سلايدر

السودان وجحيم الانتقاليّة إلى متى …؟!

هل سنعبر يا حمدوك؟

د. محمد بدوي مصطفى

من أين أبدأ رحلتي؟

قبل شروعي في كتابة هذا المقال تحدّثت إلى أحد أصدقائي عن رغبتي في رصد الصورة الآنية بالبلد، فجاءت إجابته كالآتي: “أخشى أنك تحتاج لمعطيات كثيرة، لا قبل لك بها.” وحقيقة تبدّى لي الأمر من أوّل وهلة موغلًا ووعرًا رغم صراحة المشهد الفاضح الذي يتكرر أمام أعيننا أو يحكيه كل من يصلى سعيره من أهلنا في كل لمحة ونفس. حدّثت نفسي، من أين أبدأ وموجات الغلاء الطاحن لا تفتأ تهوي بفؤوسها على رؤوس الناس والمدن على حدّ سواء. تزدحم الباحات وتمتلئ المكاتب والطرقات داخل المدن بالصفوف وقبلها بمرارات الناس التي هلكتها متابعة وتيرة هذا الجحيم الأبديّ وهذه الحياة القاسية التي لا تنتظم إلا بتكدس الصفوف وحتى لأبسط الأشياء وحدّث ولا حرج! هناك من جاءوا من كل صوب وحدب ليقفوا عليها دون رجاءات تُذكر أو آمال تُعقد بأن تنحلّ مشاكلهم في التوّ. في الحقيقة لا توجد مشكلة من المشاكل في هذه الآونة ويمكن أن تنحل في نفس الساعة أو لنقل اليوم. تملأ كل هذه العقبات والعقد ترهات الحياة والمواطن الضعيف المغلوب على أمره هو الذي يدفع الفاتورة، ومَن غيره؟! هل يعقل أن يأتي الناس من قرى الجزيرة بغرض صرف مبلغ زهيد من المال في إحدى أفرع ويسترن يونيون ويرجع بعد أن يقضي يومًا أو يومين واقفا أمام الوكالة بخفيّ حنين. ويبدو أن الصرافات مفلسة أو حسب ما يعلنون أن النظام به عطل وهل يعقل؟! يا إلهي ما هذه المهازل وأين بنك السودان وبنك الخرطوم من كل هذا وأين الحكومة ووزير المالية الذي دعا الناس إلى التعامل مع البنوك والصرافات وتركْ السوق السوداء. فما هو الحل يا سعادة الوزير؟

ومِن الناس مَن يأتي من آخر الدنيا ولأبسط ابجديات الحياة: الخبز الذي صار عملة صعبة في كل مدن السودان ووقف له الناس أمام المخابز الساعات الطوال تبجيلًا واحترامًا، ومنهم من وقف حتى قبل أن يُنادى للصلاة من وقت الفجر. وفي النهاية تكون الحصيلة عدّة رغيفات تسد الرمق.  إذن أرجو أن أطرح سؤالي مرّة أخرى، من أين أبدأ يا سادتي؟! هل أبدأ بشحّ الخبز أو انعدام الغاز والوقود أو انعدام سيولة النقد في مصارف البلد، والقائمة طويلة ولن تنتهي. ربما يتساءل الكثيرون عن سبب هذه “الجائحة المعيشيّة” الطاحنة إن صحّ التعبير. ولماذا لم تستطع حكومة حمدوك في القضاء عليها. أيصعب عليهم أن يوفّروا الخبز للمواطن بينما تُدفع المليارات في سداد فواتير قديمة للبنك الدولي؟ أيصعب عليهم توفير الغاز والكهرباء والماء. وماذا عن تحويلات المغتربين المصرفية التي تختفي داخل البنوك والصرافات؟ هل يعقل هذا؟

من جهة أخرى نرى الناس تموت من هجمات فيروس كورونا المتحوّر. نجد العديد من الأسر تنتحب لأنها فقدت خيرة فلذات أكبادها. نعم، فقدنا كلّنا أحبابًا من أهلنا وأعز الناس إلينا. لم يترك شبح الموت الكورونيّ حتى أولئك الأصدقاء الذين كانوا في ريعان شبابهم يرفلون، تملأهم البشاشة والحيوية والنضار، وفجأة صاروا كالمحنطين وقد غاب عنهم في لحظات عجاف شهيق الحياة وزفيرها، حملتهم أسرهم قبل أن يرحلوا إلى المستشفيات والمراكز الطبية ساعية مستنجدة ومستجيرة حيث صدمها الأمر الواقع حيث تنعدم هناك ابسط مقومات التطبيب، يموتون بالمئات ونقول هذا قدر الله، ونعلّق أغلب الأحيان كل إخفاقاتنا على شمّاعة القدر، والقدر براء منّا، وكان الإنسان ظلوماً جهولا.

النهب وانعدام الأمن في المدن:

كثير من الناس لا يملكون المال لغرض العلاج فلا يتبقّى لهم ولذويهم إلا الموت والنزوح إلى القبر وهذا ما يحدث الآن في مدننا المترامية. وكم من آلاف مؤلفة قضت نحبها وما بدلت تبديلَا. وتأتي دونها فئة جديدة بنهج جديد، كما عاشته العاصمة هذه الأيّام، منهج السلب والنهب على عينك يا تاجر وفي وضح النهار. يتستّرون خلف أهداب الحيلة غاشّين الناس ليستحوذا على ممتلكاتهم، ومنهم من لا يخشى في نهبه البشر لومة لائم فيكسر زجاج السيارات، أو يتسلق حوائط المنازل، أو يهاجم بسلاح أبيض مراكز تحصيل إيرادات أيّ كانت وموضة اليوم هو التجمّع كعصبة لردع وتخويف الناس وبثّ الهلع بينهم. حكت لي سيدة مأساتها داخل إحدى الأسواق وأنها صرخت بكل ما تملك من قوى عندما تهجّم عليها إثنين بسلاح أبيض وكانت لحظتئذ تبتاع بعض الحاجيات لوجبة الغداء لأسرتها، وما كان منها إلا ناحت في محنتها تلك تنادي “يا أبو مروة … يا أهل الشهامة”، كانت وكأنها تنادي أطلالًا لا تسمع أو حجارة لا تفقه من قولها شيئًا. لماذا تغيّرت طباع البشر بهذه الصورة؟ لماذا لم يسارعوا في نجدتها؟ أيصعب على أحدهم أن يصرخ أو أن يجمع مجموعة أكبر لردع هذين السارقين؟ ومن الأساس من أين أتت كل هذه الكوارث؟ لماذا ازدادت هذه الآونة الانتهاكات والتفلتات الأمنيّة في العاصمة وخارجها وبهذه الكثافة؟ أين الشرطة من كل ذلك؟ هل فقدت مصداقيتها وهيبتها؟ أم أنّها مسخرة تنتظر عودة المقدسين من سكان سجن كوبر ليخبروها بما لها وما عليها؟ ومن باب النزاهة يجب أن نقول بكل احترام وتوقير، وهل نضع اللّوم على الشرطي الذي يتقاضى مرتبًا شهريًا لا يصل إلى أربعين دولارًا في الشهر؟ هذا الشرطيّ له أسرة وعليه التزامات وواجبات تجاه أبنائه، أيخاطر بحياته في متاهات الجريمة دون أن يجد الدعم والعدّة والعتاد من قبل رؤسائه؟ ولماذا يخاطر إذن وبعضهم في دأبهم القديم يعمهون؟   

جحيم العيش في أرض النيلين إلى متى؟

إن المتتبّع للمشهد العام في السودان لابد أن توقفه عدّة محطات: الضائقة المالية وانعدام أهم المواد التموينيّة الضروريّة، انعدام الغاز والبنزين والجازولين، انقطاع الكهرباء والمياه المتواتر وبعد كل هذا انعدام الأمن في كل أنحاء البلاد. صار الناس يقتلون بعضهم البعض من أجل هاتف جوال أو شنطة أو حتى لأتفه الأسباب، على سبيل المثال تخطي الدور في صف الرغيف (الخبز) أو في إحدى الصفوف الطويلة في بعض المحال أو في طلمبات الوقود.  يبدو المشهد وكأنّه خيالي أو سريالي ولا يمتّ للواقع بأيّ صلة لكنها الحقيقة العارية. يسيطر على المناخ العام غياب التخطيط وسوء التنفيذ وعدم المعرفة وافتقاد الأرضيات العلمية لكل المشاريع. نجد واقع المواطن اليومي يتمحور بين البحث عن الخبز، الغاز، البنزين، الحوالات المصرفية التي يرسلها الأهل من الخارج، انتظار وسائل المواصلات، البحث عن الدواء أو العلاج، أو في عيادات الأطباء التي صار أغلبها مقدسا بسبب تكاليفه الباهظة على المواطن البسيط. وإذا حسبنا في كل مرّة عدد الساعات التي يستهلكها المواطن بسبب الانتظار في كل هذا المجالات ناهيك عن الانتظار المرير في الدوائر الحكوميّة فسوف تخرج الفاتورة بالخسارة لجميع أهل السودان ولحكومته وخزينته المنهكة أوّله وآخره. فوق هذا يأتي انتظار من نوع جديد هو انتظار الكهرباء، هذه السيدة التي أضحت نادرة كالتبر، لعدد كبير من الساعات وربما لأيّام من أجل أداء بعض الواجبات، فالموظف(ة) والعامل(ة) والممرض(ة)، إلخ، لا يستطيع استخدام أدوات عمله وحتى ربّة المنزل قد تعجز عن أداء واجباتها على أكمل وجه، والباحثون والطلاب والتلاميذ بنفس القدر، فالكهرباء والماء هما الألف والياء في يوميات كل منزل ومعمل ومكتب في العالم. والأدهى من ذلك أن الناس تعودت حقيقة أن يستهان بأمرها وأن يُستخَفَّ بها، فلا أحد يأتي ليعتذر ولا مسؤول يتقدم أمام الكاميرات ليشرح الأمر أو يوضح لماذا كل هذه العثرات في أمر الماء والكهرباء؟ أهي تُعزى لإخفاقات فنيّة بحتة أم أن الأسباب ترجأ للخراب الآتي من عملاء الدولة العميقة التي اشترت وباعت في البلاد طوال الثلاثة عقود الماضية وهم يحاولون إرجاعها إلى نقطة الصفر عن طريق تكريه الناس في الحكومة الانتقالية أو بطرق تضييق عديدة وماكرة لا يتسع المجال لذكرها في سانحة هذا المقال. على أيّة حال نجد الناس في محنة هذه الجائحة وما أتى منها من انهيار اقتصادي ونفسيّ على حد سواء يلزمون الصبر ويتلحفون أثواب الجلد في كل الأمور فضلًا عن انقطاعات الكهرباء المتتالية التي لا يأتي يوم من أيّام الأسبوع وإلا كانت حلقة منه. والأيّام تتكاثف لتصبح أسابيع وشهور وسنين وعقود والحال لم يتغير. فمتى نعبر إلى أرض الميعاد يا حمدوك؟ وهل سنعبر … هذا سؤال المواطن البسيط؟

شهادة نائب رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم:

وعندما سألت نائب رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم الأستاذ عاصم البلال الطيب يقول: أسباب القطوعات كثيرة، منها أسباب موروثة ومنها أسباب فنيّة تتعلق بمحطات كهرباء لم تتلق صيانات من الدرجة الأولى ومنذ آماد بعيدة، ويضيف ما زلنا ندفع فاتورة المقاطعة الأمريكية وإدخال اسم السودان في لائحة الدول المصدرة للإرهاب. نحتاج لسنين عددا حتى تستقيم الحياة والمفروض أن تستقيم هذه الأخيرة باستقامة المشهد السياسيّ المعوجّ والمختلّ. وأزمة الكهرباء مرتبطة أيضًا بأزمة الوقود لأنّ بعض المحطّات تشتغل بالوقود الذي انعدم أو شحّ في الآونة الأخيرة. والتوليد المائيّ هو الأنسب والأرخص لكن الورثة مثقلة جدًّا والفترة الانتقاليّة تعتريها صعاب رهيبة تزامنت مع جائحة الكورونا والأزمات الاقتصاديّة العالميّة وهناك أسباب أخرى غنيّة عن التعريف وتتوزّع بين فنيّة وهو الغالب وسياسيّة، وكما نعيش هذه الحقبة الصراع حول سدّ النهضة وإيقاف إثيوبيا لمدّ السودان بالكهرباء حسب اتفاق مبرم لأشياء تخصّها، لكن يبدو لأسباب سياسيّة فيها محاولة ضغط على الحكومة السودانيّة، فتعدد الأسباب. من جهة أخرى حدوث ابتزاز في الكادر البشريّ في محاولة ابعاد الكادر القديم وقطعًا بينهم من يعلمون أسرار هذه المحطّات وربما يكون هذا سببًا من الأسباب. يبدو لي أن الأمر سيتفاقم وسيزداد السوء سوءًا وهذا قول أهل مكّة، لم يبشروا الناس خيرًا، وهذا نهج جديد، إذ كان المسؤول قديمًا يخدّر الناس، لكن هؤلاء الناس الجدد الآن لا يبشرون ويبدو أنّهم انتهجوا سياسة المكاشفة والمصارحة ويبدو أنّ المواطن قد استسلم تمامًا، فالضائقة لها أسباب عديدة ولا يمكن أن نقول إن هناك سببا واحدا أو سببًا محددا، ولا يوجد إنسان واحد لا يعاني من هذه الضائقة القاتلة، وانقطاع الكهرباء يأتي بالتزامن، فيوم يحدث الانقطاع بالصباح ومرّات أخرى أثناء ساعات الليل، فأنت مضطر أن تنظم حياتك على وتيرة هذه القطوعات وعلى هذه البرمجة. ففي الصحيفة عندما تكون الكهرباء مقطوعة في المساء لا نستطيع انجاز العمل قبل الساعة الثالثة أو الرابعة مساءًا. ونفقد بذلك وصول الصحيفة إلى الولايات الذي تسوقه عادة سيارة مخصصة للأمر، وسوق الصحيفة في الولايات في الوقت الحالي أكبر من العاصمة فالضرر يصير أكبر والله المستعان.   

الإنقاذ هو سبب الإفلاس المهنيّ والفنيّ والأخلاقيّ:

على أيّة حال من الأحوال إن حكومة الرئيس المخلوع مسؤولة في المقام الأول عن كل هذا التخلف الميداني في قطاع الكهرباء والمياه لأنها وبسبب دعمها للإرهاب في شتى أنحاء العالم والخوض في معارك مع حكومات الغرب لا سيما الحكومة الأمريكية، جلبت لأهل السودان مصيبة الانضمام إلى قائمة الدول الداعمة للإرهاب والذي تسبب في فصل السودان تماما عن العالم الخارجي ذلك في كل المجالات. فمنذ ثلاثة عقود يعيش أهل السودان محنة العزلة وانعدام التبادل التجاري والفني تمامًا وبالتالي تعثر توفير قطع الغيار المطلوبة والمستحقة في مواكبة وصيانة هذه المحطات التي وصلت الآن مرحلة فهي غير قادرة على “ترقيع الثقوب” كما كان يحدث بالماضي، لأنّ هذه المجالات تطوّرت في هذا الفترة التي غاب فيها السودان عن العالم ومن الصعب اللحاق بالركب، لأنّ الأمر يتطلّب المقدرات البشريّة، الماليّة والفنيّة التي يصعب لحكومة السودان الانتقاليّة في الوقت الحالي توفيرها.

فضلًا عن أنّ الذين يقبضون على صولجان الحكم والسلطة في كثير من القطاعات لا يزالون بعقليّة القرون الوسطى الإنقاذيّة، فهي تعمل دون لأي. ومن أمثلة هذه العقلية التي سالت فيها العديد من الأحبار في الآونة الأخيرة هو مطلب مدير الشرطة في غضون هذه الديموقراطية الهشّة التي نعيشها بالرجوع إلى قانون النظام العام البغيض والذي يقتضي محاكمة الفتيات ومراجعة ملابسهن في الطرقات العامة في أي لحظة وفي أي مكان، وأن يجلدن بالسياط إن خالفن تلك القوانين. هذا الرجل الذي يفترض أن يكون مهمومًا بقضايا المواطن وعلى قدر كبير من المسؤوليّة عزف وامتنع تمامًا عن التفكير أو حتى عن المشاركة في حلّ مشكلات الأمن العويصة التي تجابه البلاد لا سيما المتجسمة في التكاثر الخرافيّ للجنح الصغيرة في الطرقات إلى الانتهاكات الجسيمة المتمثّلة في الجرائم العظمى كجرائم النهب المسلح في وضح النهار.

صارت الشرطة تفكّر بصورة تطرفيّة تقليديّة عرفناها من قبل بكل أشكالها وتجلياتها، أقصد أنها تدوزن نفسها على مقام جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صارت حتى في بلدها الرسميّ نسيًا منسياً لأنّها لا تتوافق والمنظومة العالميّة لحقوق المرأة والإنسان على حد سواء. هل يعقل أن يركّز من أُمر بالحفاظ على أمن المواطن في قصر أو طول جلباب الفتيات؟! ما هذا الفكر العقيم؟! وهل بربّكم يمكن أن نرجوا أملًا من مثل هذه العقول التي لا تفكر ولم تعرف منذ أن حطّ الإنقاذ دستوره وأحكمه بقلوبها منهج الفطرة والعقل السليم ناهيك عن الذوق والحكمة والتدبر. فالمشكلة الحقيقيّة ليست في التربية التي سُلقوا عليها وشربوا عصارتها فعلمتهم وأتمتتهم على كل ما هو فكر رجعيّ قرووسطيّ، سواء بين صفوف الجيش، الشرطة أو الدعم السريع الخ، لكن المعضلة الكبرى تتمثل في طريقة التفكير التي تتناسب مع حياة القرون الوسطى وعصر الظلمات والتخلف والرجعيّة. وفي كل دول العالم الثالث التي لم تر فيه النخب أو تحسّ بالحريّة والديموقراطية كما ينبغي، يمكن لهذا المكوّن العسكري بكل تجلياته أن يسيطر عليها، يبتزها، يسخرها لخدمته، يرهبها ويرعبها فكريًّا وأخلاقيًا ويحدّ من حراكها ودأبها في كسر القيود ودفن التابوهات ودحض نظريات تقييد الشعوب وضبط حركتها بسياط الرعونة والتعصب بكل أنواعه ومنعها في استشراف مستقبل بهيّ قويم صافي من كل هذه الأزمات المتأصلة في الفكر الظلاميّ لكل الأنظمة العسكريّة والديكتاتوريّة. متى يحين الوقت أن نُعمِل عقولنا لنغير من مأساة الحياة وجحيمها ونهزم هذا الاستعمار الفكريّ البغيض الذي عشّش على قلوبنا وأنفسنا وصار واقعًا ملموسًا، صار دين الإنقاذ وحياته تحرّك كل سبل الحياة في يومنا، فمتى يا سادتي نخلع هذا الثوب البالي لنرتدي ثوب الحضارة والاستنارة حتى نخرج بأهلنا وبلدنا إلى بر الأمان، فهل تتركنا قوى الرجعية من العبور إلى مستقبل ينتظرنا؟!

العبور إلى أرض الميعاد … متى؟

لقد تكاثرت وتكاثفت وتشعّبت مشاكل السودان وهي رغم انتصار ثورة ديسمبر المجيدة قبيل عامين في ازدياد مضطرد ولن تتوقف أو تقل بهذه السهولة لأنها ترتكز ومنذ عقود طوال على أرضيات ل “لا سياسات” كثيرة خاطئة ومتخبطة لم تراع أبدًا مصلحة البشر أو المصلحة الوطنية عمومًا، لذلك ينبغي علينا أن نعيد النظر الشامل والكامل في طريقة الخروج من هذا المأزق المزمن حتى “نعبر” وتكون بذلك القولة التي عُرفت على لسان رئيس وزراء الفترة الانتقالية معبّرة وصادقة وتفي بمضمونها السميائيّ الذي أراده لها منذ أول وهلة. إن الخروج من هذه الدوامة لن يتحقّق إلا إذا رسمنا بحكمة وعن دراية وعلم ونكران ذات منهاجًا متقناً معاصرًا للبناء المستدام والكليّ يتماشى وهوية البلد ومن خلاله يمكن خلق وسائل وآليات عصرية فاعلة في وضع، رصد، متابعة وتأمين الخطط قصيرة وطويلة المدى في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، حتى  يُكتب لهذه  المنهاجية التوفيق والسداد في تطبيق وتحقيق التكامل على أرض الواقع بين الحقول المختلفة بديناميكيّة وفاعليّة عالية وأن يكون الهدف المرصود هو في الأول والآخر مصلحة الوطن والمواطن، لا المصالح الشخصية والمطامع الحزبية والإثنية من جمع الذهب وبناء المصانع لبعض القوى أو الاستفراد بالسلطة في الخفاء والعلن. هذا يعني بكل بساطة وشفافية تحسين مستوى المعيشة للمواطن البسيط في بيئة معافاة وصحية بكل المقاييس العصرية وبكل أنحاء البلاد ومن ثمّة إنفاذ طموحاته الكثيرة التي طال انتظاره لها من مسكن آمن وأمن مستدام واستقرار ورفاهية حقّة بعيدًا عن نزاعات قبلية وإثنيّة طحنت طاقات البلاد ورمت بالوطن في مهالك الظلام. فكفى ثم كفى فالوقت كالسيف، ولا بد لنا أن نسنّ سيوفنا لتحديات هذه الحقبة وإلا راحت الثورة وما حققته من نجاحات هباء الريح. وعلى كل الأحزاب والحركات والقوى السياسيّة أن تضع الوطن في المقام الأوّل لأنّه الهدف والمرام الذي يعمل من أجله الجميع.

سودان السلام بين الأمم:

منذ أن جاء رئيس الوزراء حمدوك ورغم كل العثرات والمرارات وشظف العيش وبالرغم من التوقعات والآمال التي حطّها عليه الشعب فهو قد عمل بكل مصداقية وروح عالية لتذليل الصعاب الموروثة في العبور من الهاوية التي خلقها له نظام الإنقاذ البائد إلى سبيل الأسرة العالمية متعاملًا بالتي هي أحسن. لقد عمل وطاقمه رغم كل التحديات والاخفاقات هنا وهناك في شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، سدد متأخرات ديون السودان للبنك الدولي التي بلغت قيمتها ملياريّ دولار بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية مما مكنه العودة بالبلاد إلى منظومة المالية العالميّة ويكون بذلك قد فتح بحكمته وعمله الدؤوب قنوات مهمة للغاية قد أوصدت أبوابها خلال الثلاث عقود المنصرمة. عاد السودان كدولة ذات سيادة بين الأمم وفي المحافل الدوليّة واجمعت العديد من الدول عبر مؤتمراتها لتؤكد دعمها لخط سيره الجديد، نابذًا للعنف، مؤلفًا بين قلوب البشر، داعمًا لمسيرة السلام، محتضنًا قضايا الهامش ومؤكدًا على بناء دولة عادلة لكل فرد من أفراد شعبه بكل تبايناتهم الإثنية والعرقيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق