
أحمد محمود أحمد
• سؤال الحداثة هو سؤال النهضة وسؤال النهضة هو سؤال الدين..
• عقبات تحديث الدولة السودانية عديدة ولكن لا استحالة أمام الإرادة الإنسانية.
• الثورة هي عنوان النهضة والبناء هو ناتجها..
السؤال الضرورة: هل من المشروعية بمكان الحديث عن الدولة الحديثة والحداثة في ظل غياب المقومات الضرورية لحياة المواطن السوداني عبر هذه المرحلة، بدءا من الخبز وغيره من ضروريات الحياة؟
الإجابة: الدولة الحديثة والحداثة هي التي تعني بهذا كله وبغيره، كيف؟
مدخل:
لقد انفتحت الفرصة التاريخية أمام الثورة المهدية وقيادتها للتفكير في بناء دولة ذات أسس حديثة تتقارب ومثيلاتها في تلك المرحلة، لكن طبيعة وتكوين قيادة الثورة المهدية لم تمكنها من التفكير في بناء تلك الدولة، وذلك نتيجة لتفكيرها الديني التقليدي، ومحدودية رؤيتها تجاه المتغيرات التي تحدث في العالم بالرغم من وطنيتها.. ولقد أدى تفوق الدولة الاستعمارية إلى هزيمة الدولة المهدية عبر الأسلحة المتطورة، ومن ثم سيطرة دولة الاستعمار على الوطن السوداني، لتبدأ بتحديث جزئي يمكن أن نطلق علية التحديث- المبتسر، لأنه لم يكن وليد التجربة السودانية ولم يعبر عن تطورها الذاتي.. ولهذا فإن التحديث هنا يعتبر فوقيا، أريد له خدمة مصالح الدولة الرأسمالية. وبخروج المستعمر انفتح الباب ثانية أمام القوى الوطنية لكي تشتغل على صيغة تحديث الدولة السودانية، وبالتالي الوصول لصيغة الحداثة بمفهومها الشامل، لكن ذلك لم يحدث. إذن ما هي الدولة الحديثة، وبالتالي ما هي الحداثة، والتي يرمي إليهما هذا المقال، وما هو الضائع فيهما سودانيا؟
الحداثة والدولة الحديثة:
يقول فهد المضحكي بإن الدولة هي (المؤسسة السياسية والاجتماعية المنبثقة عن المجتمع، والتي تملك وحدها الحق في ممارسة القوة باسم القانون بذريعة حماية الأمن المجتمعي، وإن للدولة صفة التميز عن غيرها من المؤسسات السياسية والاجتماعية، وهو ذلك الاعتراف المجتمعي لها بحق استخدام القوة وطلب الطاعة من المواطنين (1)
أما الدولة الحديثة فهي الدولة القومية، ولا وجود لدولة حديثة خارج إطار الدولة القومية، والمقصود بالدولة القومية هنا الدولة الوطنية (فقد سميت حديثة لأن أسسها ومرتكزاتها مغايرة تماماً لكل أنواع التنظيمات المجتمعية التي سبقتها بدءا من القبيلة، والعشيرة، والطائفة، وصولاً إلى الإمبراطوريات الدينية(2).
والأهم فإن (الحداثة مصطلح يبرز في المجال الثقافي والفكري والتاريخي، ويدل على مرحلة التطور، فمعظم الحياة الحديثة نفذت من مصادر متعددة سواء كانت اكتشافات علمية مذهلة، أو معلومات عن موقعنا من الفضاء وتصورنا عنه، وكذلك مكننة الصناعة التي حولت المعرفة بالعلوم إلى تكنولوجيا (3).
والأهم في هذا الصدد فإن الدولة الحديثة مرهونة بمفاهيم الحداثة وهي التي تعني بالفرد والمجتمع وتتيح للأفراد ممارسة حقوقهم دون تمييز وبغض النظر عن البعد العرقي، الديني، الطبقي، الجهوي، أو غيرها من المحددات ذات الصيغ الضيقة، والتي تتنافي ومفهوم المواطنة.
ومن المهم فإن الحداثة لا تتجسد إلا من خلال تحديث المجتمع، والأهم في هذا يتصل بتجاوز كافة الأشكال التي تحد من قدرة الإنسان على الإبداع، ولن يتم هذا إلا وفق شروط التعليم، والبناء الاقتصادي الذي يعني بتجسير الفجوة بين الطبقات، وكذلك شيوع الحريات، والديمقراطية التشاركية مرتبطا ذلك بفاعلية منظمات، وتنظيمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية..
وبناء على ذلك فإن الحداثة هي مشروع نهضوي يقوم على أساس معرفي يعي الواقع.
وفي حالة السودان فإنه من المفترض أن ينطلق من أرضية الواقع السوداني، واعيا بتجارب الآخرين في هذا الإطار، ويرى كاتب هذا المقال إن مشروع الحداثة سودانياً لن يتحقق إلا ضمن إطار قومي يدرك التحديات العميقة التي تواجه الدولة القطرية.
تعثر التحديث والحداثة سودانيا:
لقد طرحت مرحلة الخمسينيات من القرن المنصرم ضرورة تحديث الدولة السودانية، ومن ثم تطويرها، ولكن هنالك عقبات واجهت هذه الأهداف وهي:
أولا: ضعف التجربة الحزبية الوطنية، وضعف التنظير الفلسفي، والمنهجي الذي يؤسس لطريقة بناء حداثي يراعي طبيعة المرحلة وتحدياتها.
ثانياً: تشابك القبيلة والطائفة اشتغل على تضييق المساحة للتداخل الوطني، وحد من إمكانية إقامة لحمة اجتماعية موحدة تشتغل على قاعدة التماسك الاجتماعي..
ثالثاً: ضعف العملية التعليمية، وعدم القدرة على ربطها بمناهج حديثة تساعد على صياغة تفكير جديد ينزع تفكير الخرافة والسحر..
رابعاً: ضعف البناء الديمقراطي وغياب فكرة النهوض الاجتماعي القائمة على البعد الصناعي بديلا عن العقلية الرعوية التي لا تساعد في الاندماج..
خامساً: هنالك تحدي خارجي يرتبط بالقوي الرأسمالية الاستعمارية، وسعيها لإبقاء المجتمعات الأخرى، وغير الرأسمالية في دائرة التخلف حتى تغدو أسواقا مفتوحة للإنتاج الرأسمالي الساعي وراء الربح…
سادساً: الحداثة مشروع كبير يحتاج إلى إمكانيات، وبالذات فيما يتصل بالقوة الدافعة لتحديث المجتمع وعلى كافة الأصعدة، وهذا يتطلب أقصى الاستفادة من الإمكانيات المحلية، مرتبطا ذلك بدائرة إقليمية قومية تساعد على تعدد الإمكانيات، ووفرتها، وزيادة الطاقة البشرية لموقع جغرافي متسع كالسودان..
التفكير في الحداثة ومدى مشروعيته:
عندما نقول بالحداثة فإنما نقول بالدولة الديمقراطية العلمانية، والتي تتجاوز كافة الأشكال الناتجة عن الانتماءات الأدنى، وتأثير الدين المتشكل عبر الطوائف، والنزغات المتشددة.. وبهذا المعنى فإن الحداثة هي تجاوز موضوعي لكافة معوقات المجتمع، بما فيها النزعات الدينية المتخلفة، والتي تبقي الإنسان خارج دائرة التأثير الحياتي..
ولهذا فسؤال الحداثة سودانيا يبدو أكثر تعقيدا نتيجة للأسباب المذكورة سابقاً، علاوة على الأسباب التالية مع تكرارها أحيانا:
-1 ضعف البناء الوطني وتعقيد مسألة الهوية، وعدم ذوبان التكوينات ما قبل وطنية وفي إطار وطني جامع.
-2 االتدمير الذي أحدثته الأنظمة الديكتاتورية أدي إلى تدهور الطبقة الوسطي، وهي الطبقة التي يقع على عاتقها عملية التحديث، ومن ثم الحداثة.
-3 القوى التي قادت أنظمة الحكم، أما إنها قوى تقليدية، أو دكتاتورية عسكرية، أو ذات طابع ديني، وهكذا قوى ليس لديها القدرة على فهم جدل الحداثة والتحديث، إذ لا يساعدها وعيها على إدراك متطلبات الواقع، وضروراته بما يجعلها قوى تعمل على تجميد الواقع عكسا لتطويره..
-4 ضعف قوى اليسار، وتنظيمات المجتمع المدني، وغياب التفكير التنويري الذي يقوده المفكرون والمثقفون.
-5 التفكير الذكوري في المجتمع السوداني، وسيادة النظرة الأبوية في المجتمع حددت من مساهمة قطاع مهم، وهو قطاع النساء، يضاف إلى ذلك طبيعة التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة السودانية، وسيادة قيمة الطاعة مقابل الحوار والنقاش، والذي يطور من وعي النشء ومن ثم تأسيس المنهج الديمقراطي داخلهم.
6- سيطرة الدين من حيث جوانبه الغيبية والسحرية على الخيال الشعبي، وحتى لدى بعض المتعلمين وسيادة عقل الخرافة والشعوذة لدى الكثيرين منهم…
هذه هي العقبات الأساسية أمام الحداثة سودانيا، والخروج من هذه الدائرة رهين بتثبيت الديمقراطية واستدامتها وتطوير العملية التعليمية، وتطوير المناهج، وتنقيتها من الأفكار الخرافية والغيبية.
إن الحداثة مشروع لا يتم استيراده، بل يخضع إلى عملية جدل طويل، كما إنه يستند على فكرة التحول التدريجي بديلا عن القفزات غير المحسوبة، وكذلك الوعي بالزمن واحداثياته.
لقد طرحت ثورة ديسمبر قضايا ثلاث أساسية، وهي قضايا السلام، والحرية، والعدالة، وهي قضايا تقع في قلب الحداثة، ولهذا يجب التمسك بها.. وعليه فإن مشروع الحداثة والتحديث سودانيا لن يتحقق على المدى القريب، لأن العقبات التي ذكرتها ستظل باقية، وقد تؤدي الروح التي أسست لها الثورة إلى الانطلاق نحو الحداثة بالرغم من الصعوبات العديدة، وهذا تفاؤل حذر نتيجة لصعوبة التحديات التي انتجها تيار الإسلام السياسي والتي تتناقض أسسها مع الحداثة، ولكن في النهاية فإنه ليس أمام الشعوب أي مستحيل..
الثورة ومفهوم النهضة والتقدم:
في تصريح لوزير الثقافة والإعلام فيصل محمد صالح قال فيه بإن الانقاذ قد سقطت، ولكننا لم ننهض بعد… ومفهوم النهضة مفهوم معقد، لارتباطه بالتقدم والدفع إلى الأمام..
فسؤال كيف ننهض هو سؤال صعب ويحتاج إلى تنظير يذهب نحو التاريخ أولاً، ولا يقف فقط عند عقبات المرحلة الراهنة، والتي ذكرتها سابقا، كيف؟ فلا يمكن أن نستجيب لسؤال النهضة ما لم نستجيب لسؤال الدين في الواقع السوداني، ومعه الواقع العربي عموما، وهنا يكمن سؤال النهضة وإمكانية تفكيكه واجلاءه، هل هذا يعني بأن سؤال الدين وحده، والإجابة عليه يقود إلى النهضة، الإجابة ليست كذلك، لكن الإجابة على هذا السؤال تعتبر مدخلا مهما لمشروع النهضة، لأنه سيطرح طبيعة التفكير العقلاني، والحداثي، ومن ثم تفكيك الثقافة المتفرعة عن الدين، والتي تؤدي في بعض الحالات إلى تضييق الانتماء، وتقسيم المجتمع، ومن ثم انتفاء البعد الوطني والقومي، كما أن سؤال النهضة يتطلب الإجابة على سؤال من نحن، وماذا نريد، وكذلك صياغة المشروع الوطني الكبير الذي يتأسس على بنية اقتصادية سليمة تحقق مفهوم العدل الاجتماعي.
وفي الحالة السودانية الراهنة يتطلب النهوض القطيعة النهائية مع عهد الإسلاميين، وكنس كافة مخلفاتهم والبناء من جديد، وهذه مهمة عثيرة تتطلب الكثير من الجهد، ومطلوبات هذا البناء الجديد هي التي أدت لقيام ثورة ديسمبر، فالثورة هي عنوان النهوض، وما تبقي هو سؤال كيف نبني السودان؟ وهو سؤال صعب ومعقد، ومتروك للجميع الإجابة عليه؟
هوامش
-1 فهد المضحكي- مفهوم الدولة والدولة الحديثة – www.alayam.com
-2 صفية سعادة -غياب مقومات الدولة الحديثة في العالم العربي -www.alakhbar.com
-3 الحداثة.. ويكيبيديا.. بحث غوغل..