
محي الدين جمعة
في تسعينيات القرن الماضي، كان جدي الفكي حسين سعيد، كما ينادونه في منطقة أرلي، شرق محلية كاس بولاية جنوب دارفور، وبعد التمدن الذي حصل لمحلية كاس ما بعد الخمسينات، أنتقل الفكي حسين إلى محلية كاس، واستقرا هناك، وكنت في وقتها أرافقه من المسجد ثم عوداً الى المنزل، وكنت في ذلك الوقت أبن السبع سنوات، وقد حفظت عنده بعض من الآيات والسور القرآنية، و كنت دائماً ارافقه خارج المنزل، فكنا ذات مرة نجلس بزاوية البيت وهي عادة مجتمعية، فسأله احد المارة بالشارع، أن الذين أتوا الى الحكم جاءوا و من أجل الدين، وقد تزامن هذا الكلام مع بدايات إعلان الجهاد في الجنوب، فرد عليه قائلاً: (نحنا الشيوخ ما عندنا شغلة بالسياسة ، والسياسة عمل الشيطان). مع أنني لم افهم ذلك الحديث الرفيع الا ان تلك العبارة رسخت في ذهني الى يومنا هذا.
يمر السودان اليوم بمرحلة جديدة بعد ثورة ديسمبر2018م، مرحلة بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهذا البناء لا ينزل من السماء وإنما بجهود من قاموا بهذه الثورة، ولكل بناء تحدياته، ومن تحديات هذا البناء هو تحقيق السلام الشامل في البلاد، مع محاورة جميع اطراف النزاع، وطي صفحت الحرب، ومن أجل ذلك وقعت حكومة الفترة الانتقالية المفاوضات مع قوى الكفاح المسلح، حتى إبرام اتفاقية جوبا، ألا أن هذه الاتفاقية لم تشمل جميع الاطراف المسلحة، (حركة جيش تحرير السودان، والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال).
لم تشمل هذه الاطراف بسب تباين المواقف الفكرية ما بين الحركتين وفد المفاوض من طرف الحكومة، وأضح أن أحد المواقف التباينية هو مطلب العلمانية، والذي قدمت الحركة الشعبية كجند تفاوضي، من خلال منبر جوبا ولقاءات أديس أبابا. الأمر الذي ادى إلى تأجيل الجلسات مع وفدي الحركة الشعبية ووفد الحكومي المفاوض، ولايزال هذه المطلب عائقاً في الوصول الى تحقيق السلام الشامل، وبرز من خلال هذه المواقف المتباينة بعض الأصوات ترفض اقرار العلمانية كمطلب تفاوضي، و تمثل هذه الاصوات تيارات مختلفة، منها إسلامية أصولية ومنها فكرية متواطئة معها.
ويُلاحظ أن المتمسكين بتطبيق الشريعة الإسلامية، ليسوا فقط بالإسلاميين أو جماعة الهوس الديني أو المتشددين أو المتعصبين، و أنما بعض المفكرين أيضاً، وهذا أن يدل على أن هذا الرفض للعلمانية و التمسك بالشريعة الإسلامية ليس على أساس التمسك بالإسلام كقيمة في ذاته وأنما من أجل توظيف الدين أي الاسلام، كزريعة، وحصان طروادة بمعنى آخر للوصول الى السلطة والهيمنة عبر الدين، و سيطرة الخطاب الآحادي و لأن الإسلام نفسه يحمل محمولات ثقافية وعرقية تاريخياً، وكرمزية لاستمرار السيطرة على المؤسسات السياسية، و يبدو الإشكال الآخر هو من أي منطلق يُنظر إلى مسألة علاقة الدين بالدولة في السودان، هل من منطلق مركزية الاسلاموعربية، مركزية الشرق الأوسطية، أو من منطلق الجزيرة العربية، أو المركزية الافريقية، الأفروعربية؟ و من خلال هذه التصورات( براديغم) المتعددة، أُدخل العلمانية في شبكة من التعقيدات. في المقابل والامر الذي لايوجد مثل هذه النزاعات عند معتنقي الأديان الافريقية و الذين ينظرون الى هؤلاء بنظرة غريبة، وهؤلاء اصحاب الكجور و الذين يعيشون مع الناس دون فرض اعتقاداتهم و ممارساتهم الدينية على الآخرين، بما أن تاريخياً في السودان في حقبة ما قبل الإسلام كان السودانيون يمارسون معتقداتهم الدينية دون التدخل في شؤون السلاطين و المكوك و الملوك مع أن التنصيب كان يتم في أماكن العبادة، والكهوف، و لم يكن للكهنة التدخل المباشر في الممارسات السياسية، والدليل على ذلك وجود القوانين العرفية المستمدة من تجاربهم الحياتية اليومية مثل قانون دالي في سلطنة دارفور، وتوجد وهذه القانونين الوضعية الانسانية في جبال النوبة و النيل الازرق، وكثير من مناطق السكان الاصليين ما قبل الاسلام. فلم نشهد معارك جهادية بين الأديان الافريقية، بل تعايشوا في سلام تام وتسامحوا بين جميع المكونات، فكانت المعارك فقط بسبب الارض أو تعدي الحدود الجغرافية.
أعتقد النموذج البنائي السليم الذي يمكن أن يُعمم على جميع المؤسسات السياسية للدولة هو نموذج جبال النوبة حيث أن هذه المنطقة يعيش الناس المؤمنون بالأديان المختلفة، حيث يُوجد المسلمين بمختلف الملل، الصوفي و السني، و نجد الكجوري (الأديان الافريقية)، و المسيحي، و جميعهم يعيشون في مجتمع واحد، وبعضهم ينتمون الى عائلة واحدة ، فلا يُوجد إكراه في ذلك، و يعيشون حياتهم الطبيعية، دون الهجوم على البعض أو النقد، أو الإدانة، أو التكفير، …الخ ينبغي في هذه المرحلة التأسيسية تجاوز تأويلات التجربة الغربية العلمانية، و تعقيداتها الفلسفية و الفكرية، فأن نموذج جبال فهو النموذج السوداني الخالص للممارسة العلمانية، اجتماعيا وسياسياً، تناسى الدكتور حيدر ابراهيم علي الحديث عن هذه التجربة ، مع أن الدكتور نفسه ولا أدري أن كان ذلك تعالياً لم يلاحظ هذا التعايش كونه من مُنظر المنهج السوسيولوجي في تحليل الصراع في السودان، بل ذهب ينتقد مطلب الحركة الشعبية بالعلمانية كأنما يعلن انضمامه إلى تلك التيارات الأصولية الرافضة، و أقول أن الحركة الشعبية تطالب بالعلمانية من حيث التجربة التي عاشتها و تعيشها الان ما بين مكونات جبال النوبة من متعددي الديانات و الثقافات، فهي مسألة طبيعية، أن تطالب الحركة الشعبية بالعلمانية، وبالإضافة إلى ذلك أن سؤال الأب فليب غبوش لايزال قائم، و الذي واجه به الدكتور الترابي في مداولات دستور 1968م، فقد سأل الأب غبوش الترابي: هل يحق لغير المسلم أن يكون رئيساً للدولة السودانية، فأجابه الترابي بلا. ومنذ ذلك الوقت أُضيف جذر جديد لجذور الازمة السودانية. وأن تحقيق السلام اليوم ينبغي تجاوز هذه الجذور والتي تشكل عائق كبير في الوصول إلى سلام عادل وشامل و رفاهية الشعوب و الانصراف إلى الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والبشرية.