سياسة

خارج المتاهة

من "مقصورة" الحكومة: وزير استثنائي للوزارة الأهم

محمد عتيق

بعد اتفاقية القاهرة عام ٢٠٠٥ بين النظام الساقط والتجمع الوطني الديمقراطي، وعند تكوين الحكومة الجديدة بين النظام والحركة الشعبية وبين فصائل التجمع التي وافقت على المشاركة فيها، انغمس الجميع في تقاسم وزارات السيادة وما أسموها بالوزارات الهامة بينما بقيت وزارة التربية والتعليم (كما وزارة الثروة الحيوانية في السابق) بعيدةً عن الاهتمام والتدافع ولا أحد يطلبها، فتركوها لتكون من نصيب التجمع إلى أن وجد لها مولانا الميرغني رئيس التجمع وزيراً من عنده ظل جالساً على كرسيها (كرسي الوزارة) بالعمة والصديري حتى نهاية عمر اتفاقية القاهرة عام ٢٠١٠ !! وذلك نموذج واحد من نماذج عدم الالتفات إلى وزارة التربية والتعليم وإدراك خطورة رسالتها وأثرها على المجتمعات كما على السودان والسودانيين..

بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ وإدراك الجميع أنها أوان التغيير الجذري، وإدراك معطيات الحياة ومتطلباتها، وأن رأس المال الأهم فيها هو الإنسان المسلح بالعلم والمهارات والعقل النقدي المبدع، القادر على الخلق والابتكار، بعد الثورة، وعند تكوين الحكومة الانتقالية، كان إجماع كل الأطراف على مرشح قوى نداء السودان البروفيسور العالم محمد الأمين التوم وزيراً للتربية والتعليم، والذي انطلق من حقيقة أن “الجهل متفش عندنا بكل أسف، وليس الجهل بمفرده، وإنما الجهل والفقر وهو الأخطر، لعن الله الفقر وقبله الجهل، فإذا اجتمع الجهل والفقر تكون الكارثة ….الخ .. وذلك عبء ثقيل على القائمين على أمر التعليم في البلاد..” فارتسم أملاً وبؤرة ضوء للعارفين والمتابعين المدركين لجذر الأزمة عندنا، وأثار المزيد من التطلع والتفاؤل عندما قال: “أنا ومعي مجموعة كبيرة من المهتمين بأمر التعليم نعمل ليل نهار لنصلح حال التعليم وبدأنا فعلاً واتخذنا خطوات عملية في هذا الاتجاه، وسنستمر إلى أن تنتهي هذه المرحلة الانتقالية ونأمل عندذاك أن يجد من يخلفنا أن هنالك أسس متينة لنظام تعليمي يتوافق مع إلتزام الحكومة بتوفير تعليم جيد ومنصف ومجاني وشامل للجميع بحلول ٢٠٣٠” .. وشرع في أداء رسالته بحماس بالغ وهمة عالية، ولكن، وقبل أن يستكمل وضع أسس التغيير، فرضت بعض التطورات السياسية إعادة تكوين الحكومة الانتقالية لاستيعاب المستجدات .. ورغم الإعلان عن الحكومة الجديدة ووزرائها “في ٨ فبراير ٢٠٢١” بقيت وزارة التربية والتعليم خاليةً و ( التي لا تزال المشاورات تجري بشأنها) – كما قال رئيسها – لما يقارب الشهرين حتى الآن !!، ولكن، لا متسع من الوقت لإضاعته في انتظار تعيين وزير للتربية والتعليم، يكفي شعب السودان أنه سينتظر طويلاً إلى أن يشعر أنه يعيش سعيداً في وطن امتلك زمام أمره ووضع يديه على كامل ثرواته، في باطن الأرض وظاهرها، وهو الانتظار الطويل الذي سيكون لنتائج خطط التعليم وبرامجه ومناهجه في شكل انسان مسلح بالعلم والعقل النقدي البناء، مدرك لحقائق العصر، منتجاً مساهماً فيه وفي كافة ابداعاته العلمية والفكرية والفنية، وبالتالي ؛ بدء حسابه يكون عند تسمية وزير مؤهل للتربية والتعليم ..

آثار النظام الساقط طوال الثلاثين عاماً لا زالت فينا ثقافةً وسلوكاً، وفي أحزابنا بالنتيجة فهي منا؛ في الأنانية التي تحكم مواقفنا وتصرفاتنا، في ازدراء القوانين واللوائح وارتكاب الجرائم والمخالفات (المرور مثالاً)، في النزعة الواضحة للفساد والإفساد (الرشوة والارتشاء مثالاً) .. نردد لغته ومفرداته : (صحيح أن بعضها رصينة في المعنى النظري ولكنها اصبحت فارغةً من معانيها بالترديد الببغائي غير المسنود بالإنجاز، وفي الكذب، حتى على مستوى رجال الدولة (القدوات افتراضاً)، كما يتجلى في تحديد موعد لاستكمال إنجاز معين مثلاً فيمر الموعد دون تحقيق للوعد ولا اعتذار عنه !!، وكما ظهر أيضاً في موضوع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي مما يتذكره الجميع، فالكذب أصبح مفردةً شائنةً منحطةً ومحصورةً في القواميس لا وجود لها في حياة الشعوب الناهضة وقادتها، وقديماً سئل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: أيسرق المؤمن؟ قال : نعم، أيزني المؤمن ؟ قال : نعم، أيكذب المؤمن ؟ قال : لا … ” يفسر الشيخ الشعراوي ذلك بأن للسرقة والزنى عقوباتها المحددة في الشرع، أما الكذب فإنه يعني الخروج من حظيرة الإيمان، من الملة، من ألإنسانية ومعاييرها، من الوطن والأسرة وأواصرها..”

  أما الجهل (بصراحة) فإنه يباغتك أينما ذهبت، حتى في اللغة العربية (لغتنا الرسمية) في أبسط استعمالاتها كما هو الحال في أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حيث تداهمك الأخطاء من كل صوب، مثلاً نورد ياءً للأنثى المخاطبة في غير موضعه فنكتب: إليكي، فيكي، جئتي (بدلاً عن إليك، فيك، جئت) وإذا لم تفعل ذلك يأتيك الاحتجاج من الطرف الآخر بأنها أنثى وليس ذكراً!!! ناهيك عن الأخطاء النحوية والاملائية التي تعج بها الصحافة ..

  نرجو الإسراع بتعيين وزير للتربية والتعليم، عالماً مقتدراً وقادراً على القيام بالمهمة التاريخية، المهمة الاستثنائية، بعيداً عن (المحاصصات) الجارية وعن المواصفات الموضوعة، لا يهم لأي حزب من أحزاب الثورة ينتمي إن كان حزبياً، وأن لا يخضع لاشتراطات مسبقة يوافق عليها “كالتطبيع مع اسرائيل أو القبول بشروط البنك وصندوق النقد الدوليين” كما هي التقليعة مؤخراً، وزير يستطيع أن يضع أساساً متيناً لإنسان الغد فتضرب الأمم المثل بالسودان في البناء والنهوض عبر الاستثمار في الانسان كما هو الحال اليوم بماليزيا وسنغافورة ورواندا ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق