ثقافة وفن

مسارات الحكي في «جنوب الروح»: سيرة جماعية ذات نفس ملحمي

عبد العزيز كوكاس

«الكاتب إنسان يعيش على حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة، ذلك من اختصاص المؤرخين لا غير، إنه في الحقيقة يحترف الحلم، أي يحترف نوعا من الكذب المهذب، والروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقية». أحلام مستغانمي «ذاكرة جسد»

  اختيار موضوعة البادية كمحور للسرد، ليس أمرا جديدا في الرواية العربية، فالإِرْهاصات الأولى لهذا الجنس الأدبي ارتبطت بالفلاح وبالعلاقات الاجتماعية في القرى والأرياف منذ المويلحي ومحمد حسين هيكل وطه حسين وعبد الرحمان الشرقاوي، وأحمد زياد وعبد المجيد بن جلون.. وغيرهم، ولكن الجِدَّة تكمن في زاوية النظر والشكل الفني الذي يرصد من خلاله المؤلف التطور الاجتماعي للقرية وتَعَقُّد شبكة العلاقات الإنسانية بها، ويمكن التَّمييز بين ثلاث رؤى أساسية في تناول قضايا القرية والريف في الرواية العربية. (انظر كتاب محمد حسن عبد الله: «الريف في الرواية العربية» سلسلة عالم المعرفة، عدد 143 نوفمبر 89)

• الرؤية الرومانسية: التي اتخذت من البادية مركزا للتأمل وتصالح الذات مع جوهرها، حيث الامتداد الطبيعي المتموج للحقول والمزارع وأغاني الرعاة… بعيدا عن المدينة بتناقضاتها وصراعاتها وضجيجها، تتحول البادية في الرؤية الرومانسية الحالمة إلى مُعادل موضوعي للطبيعة البشرية الأولى، أي الفطرة الإنسانية التي تَزْخر بالحب والبساطة وكل المثل السامية (رواية زينب مثلا).

• الرؤية الواقعية: لم تعد البادية هنا إلا مجالا لتصريف الخطاب الإيديولوجي من خلال إبراز قُطْبية الصراع بين مالكي وسائل الإنتاج، الإقطاع والمزارعين الفقراء المحرومين، من هنا العمل على تَعْرية الواقع الاجتماعي وتصوير مشاهد الفقر والقهر ومظاهر الاستغلال والانتهاء إلى بُعد تَبْشيري، يُجسِّد الإرادة الاجتماعية للكتلة ذا المصلحة في التغيير، حيث تتحكم في هذا الاتجاه ثنائية الرفض والأمل، الهدم والبناء.. لأن مفهومه للحياة يقوم على فكرة الصراع والتضاد (روايتي»الأرض» و»الفلاح» للشرقاوي).

• الرؤية الرمزية: حيث تتحول البادية إلى فضاء متعدد، ومفتوح بأبعاد غرائبية أسطورية، يبتعد الكاتب هنا عن النقد المباشر والرؤية السطحية، وتمتزج رؤيته ببُعد شعري وعمق فلسفي يَغْرق في التخييل، مما يجعل الشكل الفني الغني بالرموز، مجالا للَّعب والتَّجْريب (سليم بركات في كل أعماله، رواية «السد» لمحمد المسعدي، و»مزمار نوار» لناجي التكريتي).

توظف رواية «جنوب الروح» فضائل هذه الرؤى مجتمعة ببُعد تخييلي يمزج بين لغة الحلم والأسطورة وشاعرية الكتابة من جهة، وبين المعرفة العميقة بالتحوُّلات التي صاحبت تطور المجتمع القروي بالمغرب من جهة أخرى، فهي لا تدخل في إطار الايسْتُوغرافيا، بل نفسها أقرب إلى ملحمة شعبية تسرد حكاية هِجْرة قاسية من الريف، هروبا من المجاعة والثَّأر، وتُصور التَّبدلات العميقة التي رافقت تطور المجتمع القروي بالمغرب من خلال الهجرة الداخلية نحو المدينة والهجرة إلى «الخارج».

إن الفرسيوي الذي «لم يقصد بهجرته سوى التَّحايل على الوقت ريثما تنتهي سنوات الجَدْب وينسى ذلك الثأر الذي أكل من قبل أفراد عائلة الفرسيوي» (ص40)، سيجد نفسه في مكان جديد (دوار بُومندرة) أمام علاقات جديدة تُغير مسار تلك السُّلالة الريفية كليا على مستوى الروح والجسد، وظل الدوار يتسع نسلا وأحلاما، فتَكْبر معه الحوادث المفجعة والسَّارة، وتنفتح الحكاية على مسارات مُتَوَهِّجة.

تُتَناول البادية في «جنوب الروح» بعيداً عن علاقات الفلاح/ الأرض/ الإقطاع/ السلطة.. وترتبط بما ينمو في ظل الذاكرة الشعبية، كأن الرواية تأريخ للْمَحكي بالمحكي الذي يتتبع المشاعر والجراح والأحلام والإحباطات الجماعية أمام تعقد العلاقات الإنسانية وقَسْوة الطبيعة وتبدلات الزمن، تأريخ للحكاية «التي ابتدأت بنزوح غامض، وها هي تُسرع نحو نهاية أكثر غموضا»! (ص39)

فالحكي هو المسار الذي تتكئ عليه الشخصيات لترسم ملامح هوية تتعرض باستمرار للتَّشظِّي، وبقايا أحلام وأماني جماعية أخذت تنطفئ بسرعة تحت سلطة أحداث خَفِية ظلت تَزْرع الفناء «في الناس والأمكنة»، وما يحكم علاقات الشخوص هو ذاكرة الحكي من خلال هَيْمنة الذاكرة الشعبية، فكل الأحداث التي مرت بالدوار، ماضيها وحاضرها، تبدو كأحلام يحكيها سلام الفرسيوي العارف بأسرار مقبرة بومندرة، قبرا قبرا حتى ليبدو مثل سجل تاريخي، ذاكرة تتلفع بأرواح موتاها ضدا على غدر الزمن: «فختم سلام قائلا: آشْ دَاز في هذا الدوار، آش من علماء، آش من رجال، آش من سْبُوعا، فَايَن الفقيه السِّي عبد السلام، فايْن السي بن علال (…) فاين ذاك بْنَادم اللِّي كان في إِيفريسون وإِيزِيزْده وتِيزُورين، بْحَال إلى دَوَّزْنا شي حْلاَمة»! (ص19)

تحكي همُّوشة حادثة اختفاء الفرسيوي لمدة خمس سنوات، تجلس مع النساء اللواتي «يحكين أحلامهن ويجتهدن في تأويلها»، ومحمد الفرسيوي الذي يبدو كسليل للحكاية، يمتهن الحكي في مكناس ومراكش والرباط والبيضاء.. تختلط في حكاياته الأحاجي التي سمعها في طفولته وسيرة أبيه وحياة جسده وأحلامه، لذلك فهو يَعْبُر «الحكاية مرتين» ويبدو كأنه يمشي «في تراب الحكاية»(ص116)، وعندما يُحِسُّ بانطفاء الأمكنة والأحلام وتشتُّت الأشخاص بفعل الهجرة القاسية ولعنة التيه، يُدَوِّن في دفتره عشرين صفحة هي نواة الحكاية التي يلتقطها الإبن «كوصية سرية».

ما يميز رواية «جنوب الروح» أيضا، هو هذا التعدد الهائل للشخصيات والأمكنة الذي يعكس خِبْرة الكاتب بالمواقع والأسماء ومعرفته القوية بالجغرافية السرية لشبكة العلاقات الإنسانية للهامش المغربي، من «الريف المُغَنْدف»، بتعبير الرائع الأمين الخمليشي، إلى شِعَاب الأطلس في الوسط والجنوب.

ليست هناك رواية مغربية، في حدود علمي، تَحْوي هذا العدد الفائق من الأمكنة والأسماء.. يحْصِي الأستاذ أحمد شراك 64 إسما في الرواية، منها 40 اسما رجاليا و24 إسما نسائيا، و99 إسما للفضاءات والأمكنة. الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» 7 يونيو 96، مما يجعل من «جنوب الروح» رواية للذاكرة الجماعية، للأشياء وللأمكنة، للأفراد والجماعات، وللأحلام وضدها: ولادات متَوهِّجة، جراحات عميقة، أحاديث سرية حول الجنس والعشق، أحلام تكبر في الظل، ظلال أسطورية تجسد ملامح القلق والحزن لدى أهل الدوار، ثم يأتي الرحيل الذي يُصيب الأمكنة والأشياء والأشخاص بلعنة التّيه والمحو، وتقف الذاكرة حاجزا يتيما ضد النسيان والتلف والموت البطيء، مما يجعل من الرواية سيرة جماعية ذات نَفَس ملحمي.

استطاع المبدع محمد الأشعري من خلال هذا العمل الروائي المحكم البناء أن يكشف عن بعد أساسي في الذاكرة الشعبية، أقصد تلك البُنَى المتحكمة في صَيْرورة اللاَّوعي الجماعي للهامش، من خلال آليات اشتغاله الذاتية، وليس من خلال انعكاساته في أحلام وهَلْوسات النخبة في المركز، عبر تصوير الأعراف القبلية ونوعية الروابط الروحية التي تربط الإنسان البدوي بالطبيعة والأشياء والزمن، ورصد التحولات الجارفة التي لحقت المجتمع القبلي العشائري في المغرب منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر، والتي أفرزت أنماط عَيْش مختلفة وقيما جديدة وشبكة من العلاقات المعقدة.

السمة الأساسية لهذا التحول هو لَوْثة التيه والرحيل الذي يُصيب الشخوص والأمكنة: «فبعد صخب الحياة وضجيج الوجود المتحرك سيأتي العدم الشامل، كأن كل ذلك لم يكن سوى لعب، كأن كل تلك المشاكل والمآسي والأفراح وأَوْجاع المخاض والزّيجات الصعبة، والبكارات المفتضة وحفلات الختان، وغير ذلك من الضجيج لم يكن سوى تمهيد أَحْمق لهذا الخواء الشامل»(ص34).

لذلك ظلَّت الشخصيات تتساقط كأوراق الخريف: الفرسيوي، سلام، كنزة، هَمُّوشة، نجيمة، ويامنة شاعرة القرية التي ظلت تحمي الذاكرة الجماعية لبوُمَنْدرة من النسيان والتَّلف.. وأمام الانجراحات العميقة والأماني المحبطة التي ولَّدتها قسوة الزمن والطبيعة، وتضخُّم مشاعر العجز والقلق، ظلت تنمو صور الشخصيات الأساسية في دوار بومندرة لتتحول إلى رموز مثالية تُؤَمِّن استمرار الوجود، وتُعَدُّ بمثابة الجسر الذي يربط بين القيم الثابتة في روح القرية وبين متغيرات التحول الذي فرضه التطور التاريخي للمجتمع المغربي.. وهنا يتمظهر البعد الغرائبي الأسطوري، من خلال ذكر الأولياء والأضرحة وكرامات المتصوفة وتلك العلاقات الروحية التي يُقيمها البدو مع أشياء الطبيعة وكائناتها، كما في حادث جفاف العين التَّحْتية: «فاقتنع الجميع بحزن صاعق بأن ماء العين التَّحتية الذي كان مَعِينا منذ الأزل قد هرب، وأن هذه ليست سوى لعنة حلَّت بسبب اعتداء البشر على مكان له أهله» (ص101).

إن الأسلوب المتميز للأشعري في التقاط التفاصيل والجزئيات، وتتبع المشاهد والأحداث عبر تداخل الأزمنة وتعدد الفضاءات… يجعل من «جنوب الروح» عملا روائيا متميزا، يشكل إضافة جديدة في حقلنا الإبداعي السردي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق