سياسة

أثر التطبيع السوداني – الإسرائيلي على الأمن القومي المصري (٣)

(أبحاث المركز الديمقراطي العربي)

4 – لإسرائيل مصالح مباشرة وغير مباشرة في تطبيع العلاقات مع السودان، حيث يعتبر موقع السودان على البحر الأحمر مهمًا من الناحية الإستراتيجية لإسرائيل، حيث أنها تسيطر على الطرق البحرية المؤدية إلى ميناء إيلات وهي عقدة رئيسية داخل شبكات نقل الأسلحة إلى غزة وسيناء. وبالتالي، فإن العلاقات الودية والتعاون الأمني الوثيق مع الخرطوم يمكن أن يقوض إلى حد كبير الروابط بين إيران والمنظمات المسلحة في غزة. (20)

5 – تطبيع العلاقات مع السودان يتناسب أيضا مع استراتيجية اسرائيل في توطيد العلاقات مع دول حوض نهر النيل، والذي تعلقت به رغبة إسرائيل الدائمة في الحصول على مياهه.(21)

– التداعيات الجيواستراتيجية لاتفاقية التطبيع

على الأمن القومي المصري :

كان لمصر والسودان النصيب الأكبر في الاستراتيجيات الإسرائيلية؛ مصر بسبب موقعها الحيوي، ومرور قناة السويس من أراضيها، وبسبب ثقلها السياسي، وقوتها العسكرية والاقتصادية، وثرواتها المائية، ودورها الإقليمي، ليس فقط في القارة الإفريقية، بل وعلى الساحة الدولية؛ لذلك ظلت إسرائيل ترى في مصر الدولة العربية الواجب إضعافها دائماً، كونها الدولة الأبرز من دول الطوق القادرة على مجابهة “إسرائيل” سياسياً وعسكرياً واقتصادياً

وأما السودان فمهم لموقعه وثرواته وإمكاناته، حيث أن حدوده هي حدود العروبة في قلب إفريقيا، وإمكاناته هي إمكانات الأمة جمعاء، وتقدمه يعني تقدمها وضعفه هو ضعفها، فهو سلة الغذاء العربي، وهو مجرى النيل، وفيه أخصب أراضي العالم (22)

منذ بداية تشكيل الاستراتيجية الإسرائيلية في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion، أصبح السودان محل استهداف إسرائيلي نظراً لكونه في العمق الاستراتيجي الجنوبي لمصر، وكان الاتجاه دائماً صوب تفكيك العلاقة مع مصر، ودعم الحروب الأهلية، وتمزيق السودان إلى دول وأقاليم متنازعة، وجعل السودان بؤرة توتر وقلق مصري دائم، وإضعاف السودان ومنعه من التحول إلى دولة مؤثرة أو مركزية أو محورية في محيطها الإفريقي.

ومن الجوانب المهمة في هذا السياق أن مصر، الجارة القوية للسودان، والتي تعد نفسها صاحبة الولاية المعنوية عليه، وأنها صاحبة القرار الاستراتيجي في مصيره، ليست سعيدة بهذا التطبيع ولا تعدّه إضافة إيجابية لها، لا سيّما أن مبررات التطبيع تتعلق بها بالأساس، ومن شأن تطور العلاقة السودانية الإسرائيلية أن يكون خصماً على حساب مصر ونفوذها، وإضعافاً لدورها في السودان، وستعمل مصر على استعادة دورها بسرعة بعد خروج السودان من العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، وستحاول أن تحلَّ محل “إسرائيل” في التواصل مع الإدارة الأمريكية بشأن إدارة الملف السوداني مستقبلاً كما كانت سابقاً.(23)

وبالتالي فان اتفاقية التطبيع بين السودان واسرائيل قد يكون لها عدد من التداعيات الجيواستراتيجية على الأمن القومي المصري  سواء على المدى القصير أو البعيد. وتجدر الاشارة الى أن هذا التطبيع اذا انتقل من مستواه الجزئي الى المستوى الكلي، وأدي الى مزيد من التعاون بين السودان واسرائيل، فإنه من المحتمل أن يؤدي الى تداعيات قد تضر بالأمن القومي المصري على النحو الآتي:

أولاً : الأمن المائي المصري وموقف السودان من سد النهضة

المتابع لملف سد النهضة لا بد أن يلفت نظره الموقف السوداني من هذا السد وذلك على مدى تسع سنوات، فهناك من يراه قد تحوّل في الفترة الأخيرة، وهناك من يراه يتسم بالغموض، أما الفريق الثالث وهو من السودانيين، فربما يتهمه بأنه يهمل قضايا سلامة السد على حساب الأمن الإنساني للشعب السوداني، وينخرط فقط في قضايا تخزين المياه وتشغيل السد، التي هي هموم مصرية أكثر منها سودانية.

هذا الملف كان مسكوتاً عنه تماماً على المستوى الداخلي وقت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، بينما يشهد حالياً جدلاً واسعاً في النقاش العام السوداني وذلك في وقت تتداخل في هذا الملف فواعل إقليمية رسمية وغير رسمية تؤثر في هذا الجدل السوداني المتصاعد بشأن سد النهضة.

ربما يكون من المتفق عليه أن الرئيس المخلوع عمر البشير ووفق مفهوم قاصر قد نحّى المصالح السودانية في هذا الملف، وتم توظيفه في مسائل التوظيف والابتزاز الإقليمي الذي كان بارعاً فيها إلى حد إعادة تموضع السودان الإقليمي أكثر من مرة  على مدى سنوات قليلة، وذلك على نحو يخالف مصالح الدولة الاستراتيجية، وفي هذا السياق تم تعطيل أية دراسات سودانية فنية عن هذا السد في أروقة الجامعات السودانية مثلاً أو حتى في وزارة الري التي تبنت خطاباً يمجد في السد ويعدّد الفوائد العائدة على السودان منه وهي المتمثلة في التحكم في فيضان النيل الأزرق والحصول على كهرباء بأسعار تفضيلية كما وعد الإثيوبيون، حيث تم إسكات الأصوات التي كانت ترى خطورة هذا السد على مصالح الخرطوم، وتم منع حلقات النقاش العلني في هذا الأمر تحت سقف انخفاض الحريات العامة.

ولكن مع تغيُر النظام في أبريل (نيسان) 2019 وبداية تبلور أطراف جديدة للنظام السياسي السوداني في أغسطس (آب) من العام ذاته، انفتحت أبواب النقاش الداخلي في ملف سد النهضة، كما أفاق السودان على صدمة عدم الحضور الإثيوبي لجلسة التوقيع على اتفاق تم بلورته تقريباً عبر ثلاثة أشهر من المباحثات برعاية من الإدارة الأميركية والبنك الدولي، وذلك في فبراير (شباط) الماضي، كما احتكت النخبة السياسية السودانية الجديدة وعن قرب بالأداء الإثيوبي وطبيعة مراوغاته في مباحثات واشنطن فضلا عن الضغط التي تمارسه اثيوبيا على السودان في المناطق الحدودية بينهما . إن عدم الالتزام الإثيوبي بالتوافقات التي يتم التوصل إليها في سياق سد النهضة، يسهم بشكل أساسي في تآكل مصداقيتها على المستوى السوداني الرسمي

وخلال المحادثات المشحونة حول ملء السد وكمية المياه التي يجب أن يطلقها، والتي استؤنفت مؤخرا تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، كان السودان يميل إلى جانب مصر وظهر التضامن مع الموقف المصري في جلسات مجلس الأمن والمباحثات الخاصة باالسد من فبراير الى يوليو 2020

كما أن الجنرالات الذين ظلوا جزءا من الحكومة الانتقالية التي تحكم السودان الآن هم حلفاء أقوياء لمصر، كما أثار أحمد المفتي مفاوض السودان في عهد البشير مخاوف بشأن سلامة السد وأمنه.

وفي ظل هذا التغير في الموقف السوداني من حين الى آخر ازاء قضية سد النهضة نجد أن هناك بعض الاراء ترى أن هناك منافع للسد على السودان خصوصاً مع الفياضانات التي ضربت السودان مؤخراً، كما أن سد النهضة سيمكن أيضا سدود السودان من توليد المزيد من الكهرباء بالإضافة إلى شراء كهرباء رخيصة ونظيفة من إثيوبيا.

وبالتالي تطبيع العلاقات بين اسرائيل والسودان قد يجعل اسرائيل تفكر في التأثير على موقف السودان الحالي المتضامن مع مصر ازاء قضية سد النهضة عن طريق استغلال التباين في وجهات النظر السودانية حول ملف سد النهضة واستغلال الوضع غير المستقر سياسياً واقتصادياً في السودان لتهديد أمن مصر المائي والتأثير في توجهات السودان المتضامن مع مصر ازاء السد، تحاول اسرائيل أن تستثمر فى أزمة سد النهضة، وتطرح نفسها طرفا رابعا بجوار مصر والسودان وإثيوبيا، لعلها تحصل مستقبلاً على حصة من مياه النيل.

خصوصاً أن الشركات الإسرائيلية تجد أيضًا آفاقًا اقتصادية في السودان حيث ترى أن سد النهضة الإثيوبي ، الذي تملأه إثيوبيا حاليًا ، يوفر الفرصة لمشاريع تنموية كبرى في السودان أيضًا بناءً على التوقعات المتفائلة، سيحسن سد النهضة تنظيم المياه في نهر النيل ويوفر الكهرباء للدول المجاورة ، مما يوسع القدرات الزراعية والصناعية في السودان قد تجد شركات التكنولوجيا والمياه والزراعة الإسرائيلية هذه المشاريع جذابة.

وتجدر الاشارة الى هناك دراسة من معهد دراسات الامن القومي بجامعة تل أبيب عام 2018 ترى في التعنت الإثيوبي فرصة كبيرة لإسرائيل لإيصال المياه لها عبر مصر من خلال اجبار دولتي المصب .

فاسرائيل دائماً ما كانت تسعى الى توطيد العلاقات مع دول حوض نهر النيل والذي تعلقت به رغبة إسرائيل الدائمة في الحصول على مياهه؛ من خلال الضغط على صانع القرار المصري، نظراً لحساسية ورقة المياه في الاستراتيجية المصرية، وكان لإسرائيل دائماً الدور غير المباشر في صراع دول حوض النيل، مستفيدة من نفوذها الكبير في دول مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا

كما أن من أبرز الأهداف الإسرائيلية العامة في إفريقيا، هي التأثير في الأمن المائي والغذائي العربي وبالأخص المصري فهي تستخدم الماء وسيلة للضغط على الدول العربية الإفريقية، وعلى رأسها مصر التي تعد قضية المياه بالنسبة لها قضية مصير وحياة أو موت، ومن ثم فإن التنسيق الإسرائيلي مع دول منابع النيل، وخاصة إثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وحالياً بالتطبيع مع السودان، قد يمثّل تهديداً سواء على المدى القصير أو الطويل للمصالح المصرية بشكل لا يحتمل التأويل.

والتهديد على المدى الطويل هنجده من خلال سعي اسرائيل للتأثير على أمن مصر المائي من خلال التأثير المباشر باقناع السودان مستقبلاً بإنشاء سدود على النيل بما يؤثر على أمن مصر المائي خصوصاً أن اسرائيل لها أدوار تاريخية في هذا الشأن ففي مجال بناء السدود المائية مثلا؛ قدمت إسرائيل دراسات فنية إلى زائير ورواندا لبناء سدود، وذلك في إطار برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى، وبالتالي التحكم في مجرى النيل. وفي زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي “ليبرمان” في أيلول 2011 لعدد من الدول الإفريقية، أبرم 5 اتفاقيات لتمويل 5 سدود على نهر النيل في تنزانيا ورواندا. وقد أكد خبراء المياه الدوليين أن هذه المشاريع ستؤثر سلبا على حصة مصر السنوية من المياه .

لقد أصبحت قضية الأمن المائي من أهم المحاور الرئيسية التي أضافت بعدًا جديدًا للصراع العربي الإسرائيلي، فإسرائيل تريد أن تضمن الحصول علي المياه وفي نفس الوقت تريد أن تمنع العرب من ذلك،  لذلك فهي تعمل علي تهديد الأمن المائي العربي خاصة مصر،  مستفيدة في ذلك من النفوذ الكبير الذي تمتلكه في دول المنابع مثل إثيوبيا ورواندا وكينيا، والتطبيع مع السودان قد يفتح المجال مستقبلاً بتعزيز العلاقات مع اسرائيل بما يؤثر على الأمن المائي المصري وتعد الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر النيل ليست جديدة فنجد أنه بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 ظهرت عدة مقالات في الصحافة الإسرائيلية تدعو لشراء مليار متر مكعب من مياه النيل وتوجيهها لصحراء النقب لتأمين المياه لإسرائيل، إذا فالأهداف الإسرائيلية في تهديد الأمن المائي العربي واضحة وصريحة.

ثانياً: الملاحة الدولية في البحر الأحمر

تطويق الأمن القومي العربي وتهديد أمنه المائي حيث تعمل إسرائيل على تحجيم النشاط العربي في أفريقيا من خلال تطويق الدول العربية بحزام موالي لإسرائيل بتعميق الخلافات بين الدول العربية والأفريقية، والسيطرة على البحر الأحمر لأن تواجدها فيه يؤمن لإسرائيل الحفاظ على أمنها القومي والوصول للعالم الخارجي، فهي تخشى من تحوله إلى بحيرة عربية خالصة فالبحر الأحمر نقطة رئيسية في الأمن القومي المصري نظراً لأنه المجال الملاحي المهم لمصر من خلال قناة السويس والسيطرة عليه تعتبر نقطة قوة كبرى لمن يمتلكه.

فقد شكّل الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر وكذلك مضيق باب المندب أهمية كبرى، لذا حرصت القيادة الإسرائيلية على الوصول إلى البحر الأحمر والحصول على منفذ بحري على هذا البحر الذي يربط قارة إفريقيا بآسيا، كما ظلت سياسة إسرائيل في القرن الإفريقي امتدادًا لسياستها في البحر الأحمر رامية إلى منافسة الأهداف الإستراتيجية العربية، وإنشاء عمق إستراتيجي لها في هذه المنطقة للحفاظ على أمنها وضمان تحقيق مصالحها وتطلعاتها للهيمنة وتوسيع الوجود العسكري وترسيخه، وذلك يتيح لها إمكانية الهجوم المباشر على خصومها في مضيق باب المندب، وتأمين خطوطها البحرية والعسكرية فضلًا عن التجسس على العديد من الدول العربية وهي (مصر- السعودية- اليمن- جيبوتي- الصومال)،  لذا سعت إسرائيل إلى توثيق علاقتها بدول القرن الإفريقي ولاسيما إثيوبيا وأيدت سيطرة إثيوبيا على أريتريا منذ عام 1952، عندما أعلن موشي ديان أن أمن إثيوبيا وسلامتها يشكلان ضمانة لإسرائيل، والآن استطاعت أن تفتح مجال العلاقات مع السودان بما قد يعزز أكثر من الوجود الاسرائيلي في البحر الأحمر ويرسخ من وجوده وهذا أمر غير مقبول بالنسبة للدولة المصرية التي ترى ان أمن البحر الأحمر هو جزء من الأمن القومي المصري كما تهدف إسرائيل أيضاً الى فتح الأسواق الأفريقية أمام الاستثمارات والمنتجات الإسرائيلية وتحقيق تبعية الاقتصاد الإفريقي لها لكسر الطوق الاقتصادي العربي في القارة .

وبالتالي بعد اتفاقية التطبيع مع السودان قد يفتح ذلك الباب أمام اسرائيل الى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع السودان وزيادة التبادل التجاري معها ومنافسة المنتجات والاستمارات المصرية في القارة بشكل عام وفي السودان بشكل خاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق