد في السودان، فضلاً عن التناقض بين أهداف هذه القوى ودورها كوكيل للاستعمار الجديد.

لقد جسَّد الشباب والكنداكات في السودان أعظم البطولات في مواجهة الطغيان والقوى الإقليمية، وقدموا أعظم التضحيات عبر سلاح السلمية وأدواتها: المتاريس، والاعتصام، والمواكب الليلية، والمخاطبات، واشتراكية الميدان الثوري (عندك خت [أي ساهم] ما عندك شيل [أي خذ])، والدروع البشرية… إلخ. وفي إطار التصعيد المدروس والمخطط، يطرح الآن سلاح العصيان المدني. ولم يكن مصطلح العصيان المدني جديداً في القاموس السياسي السوداني، فقد ظل حاضراً في الفكر السياسي السوداني منذ العام 1951، فمن هو أول من قال به في السودان؟

أول ظهور لمصلح العصيان المدني

في القاموس السياسي السوداني

من واقع اطلاعي على الدراسات السودانية، ومن خلال دراستي للإرث الثوري في السودان في بعض الكتب التي نُشرت لي، وفي العديد من الأوراق العلمية والمقالات الصحفية، يمكن القول بأن أول من طرح مصطلح العصيان المدني في السودان، هو المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري. حيث وردت أول إشارة للمصطلح عنده في العام 1951، (“مذكرة تفسيرية- دستور الحزب الجمهوري، 1951″، دار الوثائق القومية، مجموعة الأحزاب السودانية، 2/1/13). ثم قدم مفهوماً للعصيان المدني في 6 سبتمبر 1952، وتجددت الإشارة للمصطلح في العام 1968، ثم وجه بالدعوة للعصيان المدني نهار يوم الاثنين 14 يناير 1985، كما سيرد التفصيل بإيجاز.

مفهوم العصيان المدني عند محمود محمد طه

عدم التعاون مع الباطل وعدم إعانة ا

لحكومة الباطلة والمفسدة

كان الدكتور محمد النويهي (1917-1980)، وهو أستاذ جامعي وناقد مصري، جاء إلى السودان عام 1947، حيث عُين أستاذاً بكلية غوردون (جامعة الخرطوم حالياً)، وظل بها حتى 1956، وكان من كُتاب صحيفة الجمهورية، التي كان يرأس تحريرها محمود محمد طه، كان النويهي قد تعَّرض لدعوة محمود محمد طه إلى العصيان المدني التي وردت في إصدارات الحزب الجمهوري عامي 1951 و1952، حيث كتب النويهي، قائلاً: “إليكم مثلا حديثكم عن عدم التعاون مع الحكومة المستعمرة الذي ينتهي إلى العصيان المدني لا يخفى عليكم أن مثل هذا الهدف تقوم دون تحقيقه في بلد كالسودان، بحالته الحاضرة عقبات جسام، فما هي؟ وكيف يتغلب عليها بالضبط؟ وماذا يكون تجاوب مختلف الطبقات مع مثل هذه الدعوة؟ وكيف نعالج رد فعلها؟…”. رد محمود محمد طه، مبيناً للنويهي ما يعنيه بالعصيان المدني، وهو عدم التعاون مع الباطل، وعدم الإعانة أو التعاون مع الحكومة المفسدة أو المستعمرة، فكتب قائلاً: “ستلقي علينا معرفة الحق تبعة العمل بالحق، وأيسر ما يقضي به العمل بالحق عدم التعاون مع الباطل– فإنك أنت حين تدفع الضريبة لحكومة مستعمرة، أو حكومة مفسدة، إنما تعينها على باطلها، وتتحمل بذلك كفلا من إصرها.. وأيسر سبيلك أن تمتنع عن إعانتها، وتأبى التعاون معها.. وهذا ما عنيناه بالعصيان المدني…”. (المصدر: محمود محمد طه، “تعقيب على تعليق الدكتور محمد النويهي”، (رسالة)، 6 سبتمبر 1952، ضمن: محمود محمد طه، الكتاب الأول من سلسلة رسائل ومقالات، ط1، أم درمان، 1973، ص 24-29).

ونحن اليوم في السودان أمام حكومة جاءت بانقلاب عسكري في 25 أكتوبر 2021، وهي خائنة للعهد وللوثيقة الدستورية، وخانت ثورة ديسمبر المجيدة. ولهذا فهي حكومة باطلة، ويجب عدم التعاون معها، كما تجب عدم إعانتها. وليس هناك من سبيل لإسقاطها سوى العصيان المدني.

محمود محمد طه يدعو من داخل سجنه لإسقاط النظام عبر العصيان المدني- 14 يناير 1985

عقب صدور الحكم بالإعدام في حق محمود محمد طه يوم الثلاثاء 8 يناير 1985، قامت مساعي عديدة من أجل الوساطة، لمراجعة الحكم بالإعدام. لم تكن هذه المساعي في كل مراحلها ومستوياتها ومواقيتها، بطلب من الإخوان الجمهوريين، وإنما كانت مبادرات من آخرين. ومن بين تلك المبادرات كانت جهود لجنة تتكون من الآتية أسمائهم: 1. السيد/ عز الدين السيد،  رئيس مجلس الشعب، 2. الدكتور مالك حسين، رئيس الهيئة البرلمانية لمجلس الشعب، 3. الدكتور عبد الحميد صالح، نائب رئيس مجلس الشعب، 4. اللواء بابكر عبدالرحيم، رئيس لجنة الأمن والدفاع وأمين القوات النظامية

اتصل الدكتور مالك حسين نيابة عن اللجنة، بالأستاذ سعيد شايب، كبير الجمهوريين، أثناء فترة سجن محمود محمد طه الأخير بسجن كوبر، في يناير 1985، وطلب منه الموافقة على الاجتماع للتفاكر بشأن جهود يقوم بها مجموعة من المتنفذين في النظام الحاكم، ممن يرون بأن محاكمة الأستاذ محمود يجب ألا تسير في وجهة الإعدام؛ إذ أنهم معترضون عليه. رفض الأستاذ سعيد شايب ذلك، وأوضح للدكتور مالك حسين أن الأستاذ محمود لا يقبل الواسطة في هذا الأمر، ولا يقبل عملاً مثل هذا. ومع إصرار من الدكتور مالك حسين، وطلبه من الأستاذ سعيد شايب أن يسمح لهم بالبدء في الاجتماعات واللقاء المباشر بالأستاذ محمود، وافق الأستاذ سعيد شايب وأوضح للدكتور مالك حسين بأن الأستاذ عصام البوشي سيكون ممثلاً للإخوان الجمهوريين.

بدأت الترتيبات لمقابلة الأستاذ محمود في سجن كوبر. واستطاع الدكتور مالك حسين أن يأتي بإذن من اللواء عمر محمد الطيب، نائب رئيس الجمهورية، ورئيس جهاز الأمن، له ولعصام البوشى، لمقابلة الأستاذ محمود في سجن كوبر.

ذهب الأستاذ عصام البوشي والدكتور مالك حسين لمقابلة الأستاذ محمود بسجن كوبر. وعندما وصلا، التقيا بمدير السجن في مكتبه، والذي كانت لديه تعليمات بزيارتهما للأستاذ محمود، فأمر مدير السجن بإحضار الأستاذ محمود من الزنزانة إلى مكتبه. عند حضور الأستاذ محمود، انصرف مدير السجن وترك الأستاذ محمود وعصام البوشي ومالك حسين بالمكتب. بدأت المقابلة حوالي الساعة الحادية عشرة صباح الاثنين 14 يناير 1985، واستغرقت نحو ثلاث ساعات، تزيد أو تنقص قليلاً.

تحدث الدكتور مالك حسين للأستاذ محمود عن فرصة تراجع الرئيس نميري، إذا ما وافق الأستاذ محمود على نقل المواجهة، لتكون بين الأستاذ محمود والفقهاء، ويكون نميري بعيداً عن ذلك. رفض الأستاذ محمود رفضاً باتاً، اقتراح د. مالك بأن يطلب مراجعة الحكم من نميري، وأن يستبدله، بتوفير منبر له لمواجهة الفقهاء وعلماء الدين. وذكر الأستاذ محمود أن القضية ليست سلامته الشخصية، وأن القضية ليست أن يُعدم أو لا يُعدم، وإنما القضية هي سلامة البلد، وأهله المستضعفين الذين لم يجدوا من قوانين سبتمبر 1983م غير السيف والسوط. كما طلب الأستاذ محمود محمد طه أن تُشكر كل الجهات التي تسعى للعمل على إنقاذه، كاتحاد المحامين العرب، وأن يُؤكَد لها أهمية إيقاف أي تدخل أو وساطة، حتى لا تنحرف القضية عن مسارها، إذ أن القضية، التي ينبغي أن يتصدوا لها بالدرجة الأولى، هي قضية السودان، وشعبه المستضعف، وقضية تشويه الدين واستغلاله في القمع والقطع والبطش. وقد كان واضحاً، بصورة مذهلة، أن الأستاذ محمود لم يكن مهتماً بسلامته الجسدية.

في نهاية اللقاء، أكد الأستاذ محمود ضرورة ذهاب النظام وإسقاطه، إذ أن ذلك أمر يقتضيه الدفاع عن الإسلام، والدفاع عن السودان. ودعا الأستاذ محمود، مالك حسين وعصام البوشي للعمل في اتجاه إسقاط النظام، وذلك ليس بالخروج في المظاهرات، وإنما بالاتجاه إلى الدعوة للعصيان المدني، وتنفيذه بأن يظلوا في بيوتهم ولا يخرجوا منها إلى العمل، وسيتبعهم الناس فرادى ثم جماعات، حتى يسقط هذا النظام.

كان الأستاذ محمود سعيداً بالزيارة ومقدراً لمجهودات د. مالك حسين ومجموعته، وطلب نقل شكره وتحياته لهم مع تأكيد وصيته لهم، أن يكفوا عن وساطتهم، وأن يتداركوا أنفسهم، بالعمل على سحب تأييدهم وبيعتهم لنميري، والعمل على إسقاط النظام عبر العصيان المدنى. (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، “الابتسامة الخالدة: تجسيد المعارف على منصة المشنقة!!!: هل كانت هناك مساعي لمراجعة حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه؟ وما هو موقفه منها؟”، موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت، الرابط: https://www.alfikra.org/article_page_view_a.php?article_id=1234&page_id=1؛ صحيفة الجريدة، الخرطوم، السبت 23 نوفمبر 2013).

وهكذا ظل الأستاذ محمود محمد طه يدعو إلى استخدام سلاح العصيان المدني في وجه كل حكومة باطلة ومفسدة، كما هي حال حكومة انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق